أيام في أثينا (٣)
لاحظنا منذ يوم الاثنين (أول أغسطس) حركة في المدينة غير مألوفة؛ التجار يرفعون الأعلام على واجهات مخازنهم، والشوارع تزخر بالألوف من «الشباب الوطني»، وهم صنف من التشكيلات الحديثة لم أعرف حدود عمله، يسيرون جماعات تتقدمهم الطبول والأعلام.
ثم أشكال وألوان من أهالي القرى والمقاطعات الداخلية في أزيائهم الوطنية من رجال ونساء، وطوائف من الكشافات بين صبيان وبنات.
وعمال يزينون الشوارع بالأزهار ويلصقون على الجدران صورة الرئيس متكساس، ورسم شعلة كتب تحتها «زيتو متكساس»، وأخرى عليها صورة رمزية كتب تحتها: «٤ أغسطس سنة ١٩٣٦–٤ أغسطس سنة ١٩٣٨»، وغيرها عليها صورة جنود بالزي الحديث والزي القديم كتب تحتها «سنة ١٨٣٨–١٩٣٨».
حركة القائد ماتكساس
فسألت عن سر هذه الحركة.
فقيل لي: هي حركة الاحتفال بالعيد الوطني.
قلت: زيدوني من فضلكم.
قالوا: عيد الإنقاذ.
قلت: لا بد من إيضاح وتفصيل.
قالوا: في ١٩٣٦ عمت الفوضى البلاد كلها وساءت حالة الحكومة بتطاحن الأحزاب، وأشرفنا على خراب مالي وحرب أهلية مثل الحرب الحاضرة في إسبانيا.
وهنا نهض القائد الوطني المقدام جان متكساس وحضر إلى أثينا (يوم ٤ أغسطس سنة ١٩٣٦) على رأس قوة من الجيش، وطلب من جلالة الملك أن يعاونه على إنقاذ الموقف بوقف الحياة الدستورية والاكتفاء بمجلس وزراء، فنزل الملك على إرادة القائد وولاه رياسة الوزارة.
وشرع الرئيس ماتكساس في تطهير الحكومة من أقذار الماضي وانتشال البلاد من هُوَّة الدمار، فكان له ما أراد.
ماذا فعل ماتكساس؟
وقد طبعت كراسة باللغة الفرنسوية تضمنت بيان أعمال الحكومة الجديدة في السنتين، حصلت على نسخة منها، وقرأت خلاصة لها في صحيفة «المساجيه داتين» ذكرت هذه الأعمال وآثارها في الدفاع الوطني، وموقف اليونان الدولي وحماية النقد والمالية العامة والنظام الإداري والأشغال العامة، وترقية الزراعة والصناعة والتجارة والنقل البحري، وتنشيط حركة السياحة وحماية العمال والقضاء والإصلاح الاجتماعي والتربية الوطنية والآداب والفنون.
وسألت: هل الكل راضون عن الحالة الحاضرة؟
فعلمت أن هناك معارضين وإلى جانبهم جماعات من المحايدين والحذرين الذين لا يقوون على الإباحة بما يُكِنُّونه من عداء للحكومة التي غلَّت أيديهم، وحالت دون انتفاعهم من الفوضى القديمة.
لجنة الاحتفال بعيد الإنقاذ
قالوا: وقد تألفت لجنة وطنية للاحتفال بمرور سنتين على هذه الإصلاحات، ودعي إليها نحو ١٠٠ ألف من أهالي الداخلية للاشتراك في العيد الوطني وهم بملابس الكشافة والشباب الوطني والأزياء الوطنية الأهلية القديمة، وقد دفعت لهم الحكومة أجور السفر بسكك الحديد والأتوبيسات والسفن من بلادهم والعودة إليها وأنزلتهم ضيوفًا عليها أثناء إقامتهم بالعاصمة. وستكون الحفلة الكبرى في «الاستاد» يوم الخميس ٤ أغسطس وحضورها بتذاكر خاصة، وتسبقها حفلة تجريبية يوم الأربعاء.
مظاهر المدنية في العيد
وكانت فرصة بلا موعد أو انتظار، وزينة شعبية لم نكن نتوقعها أو نحسب لها حسابًا.
فقد بدت الشوارع الرئيسية كلها وفي مقدمتها شارع الاستاد وشارع الجامعة وميادين الدستور والكونكرد وأومونيا تختال في أبهى حلة من عقود الأنوار بين أزرق وأبيض، والأعلام الخافقة في كل مكان، وإطارات الزهر معلقة على النوافذ والشرفات ومالئة فترينات المخازن.
وأمام كل مطعم وكل فندق عشرات الموائد مبسوطة لأولئك المدعوين من أهل الريف اليوناني، يقدم إليهم عليها الطعام الشهي وخمر الأتيك الصافي العتيق، ثم يذهبون إلى حفلات ساهرة خاصة يقيمها هذا وذاك لأبناء بلده.
ما هو استاد أتيكوس العظيم؟
و«الاستاد» الذي تقام فيه الحفلة الكبرى، هو ذاك الملعب المدرج العظيم القديم، الذي دعا إلى إنشائه ليكورغس الخطيب السياسي اليوناني سنة ٣٣٠ قبل الميلاد؛ ليكون ميدانًا للألعاب الرياضية.
وقام بتشييده هيرود أتيكوس السري في عهد الإمبراطور ماركوس أوريليوس سنة ١٤٠ للميلاد، وقدر اليونان عمل أتيكوس، فدفنوه في أرض الملعب.
وظل الاستاد ميدانًا للألعاب الأولمبية إلى أن أبطلها الإمبراطور تيودوسيوس الثاني سنة ٣٩٥ للميلاد.
ثم استولى الأتراك على بلاد اليونان فحولوا الملعب إلى «جيارة»، وأخذوا يحطمون مقاعده المشيدة من رخام بنتالي إلى جير.
ومرت القرون الطويلة، وعلت الأتربة مقاعد الاستاد وردمتها، حتى تخلصت اليونان من حكم الترك، وكانت سنة ١٨٥٠، فعهد الملك جورج الأول إلى المهندس الألماني جورج زيللر بالكشف عن الاستاد، فقام بالمهمة على أحسن حال.
وهنا تجلت نخوة المسيو جورج أفيروف التاجر اليوناني السَّرِي المعروف في مصر، فصرف عشرات الألوف من الجنيهات على إعادة الاستاد إلى ما كان عليه بتجديد المقاعد من رخام بنتالي وتعبيد الأرض وإصلاح المداخل والمماشي.
وتم الإصلاح والتعمير من سنة ١٨٩٦ إلى سنة ١٩٠٦.
وفي هذه السنة احتفل لأول مرة في الاستاد الجديد بالألعاب الأولمبية التي أصبحت عملًا دوليًّا يشترك فيه رياضيو العالم.
ويبلغ طول الملعب ٦٦٧ قدمًا، وعرضه ١١٠ أقدام، ومدرجاته ٦٠ درجة تَسَع ٦٠ ألف متفرج، وقد خصصت في صدرها مقاعد لولاة الأمر والسفراء، وأُقِيم على جانبيها تمثالان من الرخام لديونسيوس وهرمس، ونُصِب في المدخل تمثال للمرحوم جورج أفيروف.
الحفلة التجريبية في الاستاد
قالت الست نازلي: اسمع يا صحافي يا عجوز.
قلت: نعم يا ست هانم.
قالت: الأحسن أن نحضر الحفلة التجريبية، فهي دائمًا خير مثال للحفلة الرسمية، وصورة طبق الأصل لها.
قلت: الأمر أمرك.
وقصدنا الاستاد مساء يوم الأربعاء ٣ أغسطس، وانتفعنا بالطربوش المحترم، فلم يمانع الجنود في دخولنا.
وكانت الحفلة تحت رياسة محافظ أثينا خاصة بالشبيبة الوطنية.
واتصلت الست نازلي بمهندس تركي، والآنسة زينب بضابط يوناني، وأخرجت كل من السيدتين دفتر مذكراتهما (ويسميه الأرحبيون الكناشة)، وطفقتا تدونان ما يمليه عليهما الرجلان الخبيران عن الاستاد وهندسته وطوائف الراقصين وملابسهم.
وفي هذه الحفلة التجريبية شاهدنا المعجب المطرب من الرقص القديم على أنغام العود والصفارة وقرع الطبول.
وقضينا السهرة في ميدان الدستور، عارضين مواكب الشبيبة الوطنية والكشافات وفرق الرقص الوطنية، تسير جماعات بأعلامها وطبولها وزمورها.
في الحفلة الرسمية للعيد
وفي اليوم التالي تعرفت إلى الأستاذ محمد أمين صدقي بك، وكيل محكمة أسيوط، وكان نازلًا ونجله في فندق ميلاترون.
قال لي: لقد جلست معك قبل اليوم وكان واسطة التعارف صديقك وأستاذي المرحوم محمد السباعي، فترحمنا عليه وتحدثنا عن فضائله وأخلاقه وآثاره الأدبية التي نسيها الناس، ويفكر زميله وصديقه الأستاذ المازني في تسجيلها في كتاب يجمع سيرته ومقتطفات من نثره ونظمه.
وبعد الغداء والقيلولة ركبنا تكسًا إلى الاستاد، وكان اللف والبرم والسير من شارع والمنع من المرور في آخر تبعًا لأوامر البوليس، حتى نزلنا في نقطة تبعد عن الملعب نحو نصف كيلومتر قطعناها راجلين.
وكان لكل منا تذكرة من نوع خاص، فافترقت عن الأستاذ صدقي بك ونجله الأديب.
وكان مقعدي في القسم الخاص برئيس الدولة وكبار رجال الحكومة والجيش ورؤساء الدين والسلك السياسي الأجنبي.
وبدأت الحفلة بظهور فرق من كشافة البنين والبنات واصطفافهم طوابير لتحية العلم.
وعقبتهم فرق من البنات بعضهن في ملابس زرقاء وبيضاء (وهما لون العلم اليوناني)، وقمن بحركات مختلفة بتقاذف الكرات وتحريك طارات خشبية.
ثم جاءت مواكب المزارعين والعمال، وكان كل فريق منهم يقف أمام مقعد الرئيس ماتكساس، ويقدمون إليه منتجاتهم من خبز وفاكهة ومقاني وغلال، فيتقبلها بيده شاكرًا.
وعقبتهم جماعات الراقصين، فرقصت كل جماعة رقصها الفني في حلقة أمام الرئيس، ثم انتقلت إلى حلقة أخرى، ولم تنقض نصف ساعة حتى امتلأت الحلقات كلها بالراقصين والراقصات في ملابسهم الوطنية القديمة، وأعقبوا الرقص بمواكب طافت بأرجاء الميدان.
وختمت الحفلة بالنشيد الوطني.
وانقضت ليلة الجمعة، ونهار الجمعة بطوله والمدينة غاصَّة بمواكب الراقصين ووفود الأقاليم والشباب الوطني، يسير بعضهم راجلين والبعض في الترامويات وعربات اللوري المزدانة بالأعلام والزهور.
وظهرت الجرائد وفيها وصف الحفلة العامة وصورها وتفصيلات المآدب والحفلات وخطب رئيس الحكومة ورسالته إلى الأمة، وفيها يشكر الله والملك والشعب على تأييدهم له في إنقاذ الأمة، ويؤكد للجميع أنه باذل جهده في المحافظة على الحالة الحاضرة لسلام البلاد والعمل لرفاهها في الداخل وفي الخارج.