أيام في أثينا (٤)
ودعتُ السيدتين في الساعة الرابعة بعد ظهر يوم السبت ٦ أغسطس.
وكنت على موعد مع الأستاذ العمروسي، فجاءني على سيارته الأنيقة يصحبه الطالب الأديب الشحات أيوب أفندي خريج كلية الآداب بالجامعة المصرية في قسم الآداب.
مصري يدرس أدب اليونان وتاريخهم
وقد تخصص أيوب أفندي لدراسة أدب اليونان وتاريخهم، وأُرسِل في بعثة إلى السوربون قضى فيها سبع سنوات، وجاء منذ أشهر إلى أثينا للدرس والبحث في المدرسة الفرنسوية للآثار اليونانية.
وقد أعد أطروحتين: الأولى عن مقاطعة اللايبوسي وتاريخها في القرن الرابع قبل الميلاد، والثانية عن تناجرا، وسيقدم الأطروحتين إلى السوربون في شهر أكتوبر القادم لنيل الدكتوراه.
من المدينة إلى الضواحي
وخرجنا في سيارة الأستاذ العمروسي، يقودها بمهارة وتؤدة، إلى الجامع التركي العتيق، وكان مُقْفَلًا، فاكتفينا بالطواف حوله والتطلُّع إلى قُبَّتِه، ودخلنا إلى السوق القديم ويقع في زقاق ضيق شبيه بخان الخليلي ولكنه أقل منه بضاعة، سواء من الملابس أو الحلي والأعلاق.
وانطلقنا من السوق إلى حدائق زابيون فزُرْنَا أطلال الألمبيون وهو المعبد العظيم الذي قضى اليونانيون في تشييده قرونًا طويلة وتم إنشاؤه وتدشينه في عهد الإمبراطور أدريانوس. وكان فيه ١٠٨ أعمدة من الطراز الكورنتي يبلغ ارتفاع كل منها ٦٢ قدمًا، لم يبقَ قائمًا منها إلا ١٦ عمودًا، ويقول المؤرخون المعاصرون إن الأتراك قد دمروا المعبد وأعمدته أثناء احتلالهم أثينا.
ولم يكن هناك وقت لسماع تفصيل شائق أراد أن يلقيه علينا الأستاذ أيوب عن هذه الأحجار، فاكتفينا بالنظرة السريعة، وانطلق بنا الأستاذ العمروسي إلى منتزهات خلاندريون وبنتالي مجتازًا شارع فاسليس صوفيا العظيم.
وكُنَّا أينما سرنا نرى القصور والفيلات وبيوت الشعب والأندية والقهوات والمستشفيات والمصحات، حتى بلغنا بنتالي، وفيها كنيسة زرناها وشربنا الماء الصافي من نبعها، ثم استرحنا في قهوة قريبة منها.
عشوة مصرية بحرية
ومن سفح الجبل إلى شاطئ البحر عند فاليرون القديمة، مارين بدار الأستاذ يس مأمور القنصلية، فصحبنا إلى قهوة كريونيري (المياه المثلجة) الواقعة على لسان في البحر.
وكانت جلسة مصرية ممتعة، وأكلة سمك طيبة، على أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب، وقد أدار صاحب القهوة أقراصها على الفنوغراف، وأعادني الأساتذة إلى الفندق في منتصف الليل على أن نتقابل ظهر يوم الاثنين التالي.
في متحف بناكي
وخصصت صبيحة يوم الأحد لزيارة متحف بناكي وآثار الأكروبول، وما يتصل بها.
و«متحف بناكي» منشأة حديثة عني بإقامتها المسيو بناكي التاجر اليوناني العظيم المعروف في مصر، وأودعها كل ما جمعه من التحف العظيمة في مصر، وساعده غيره من الأثرياء الذين لم تلههم البورصة والأقطان والتجارة عن المشاركة في الفنون الجميلة.
ويتألَّف متحف بناكي من دور تحت الأرض، ودورين علويين. ويشتمل على منتخبات قيمة من الفن البيزنطي فيها قطع كنسية من صور وملابس ومباخر وصلبان، ومجموعة من الآثار الإسلامية منها قاعة ذات نافورة من الرخام الملون وصور وفضيات ومنجور وباب كامل من صناعة بغداد، ومجموعة من الأسلحة القديمة أكثرها يوناني، وحلي ومجوهرات يونانية ورومانية ومصرية وبيزنطية وعربية، وأوانٍ صينية ومنسوجات مختلفة، وأكبر مجموعة من الملابس اليونانية الأهلية، وقطع عديدة من النسيج القبطي، أفخر وأكثر مما لدى سعادة مرقس سميكة باشا في المتحف القبطي … إلخ.
وعند خروجي من المتحف، ودَّعني الحارس بالعربية وقال لي إنه كان من جارسونات بار الأوبلسك لصاحبه اسبيرو جاسبر ناتوس في وجه البركة، فتحدثنا عن الأزبكية وعصرها الزاهي القديم.
وأركبني تاكسًا أقلتني إلى قمة الأكروبول، الأثر الفني الخالد، الذي لا يصح أن يزور أحد أثينا ولا يحج إليه.
وإذا كان هذا الأكروبول لا يساوي معابد الأقصر وأسوان وغيرها من آثار مصر، فإن له في عالم الفن القديم مقامه.
كان قلعة وحصنًا، وكان قصرًا للملوك، وكان معبدًا للآلهة.
وقد اشتغل بتشييده ونقشِه كبار المهندسين والحفَّارين وسادة المعمار القديم، وهدمه الفرس وحطموا جدرانه وأعمدته، ثم أصلحها اليونان. ولا تزال بقاياها دالَّة على العظمة والجبروت والفخامة والضخامة التي امتازت بها معابد اليونان القديمة.
وقد أنشئ إلى جانب الأكروبول متحف خاص به، رتبت فيه قطع مختلفة من التماثيل التي وجدت في الأكروبول، وخصصت قاعة للتماثيل النسائية.
ومن الأكروبول نزلت إلى أوديون أيتكوس وتياترو ديونيسوس.
الأوديون وتياترو ديونيسوس
والأوديون ملعب بناه السري هيرود أتيكوس ذكرى لزوجته أرجيلا، وأعده لحفلات الغناء والتمثيل الدرامي، ولا يزالون حتى اليوم يحيون فيه سهرات فنية.
وتياترو ديونيسوس، من أكبر المراسح اليونانية، كانت تمثل فيه روايات كبار المؤلفين اليونان أخيلوس وسوفكلس وأوربيدوس وأريستوفان، وتسع مدرجاته ١٥ ألفًا من النظارة. وقد أحدث الرومان فيه تغييرات عدة. ولا تزال المقاعد الخاصة بولاة الأمر حافظة شكلها، وفي أعلى المرسح مغارة حوِّلت إلى كنيسة باسم السيدة العذراء.
وعدت إلى الفندق متعبًا فتغديت، ولم أستيقظ إلا غروبًا، فذهبت لاستنشاق النسيم على ساحل البحر في الفالير الجديد.