الأيام الأولى في روما
غادرت نابولي يوم الأحد ١٤ أغسطس الساعة الثامنة صباحًا، فوصلت إلى روما بعد نحو ثلاث ساعات.
وبإرشاد شركة السياحة الإيطالية، قصدت بانسيون ميلتون.
بانسيون ميلتون وما يحيط به
واسم هذا البانسيون يجذب إليه السياح الإنكليز والأمريكيين الذين يقدرون الشاعر الإنكليزي الأعمى، ويحفظون قصيدته الخالدة «الفردوس المفقود».
أما عامة المصريين وخاصتهم فإنهم يذكرون اسم ميلتون الجراح وأستاذ الجراحة الشهير في قصر العيني.
وبانسيون ميلتون واقع وسط البلد إلى جانب بوابة بنشيانا، وهو يطل من ناحية على حدائق بورجبزي ورياضها التي تضم متحف الفن الحديث ومعاهد الفنون الأجنبية وكازينو الورد، وغياض جوليا حتى الجبل، ويشرف من الناحية الثانية على شارع فينتو العظيم، أكبر شوارع روما وأحدثها وأحفلها بالفنادق الفخمة والقهوات العامرة بالزبائن من الطبقة العليا سواء من الإيطاليين والأجانب.
تاجر مصري مهذب
وكان من محاسن الصدف أن لقيت في البانسيون التاجر الوجيه حسن السلالي، وهو مصري أوروبي النشأة، تلقى علومه الابتدائية والثانوية في المدارس الإيطالية بالإسكندرية، وعفَّ عن الوظائف واشتغل بالتجارة، ونال ما تمنى من نجاح مالي بنشاطه وجِدِّه واتصاله بأصحاب المصانع الكبرى في أوروبا.
حلو الحديث، خبير بصناعته، يتمثل بأقوال حكماء الغرب وأدبائه من دانتي إلى كاردوتشي، ويتألم لأنه لا يجد حتى الساعة الشبان الأكْفَاء من خريجي مدارس التجارة المصرية ليعملوا معه.
لفة صغيرة في المدينة
ولم يكد الأستاذ السلالي يعرفني ساعة وصولي، حتى استدعى ابن عمه صديقي بسيوني السلالي أفندي كبير الحُجَّاب في المفوضية المصرية المعروف بهمته وخدمته للمصريين الذين يقدِمون إلى روما مرورًا أو إقامة لزمن ما.
فحضر على عجَل وصحبني إلى المفوضية فتسلمت كتابًا من صديق لي في ألمانيا، ثم عرجنا على بيت السلالي فتناولت القهوة واطلعت على صور فتوغرافية لحفلة أقامها رب البيت فرحًا بزواج حضرة صاحب الجلالة الملك. وعزفت ابنته سميرة وعمرها ثماني سنوات ونصف قطعًا شجية على البيانو منها نشيد الملك فؤاد من وضع المرحومة ماتيلدة عبد المسيح.
ثم قصدنا دار السنيور كالي حمي الصديق الأستاذ راغب عياد، وسألت عن الأستاذ، فعلمت أنه والسيدة زوجه خارج روما.
وعدت إلى البانسيون متأخرًا، فوجدت طعام العشاء كاملًا في غرفة النوم.
وأصبحت يوم الاثنين، فإذا الأعمال معطلة والمخازن مقفلة، احتفالًا بعيد الصعود، فكانت راحة إجبارية بين نوم وجلسات في قهوات شارع فينتو العظيم.
السؤال عن رهبان الموارنة في روما
وكنت أحمل من أستاذي الجليل الشيخ يوسف الخازن عنوان سيادة الأباتي مارتينوس طربية ليرشدني إلى سيادة الأباتي يوسف الخازن. وأحمل منه كذلك كتابين للزميلين المسيو فوشيه مكاتب «الأهرام»، والزميل الأستاذ يحيى شريف اللبابيدي مكاتب الصحف السورية في روما.
وسألت السيدة وكيلة البانسيون عن مقر سيادة الأباتي طربية فقالت إنها لا تعرفه، وأرشدتني إلى بواب عمارة البانسيون قائلة: إن هذه العمارة ملك الرهبان الموارنة وفيها دير لهم، ولكنهم الآن غائبون في مصيفهم، وعند البواب عنوان هذا المصيف والتعريف بطريق الوصول إليه.
وقابلت البواب المحترم، فأبدى لي أسفه لغياب الرهبان الموارنة كلهم خارج روما.
زيارة شماس لبناني مثقف
وحدث في اليوم التالي أنني كنت داخلًا إلى البانسيون ظهرًا، فرأيت راهبًا على الباب فسألته هل هو موارني؟
فأجاب: نعم، ومين تكون حضرتك؟
قلت: الصحافي العجوز محرر هامش الأهرام.
أجاب: أهلًا وسهلًا، وماذا ترغب حضرتك؟
قلت: جلسة صغيرة معك بعد الظهر.
أجاب: فليكن ما تريد.
وفي الساعة الثانية بعد الظهر كنت مع الراهب في صومعته، وهي غرفة ساذجة تحتوي على السرير الحديدي وخزانة الملابس ورفوف الكتب ومائدة وكرسيين من الخشب ومغسل.
وبدأنا حديثنا بأن سألته عن الاسم الكريم أجاب بلغته اللبنانية العذبة: داعيكم الشماس ميشيل خليفة من البترون، وقد تخرجت في كلية الآباء اليسوعيين ببيروت وحصلت منها على البكالوريا العربية والفرنسية، ثم رغبت في دراسة الفلسفة واللاهوت فجئت إلى روما ونلت ليسانس الفلسفة بعد درس ثلاث سنوات، وأشتغل الآن للحصول على الدكتوراه.
قال: وأنا مع ابتعادي عن أهل بلادي ولغتي فإنني شغوف بالعربية، فتجد بين كتبي الإيطالية كليلة ودمنة ومنتخبات الأغاني والروائع وشرح الألفية.
وطفق يحدثني عن محبته لمصر والمصريين وشغفه بالشرب من مياه النيل وزيارة آثار الفراعنة.
واعتذر عن تقديم القهوة بغياب الخادم، وأبدلها بطبق من القاوون الشهي.
أملاك الموارنة ومعاهدهم في روما
قلت: هل صحيح أن هذه العمارة ملك لكم؟
قال: نعم يا سيدي، فقد كان لطائفتنا مدرسة في روما منذ القرن السابع عشر، فلما غزا نابليون إيطاليا وضع يده على هذه المدرسة وبعثر ما كان في خزائنها من مخطوطات ثمينة قَيِّمَة، ثم دخلت المدرسة في أملاك الحكومة الإيطالية وطال زمن مطالبتنا بثمنها إلى أن دُفِع إلينا.
وعُنِي سيادة البطريرك الحويك منذ كان مطرانًا بإعادة المدرسة، فجمع إعانات من هنا وهناك ضمَّها إلى ثمن المدرسة القديمة واشترى هذه العمارة ووسَّعها وجعلها مأوًى للطلبة الموارنة الذين يحضرون إلى روما للدرس والتحصيل، ويسكنها الآن ١٢ طالبًا للفلسفة واللاهوت يدرسون كلهم في الكلية الغريغورية التي تضم ٢٣٠٠ طالب من جميع أنحاء العالم.
ولطائفتنا أيضًا مركز للرهبنة الحلبية فيه ١٢ طالبًا، يتلقون العلم في مدرسة القديس يوحنا اللاطراني.
وللرهبنة الأنطونية ملك في جانيكولو يقيم فيه القس أبو جودة، ويسعى الآن لإحضار تلاميذ يقيمون معه لطلب العلم الديني.
ولبعثتنا مصيف في جنسانو على بعد ٢٠ كيلومترًا من روما تحيط به حدائق غناء، وكانت الحكومة قد وضعت يدها عليه فاستُرجع بهمة سيدنا البطريرك الحويك، وسيادة المطران شديد رئيس البعثة وصاحب الفضل في إنشاء الدار وتجديد المصيف ورعاية الطلبة.
وللرهبنة الحلبية مصيف في ششليانو، حيث الأرض الجرداء والصخور الصَّمَّاء التي تذكر رهباننا بجرود لبنان.
ساعات مع الآباء الموارنة المحترمين
وفي خلال الحديث خاطب بالتليفون سيادة الأباتي مرتيفوس طربية، وأبلغه رغبتي في التشرف بمقابلته، فحضر بعد ساعة حيث كنت في انتظاره بقاعة الفندق.
وقبَّلت يده وأبلغته سلام شيخي الخازن، وتحدَّثنا عن مصر وسياستها، ثم أطلعته على كتاب أحمله من سيادة المنسنيور مرقس خزام إلى الكاردينال تسيران ليسهل لي زيارة الفاتيكان، فقال إن نيافة الكاردينال غائب عن روما والبركة في أبونا الخازن، فهو لك خير مرشد ودليل.
وركبت الترام مع الأب المحترم إلى بيت الأباتي الخازن على مقربة من الكولسيوم.
والأباتي يوسف الخازن يقيم في المدينة المقدسة لأربعين سنة خلت، ووجدنا عنده الأباتي يوسف الخوري العراموني الرئيس العام السابق للرهبنة الأنطوية.
ولم تكن الجلسة غريبة على الصحافي العجوز.
وتنقلنا في الكلام بين القديم والحديث وسير الناس، وأخصهم الأستاذ يوسف أصاف بك المحامي المعروف وصاحب جريدة المحاكم في مصر.
وتفضل الأباتي الخازني بأن يصحبني في اليوم التالي لزيارة الفاتيكان بعد أن يقوم بخدمة القداس.
ونزل معي سيادة الأباتي طربية حتى أوصلني إلى الترام.