مع الحاجة شنطة
«الحاجة شنطة» عروس جديدة، من الوزن الثقيل نوعًا، على الطراز الأمريكي، صنعها فأبدع صُنْعها الأستاذ عبد المنعم سيد، خريج مدرسة الفنون التطبيقية، ومحلُّه من الإعراب في شارع حمدي على ناصية ميدان فخري بالظاهر.
واتسعت جوانبها لحمل ما يكفي الصحافيَّ العجوز شهرًا ويَقِيه جشعَ الغسالات ودلعَ المكوجية.
من الباب إلى الباب
وناديت بالتليفون «مكتب من الباب إلى الباب»، فأتى مَن وَزَنَها، وبقدرة قادر حملها من البيت إلى المحطة، ومن المحطة إلى القطار حتى الإسكندرية، وسلَّمها إلى بواب العمارة التي تحتوي على مكتب الصديق العزيز الأستاذ محمد عبد اللطيف المحامي.
وأشفق عليها البواب من ركوب الأسانسور، فاحتفظ بها تحت حَنِيَّة السُّلَّم إلى أن احتلَّت سيارة الأستاذ عبد اللطيف إلى رصيف المينا.
وكان الزميل الأستاذ محمود إبراهيم، صاحب الإكسبريس، قد أخافني من الزحام وقلة عدد العمال في مكتب الباسبورت ولخمتهم في التأشير.
ولكنني لم أجد من ذلك شيئًا بالمرة.
وربما كان الفضل في ذلك للزميل ورسائله في المقطم والبصير والصباح، فزِيدَ عددُ الموظفين لتسهيل التأشير والمرور على أهون سبيل.
وودَّعت الأستاذ عبد اللطيف على سُلَّم الباخرة «داسيا» شاكرًا له حفاوته وضيافته وأدبه.
على الباخرة داسيا
للمرة الأولى أركب إحدى بواخر الشركة الرومانية.
وكنت قد حاولت ذلك سنة ١٩٣٤ لرحلة مع الزميل العزيز المرحوم أحمد فؤاد صاحب الصاعقة إلى بلاد اليونان، ولكنه عدل في آخِر يوم، فقضينا الصيفَ في الإسكندرية معًا وفي غرفة واحدة في «الأوتيل ريش».
وسألت الصديق العزيز الأستاذ بركات بركات: هل تعرف الباخرة «داسيا»؟ قال: أُمَّال (بضم فتشديد)، وابور عال صغير محندق! دا لعبة! دا فايتون!
أما أنه صغير ومحندق، فكلام في محله.
ولكن هل يصدِّق أحدُ زبائن السفر إلى أوروبا أن كابينات الدرجة الأولى في باخرة كبيرة ذات ثلاثة أَسِرَّة وأربعة أَسِرَّة، وليس في هذه الدرجة إلا حمَّام واحد، والماء قليل في غرف النوم ودورات المياه؟
مع تاجر أديب
وأرشدوني إلى الكابينة الخاصة بي فوجدتها بها ثلاثة أَسِرَّة وضيفًا واحدًا تعرَّفتُ إليه، فإذا به تاجر شاب من أهالي طرابلس الشام اسمه «أدمون سعد»، وذكر لي أنه يتصل بالأدب عن طريق بعض أقاربه ومنهم جورجي يني صاحب مجلة «المباحث»، وديمتري خلاط بك، وآل نوفل ومنهم السيدة هند نوفل دبانة؛ أول سيدة شرقية أسَّست مجلة عربية.
وخشيت أن يكون مصابًا بداء الشعر والسياسة، فأقفلت عليه البابَ بسؤاله عن عمله التجاري والأصناف التي يشتغل بها، ومن أين هو آتٍ، فحكى لي خبر رحلته إلى بلجيكا وهولانده وفرنسا وإيطاليا وغيرها من بلاد أوروبا.
الأكل في الباخرة
وكان التعب آخِذًا مني، فنمت ساعتين، وأيقظني الزميل مسعد لتناول غداء لم يكن لنا فيه حق، فقيَّدوا علينا الثمن وهو ٢١ قرشًا.
والطعام بلقاني الطبخ، كثير الأفاويه، طيِّب النكهة، أحسَنَ وصْفَه صاحبُ السمو الملكي الأمير محمد علي توفيق في كتابه «رحلة البوسنة والهرسك»، وهي أولى رحلاته المطبوعة لخمسٍ وثلاثين سنة خلَت.
إلى بيروت رأسًا
وكان البحر هائجًا مُزبِدًا، فقضى أغلب الركاب وقتَهم نومًا.
وكنت أظن أن الباخرة سَتَرْسُو في بورسعيد، ولكني علمت من الأستاذ مسعد أنها تقف في تل أفيف أو «عفيف» وحيفا.
قلت: وهل يمكن النزول لزيارة المدينتين أو إحداهما؟
قال: يجوز، ولكني لا أحاول ذلك وأنصح لك أن تفعل مثلي، فالحالة خَطِرة، وقد تُصاب بقنبلة خطأ، وقد تُقتَل لشُبهة.
وأخرجت ما أحمل من صُحف يومية، ووجَّهت نظري إلى أخبار فلسطين، فصمَّمت على العمل برأي صاحبي.
وتناولنا الطعام وأُدِيرت علينا القهوة في صالون به بيانو وراديو.
وأبَتْ أصابعُ أحد الخدم أن تترك مفتاح الراديو وتقليبه من بلد إلى بلد، كأنه يسابق هيوز في الطواف حول الأرض.
وعبثًا حاولتُ وقْفَه عن عمله بإسماعنا شيئًا من محطة مصر أو فلسطين أو إستانبول، وانتهى الأمر بأن تركتُ له القاعةَ إلى سريري وقضينا اليومَ الثاني على أحسن حال؛ إذ هدأ هياج البحر.
بعض زملاء الرحلة
وبدأت المقابلة والتعارُف، فقابلتُ الصديقَ الأديب الأستاذ شحاتة عبيد والسيدة قرينته، وعددًا من الشبان روَّاد رحلات «الأهرام» في أولمبياد برلين ومعرض باريس.
وتعرَّفت إلى الدكتور أحمد فؤاد الأستاذ بمدرسة الطب البيطري، والأستاذ محمد حلمي الطوبجي وكيل النيابة في محكمة عابدين والآنسة شقيقته، والأستاذ محمد فهمي عز المدرِّس في معهد التربية، وبعض المدرِّسين في مدرسة البوليس.
وكانت محادثات شهية بعيدة عن السياسة والحزبية.
ورسَت الباخرة في تل عفيف خارج الرصيف ونزل منها كثيرون وصعد قليلون، واكتفينا بالنظر إلى المدينة ونحن على بُعد.
وهكذا كان الحال في حيفا، فقد وصلنا إليها عصر يوم الاثنين ١٨ يوليو فرأينا بها دارعة إنجليزية واقفة إلى جانب الرصيف.
وأنزلت «داسيا» ركَّابًا وبضائعَ واستقبلتْ مِثلَهم.
بين حيفا وبيروت
وقُبَيل الغروب خرجتْ من الميناء تخلُّصًا من الرسوم ووقفتْ في عُرْض البحر، وحلَّ الظلام فتجلَّت حيفا في سربال من الأنوار المختلفة من شاطئ البحر إلى قمة جبل الكرمل المشرف عليها.
وبعدت يدُ الجرسون عن الراديو، فأطربَتْنا محطة القدس بمقطوعات بديعة من الموسيقى والغناء.
وأمضينا الساعات الأولى من الليل في العشاء والمسامرات وسماع الموسيقى من محطات مختلفة ومشاهدة أنوار حيفا.
ونام أغلب الركب قبل أن تحركت الباخرة إلى بيروت.
ووصلنا إلى مرفأ بيروت في الساعة السابعة صباحًا.