في فلورنسا وفنيسيا
برحت روما في الساعة الثانية بعد ظهر يوم السبت ٢٠ أغسطس قاصدًا إلى فلورنسا. والمسافة بين البلدين بالقطار السريع أربع ساعات تامة. وفلورنسا مدينة الآثار والفنون، بل هي متحف كلها بما فيها من كنائس وأديار ومعارض دائمة ووقتية للصور والتماثيل، ناهيك بما في ساحاتها وشوارعها من أنصاب وآثار.
وفندق ماجستيك على بُعد خطوات من المحطة، وساحة فيكتور عمانوئيل ليست بعيدة عن الفندق، وفيها أكبر قهوات البلد وباراتها ومطاعمها وفنادقها، وفي أحدها جوقة موسيقية تعزف عصرًا وليلًا، فتمتلئ القهوة بالسماع ويقف إلى جانبهم مئات من الأهالي في هدوء وسكينة لتشنيف آذانهم بالأنغام الشجية.
بين الكاتدرائية والمتاحف
وكان العشاء والسهر ثم استيقظتُ مبكرًا، وقصدت إلى الكتدرائية لحضور القداس، فلم أجد غير المئات من ألمان وإنكليز وقف بعضهم أمام الواجهة الساحرة، وأخذ البعض يتجول في أنحاء الكنيسة ويصحب كل فريق منهم مرشد خبير يشرح لهم ما هنالك من دقائق فنية، فتجولتُ معهم.
ثم خرجت وسِرْتُ راجلًا إلى ميدان السنيوريا، وهو متحف في الشارع بوفرة ما فيه من التماثيل العظيمة.
ولا غرابة في أن يكون متحفًا وهو مدخل متحف من أشهر متاحف الصور والتماثيل في العالم، وأعني به متحف الأوفيشي الذي يتعب السائر في قطع دهاليزه وغرفه ويضل في جوانبه.
وقد نعمت بزيارة هذا المتحف غير مرة منذ سنة ١٩٢١، ولكنني لا أزال مغرمًا بالطواف فيه والإعجاب بما يحويه.
ومن الأوفيشي إلى الكوبري القديم الغريب بناؤه، وما على جانبيه من مخازن ودكاكين مشرِقة بما فيها من المصنوعات الفنية القديمة والحديثة، وما على مدخليه من باعة قطع الأنتيكة من خشب ورخام ونحاس.
ولكن عطلة الأحد حرمتني من هذه المشاهدة، إذ كانت المخازن مقفَلة والتجار في راحتهم الأسبوعية.
واجتزت الكوبري إلى متحف الفن الحديث ومتحف بيتي، وفيه صور قديمة وآثار مصرية ومجموعة من البرونز والصيني والأثاث الفني البديع.
وهكذا انقضى نصف النهار وسط تلك المعاهد التي لا نزال محرومين منها في بلادنا.
في مدينة فينسيا
ومن فلورنسا بالقطار السريع إلى فينسيا، المدينة الفريدة في العالم بأنها لا تدخلها سيارة ولا عربة ولا موتوسيكل، وتقوم فيها الجندولات بنقل الركاب والبضائع وسط الأقنية والروافد، فإذا أنت أردت أن تقطع المدينة راجلًا فأمامك الطرق والأزِقَّة المتلوية تسير على جانبي الماء وتجتازها فوق الكباري الصغيرة والكبيرة.
مناظر جديدة في فينسيا
والجندل أو الجندلة عنوان فينسيا لم يكن البلد يعرف غيرها، أما الآن فقد زاحمتها اللنشات الكهربائية التي تأنَّقُوا في صناعتها وفرشها بمقاعد الجلد الوثيرة للنقل في القنال الكبير وأطراف فينسيا وضواحيها بأجور زهيدة.
وهناك ظاهرة جديدة لاحظتها في المدينة، هي نشوء بعض عمارات حديثة من الطراز الساذج، أرجو ألَّا يكثر عددها حتى لا تتلف منظر العمارات القديمة ذات الجمال الفني الفتان والطابع الذي اشتهرت به بلد الدوجات والجنادل.
في ساحة القديس مرقس
وكانت الجلسة التي لا بد منها مساء في ساحة سان مارك أو القديس مرقس البشير الذي زرع مبادئ النصرانية في مصر وشمالي أفريقيا وقتله آباؤنا الوثنيون شر قتلة.
وقد طمع البنادقة في عظام الشهيد فاستلوها من مقبرته ووضعوها في لفافة دهنوها بشحم الخنزير ونقلوها من الإسكندرية إلى فينسيا، وبنوا لها الكتدرائية المعدودة من بدائع الفن البيزانطي في العالم.
وساحة القديس مرقس تحفل النهار بطوله بأسراب الحمام الأليف الذي يتناول الحبوب من أيدي الكبار والصغار بلا خوف ولا جزع.
وتحيط بالساحة البوائك العامرة بالقهوات والبارات وباعة الحلوى وتجار الصور والتحف الفنيسية، وأخصها الدنتلا والبلور، وتزدحم النهار بطوله بالألوف من أهالي البلد وجماعات السياح.
حفلة موسيقية في الساحة
فإذا ما غابت الشمس، أشرقت أنوار الكهرباء الساطعة وظهرت تلك الأندية الصغيرة بأجمل منظر من الموائد ذات الأغطية البيضاء المهفهفة والجلاس من الجنسين، وقد لبست الكثيرات من السيدات ملابس السهرة، والموسيقات هنا وهناك تشنف الآذان بأطيب الألحان.
ومن المصادفات الطيبة أنه أقيمت ليلة وصولي إلى مدينة قديسنا العظيم حفلة موسيقية عظيمة وسط الساحة، واشترك فيها نحو خمسين موسيقيًّا عزفوا أشهر الأوبرات ومنها أوتللو وفاوست.
مع الشاعر علي محمود طه
وفي ضحى اليوم التالي قابلني في الساحة الأستاذ المهندس الشاعر علي محمود طه.
قال: لقد وصلتُ أمس من مصر مع صديقك الأستاذ محمد عبد الله عنان.
قلت: وهل هذه أول مرة تأتي فيها إلى أوروبا؟
قال: نعم ولا، فقد زرت قبلًا بلاد اليونان، ولأول مرة أزور إيطاليا، وقد كفتني الساعات القليلة التي قضيتها في فينسيا أن أدرك ما وصل إليه القوم من تفنن وإبداع في التصوير والهندسة؛ فقد زرت كنيسة القديس وزرت قصر الدوجات، وتبينت أن هناك صلات فنية وثيقة بين الفن البيزنطي في الكنيسة والفن العربي في قصر الحمراء بالأندلس، وعند عودتي إلى مصر سأُعنى بدراسة الموضوع.
قلت: على أن يكون ذلك مصحوبًا بزيارة إستانبول وإجالة النظر في جامع أجيا صوفيا والتأمل في نقوشه التي كشف عنها أحد علماء الأمريكان.
ثم أرشدته إلى زيارة متحفي الفنون القديمة والحديثة في فينسيا، وصحبته إلى زيارة بعض أسواق المدينة.
وكان لا يعلم شيئًا عن المعرض البينالي واشتراك مصر فيه، فأبلغته خبره، واتفقت معه على زيارته بعد الظهر.