طرابلس قديمًا وحديثًا
أقمت في مدينة طرابلس خمسة أيام، وفي مدينة بني غازي يومين.
ولست أدَّعِي أن هذا الأسبوع قد كفاني لمعرفة لوبيا والإلمام بقديمها وحديثها.
نظرة تاريخية إلى لوبيا
ولهذه الجارة الشقيقة العزيزة تاريخ قديم يرجع إلى أيام الفنيقيين واليونان والرومان وعصور العرب والإسبان والأتراك.
وتاريخ حديث هو تاريخ الاستعمار الإيطالي منذ سنة ١٩١١ حتى اليوم.
وللقديم آثاره ومعالمه من هياكل ومسلات وأقواس نصر وجوامع ومساجد.
وللحديث عماراته ومنشآته من إصلاح في الزراعة وتنظيم للتعليم والتجارة وتعبيد للطرق، وأخصها الكورنيش العظيم الموصِّل من حدود مصر إلى آخر المغرب الأقصى.
وقد عنيت إدارة الصحافة في ديوان الحاكم العام بطبع مذكرات وافية عن هذه الشئون كلها باللغة الإيطالية، تقدمها بالمجان إلى كل من يريد التوسع واستقصاء حالة لوبيا في عهد الاستعمار الإيطالي.
وهناك كتب ورسائل، بين قصير وطويل، تفيد الراغبين في دراسة حالة البلاد جغرافيًّا وتاريخيًّا واقتصاديًّا.
وإذا كان الأسبوع لم يتَّسِع لهذه الدراسات؛ فإنني قد استفدت فيه وحصلت ما لا أصل إليه من المطالعة والرجوع إلى المطبوعات المختلفة.
حكاية ثانية للباسبورت
وكان للباسبورت حديث في المطار.
قال عامل الجمرك: ليس لديك فيزة بالدخول إلى طرابلس.
قلت: إني مصري، وأدخل إلى إيطاليا بدون فيزة، وطرابلس جزء من إيطاليا، وقد أبلغوني في وزارة ثقافة الشعب في روما أنه لا لزوم للفيزة.
قال: هذه الأمور لا تخصني ولا يمكنني أن أبت فيها، فأنا أسمح لك بالدخول إلى المدينة، ولكن هذا الباسبورت تتسلمه من مكتب البوليس في الكاستلو.
وتلقاني وكلاء الفنادق، فاخترت منها فندق مهاري، وركبت الأتوبيس الخاص به، وسار بي مسافة طويلة على شاطئ البحر، حتى وصلنا إلى الفندق.
وبعد أن قيدت اسمي في الفندق، وعدتهم بإحضار الباسبورت وتسلمت خريطة المدينة وقصدت إلى الكاستلو في تكسي.
الكاستلو أو القصر العتيق
والكاستلو هو قلعة المدينة قديمًا، وسراي الحاكم العام حديثًا، ويسميها الأهالي السراي الحمراء، ويعرفها العلماء باسم القصر العتيق.
ويرجع تاريخها إلى العصر الروماني، على ما حققه الأستاذ جاكومو جويدي، وهو يرى أن بقايا البناء الروماني لا تزال تحت القصر.
وقد اتخذ العرب الحصن الروماني معقلًا لهم، ولبثوا فيه حتى القرن التاسع للميلاد، على ما رواه المؤرخون عن مقاومة إبراهيم بن عبد الله بن الأغلب لجنوده عندما ثاروا عليه وحاصروه في هذا القصر.
ولما استولى النورمنديون على المدينة أقامت حاميتهم في القصر سنة ١١٤٦، ولكن عهدهم لم يطُل؛ إذ طردهم العرب سنة ١٣٥٨.
وفي العهد الإسباني الذي لم يدم إلا ٢٠ سنة (من سنة ١٥١٠ حتى سنة ١٥٣٠)، عظُم شأن القصر؛ لأنهم اتخذوه معقلًا لهم لصد غارات الأتراك عنهم، فأدخلوا فيه إصلاحات كبيرة، وزادوا في مشتملاته وأقاموا فيه القلعتين.
واحتله كذلك فرسان مالطا ولبثوا فيه عشرين سنة، ثم أخرجهم منه الأتراك الذين هاجموا طرابلس بأسطولهم سنة ١٥٥١ تحت إمرة أمير البحر سنان باشا.
وجاء في رسالة كُتِبَتْ في القرن السابع عشر أن القصر أنشأه الإفريقيون، ثم أصلحه الإسبانيون وزادوا في بنائه.
ويبلغ محيط دائرته نحو ٥٠٠ خطوة تضرب أمواج البحر جانبه الشرقي ويحيط به خندق من الجهات الأخرى، وهو مربع الشكل، تقوم على جوانبه أربع قلاع أطلق عليها الإسبانيون أسماء بعض القديسين.
وعنى آل قره مانلي بتجميل القصر وزيادة مبانيه.
واتخذه الإيطاليون مركزًا للحكومة، ومنعتهم الحرب الدولية العامة من النظر في إصلاحه، ولكنهم وجَّهوا نظرهم إلى ذلك في عهد الكونت والبي من سنة ١٩٢٢.
وعلى من أراد المزيد الرجوع إلى الرسالة التي وضعتها الحكومة الإيطالية عن القصر، وما كتبه الأستاذ عمر فخري المحيبشي في مجلته «ليبيا المصورة» عدد ديسمبر سنة ١٩٣٠.
ولا تزال آثار القصر القديم باقية، يراها الزائر في الأفنية والسلالم والقاعات المختلفة التي يحرسها جنود وطنيون بملابسهم العربية، وأثاثها الذي روعيت فيه النماذج العربية والرومانية القديمة.
فأنت في هذا القصر بين مظاهر الحكم والإدارة ومعالم الفن القديم.
دائرة الدعاية والصحافة
وبعد أن انتهيت من تخليص الباسبورت، بكل سهولة، من دائرة البوليس قصدت قسم الإدارة، وقابلت فيه القومندور جوزيبي لافادجي الذي يعرفه أهالي بيروت ولبنان حيث قضى شطرًا من شبابه، وهو يجيد العربية، ويعهد إليه في مراجعة الصحف العربية وترجمة ما يهم حكومة طرابلس منها.
ثم انتقلت إلى دائرة الدعاية والصحافة، وفيها الكافاليري جويدي ألبرتو برناردي الموظف الفني، والسيد بنيامين ركاح.
والكافاليري برناردي مثال الظرف والأدب والكياسة، خبير بشئون البلاد والعباد وتاريخها القديم، وكل ما فيها من منشآت ومستحدثات وإصلاحات عمرانية وزراعية منذ الفتح الإيطالي.
وقد انتفعت بهذه الخبرة، وكان له عليَّ الفضل في كل ما أردتُ معرفته في شئون البلاد.
والأستاذ ركاح، رجل مستنير دقيق، محيط بأحوال البلاد العربية وحركة الطبع والنشر فيها بحكم وظيفته ومطالعاته اليومية.
وكان يكالم شابًّا لاحظت أنه أزهري من لباسه وكلامه، فصدَقت فراستي، وذكر لي أنه طرابلسي اسمه أبو بكر ساسي ويدرس في الأزهر الشريف، وقد جاء لزيارة أهله.
وأراد الأستاذ ركاح أن يحملني مجموعة من المطبوعات الإيطالية، فاعتذرت إلا عن قبول أربع رسائل منها عن التربية والتعليم والمنشآت الحديثة في ليبيا والإصلاحات الصحية وأعمال الإدارة.