أيام في بيروت (٤)
كانت كرزمة «المغربية» غدوةً شهية سخية في وسَطٍ مصري راقٍ يقوم على خدمته الخواجا يوسف غانم، ويؤانس زبائنه كأنهم ضيوف عليه.
وبعد الأكل والقهوة ومحادَثة قصيرة مع بعضهم أركبني الخواجا غانم تكسًا أقلَّتني في عشر دقائق إلى بكفيا.
وفي بكفيا تسلَّمني شوفير اسمه «صفر»، وقال: «أنت تجلس إلى جانبي؛ لأن هناك شحنة من الأخوات الراهبات ستحتلُّ المقعدَ الداخلي.»
وطال الوقت، وأكثر الشوفير من التبويق والتزمير، وأخيرًا حضرت أربع راهبات، استقبلهن صاحبي بجفاف، وعبثًا تلطَّفْنَ به وأكثرن من الاعتذار.
وكانت دورات، وكانت لفَّات، من دير إلى كنيسة إلى دار، تنزل راهبة وتصعد أخرى، ومن هنا مفتاح، ومن هناك مفتاح، إلى أن انتهى بهنَّ الأمر إلى ثلاث راهبات وحقيبة متوسطة، وسار بنا أخونا صفر لا يلوي على شيء، حتى أدخَلْنا الأخوات إلى دير في حي اليسوعية.
وتنفَّس صفر الصعداء، وسخط على الصناعة وزبائنها الذين يطلعون الروح، وأنزلني في ساحة البرج، فركبت الترام إلى دار الفيكونت طرازي.
وأمضيت عنده الليل في مراجَعة أعداد قديمة من مجموعته الصحافية ونقل فصول منها، وسماع فصول من كتابه الجديد في المكتبات عند العرب.
وبكَّرتُ صباحًا إلى منزل شيخنا الخازن لأُطمئِنَه على أنني لا أزال حيًّا أُرزَق، ولم أضِل طريقي في المدينة والجبل، ونزلت إلى المدينة لوداع بعض الإخوان وزيارة الآخرين، فزرت إدارة البرق، ومنها إلى دار المكشوف، ووجدت فيها كالعادة بعض الفتيان من الأدباء الناشئين.
ثم صعدت إلى إدارة «صوت الشعب»؛ لسان حال الشيوعية في لبنان، وحييتُ الرفاق، وقدَّمتُ إليهم نفسي، فحدَّثوني عن جريدتهم وحزبهم، قائلين إن صحيفتهم كانت يومية، وتصدر الآن أسبوعية إلى أن يتم الاكتتاب لإنشاء مطبعة خاصة بها.
قالوا: ومع أننا شيوعيون، ولكننا لا نعمل لنشر مبادئ الشيوعية وأغراضها، بل نسعى لخدمة العمَّال وتحقيق أغراض الشعب الفقير.
وفي طريقي إلى دار الكتب، قابلتُ الصديقتَين العزيزتين السيدة نازلي مظهر سعيد المفتشة بالمعارف، وشقيقتها الآنسة زينب الحكيم المربية المعروفة، فصحبتهما لمقابلة الفيكونت طرازي.
ومن المصادَفات الغريبة أنْ وجدنا عنده الأستاذ جورج باز الكاتب المعروف بمباحثه في «النسائيات»، وتدوين سِيَر «شهيرات السيدات».
وأُعجِبتِ السيدتان المصريتان بغرفة المطالَعة، وترتيب الفيش بأسماء المؤلِّفين وأسماء الكتب وتقسيمها تبعًا للطريقة العشرية.
وأطالت الآنسة زينب النظر في الصور التي ملأت الجدران، وسألت: لماذا اقتصرت هذه الصور على الرجال، وليس فيها صورٌ لسيدات؟
فأجاب الموظف الذي كان يرافقنا: لأن هؤلاء الرجال كلهم ممَّن خدموا النهضةَ الحاضرة بأقلامهم في التأليف والتعريب والنَّظْم وتحرير الصحف، ومتى وُجِدت سيداتٌ من هذا الصنف، فإننا لا نتأخَّر عن تزيين دارنا بصورهن.
وانتهت دورتي بزيارة دار جريدة «الحديث»، فاستقبلني صاحبها خيرَ استقبال، وهنَّأته بفصل محكَم كان قد كتبه منذ يومين في موضوع المؤتمر البرلماني العربي الذي يدعو إليه سعادة علوبة باشا.
ومن رأي الكاتب أنه يجب التريُّث في قبول الدعوة؛ لأنه ليس من حق أعضاء البرلمانات التدخُّل في أمورِ دولٍ أجنبية بأي حال من الأحوال.
وفي دار «الحديث» تشرَّفت بمعرفة اثنين من الزملاء المحررين، وتبسطنا ساعةً في الحديث عن حال الصحافة والسياسة والأدب في الأقطار الشقيقة.
ولم يبْقَ في الوقت متسعٌ لزيارات أخرى، ومنها زيارة الأستاذ التويني صاحب «صوت الأحرار»، والأستاذ رامز سركيس صاحب «لسان الحال»، وسليم صادر الكتبي المشهور، والآنسة بلانش عمون المحامية المعروفة وكريمة الصديق المرحوم داود عمون بك.
الناس يأتون إلى بيروت ولبنان للنزهة والرياضة.
ولكن الصحافي العجوز محكومٌ عليه باللف والبرم في المكتبات وإدارات الصحف.
في هذه الزيارات لذَّة قد لا يشعر بها غيري.
وقد كفاني الأسبوع الذي قضيته في المدينة والجبل؛ لتعرف سوء الحال الذي وصلتْ إليه البلاد بهبوط الفرنك، وارتباط العملة السورية به.
ولكن البلاد تقاوِم وتكافِح وتجاهِد في سبيل التقدُّم والارتقاء بخطوات واسعة.
ويظهر أثر ذلك في إدارات الصحف والبيوت والشوارع وفترينات الأثاث والسيارات الفخمة.
على أن الظاهرة العظمى هي المصايف، التي تكاتفت على تحسينها أيدي الحكومة والبلديات ومكتب السياحة وأصحاب الفنادق وأصحاب الدور المؤثَّثة المعَدَّة للإيجار.
وإذا كانت جبال لبنان قد خلَتْ من الفنادق الكبرى التي يراها زوَّار سويسرا في مونتروه وبرن وزوريخ سان موريتز، فإن ذلك لا يرجع إلى تقصير اللبنانيين، بل إلى طبقة المصطافين الذين يقصدون إلى جبال لبنان.
ولكن في لبنان عدد يُذكَر من الفنادق المتوسطة البديعة التي تجمع بين الرفاه والأناقة والبساطة، وإلى جانبها العشرات من البانسيونات والمنازل والشقق والغرف المفروشة.
وإذا كانت اضطرابات فلسطين قد حالَتْ دون اصطياف الكثيرين من المصريين والفلسطينيين في هذه السنة، فإن السنوات القادمة مبشِّرةٌ بالإقبال العظيم، حيث يجد المصطافون ما لا يجدونه في مصايف أوروبا من اتفاق في العادات والأخلاق والأطعمة واللغة والأدب والمؤانَسة، سواء في حياة الفنادق المرِحة، وحياة البيوت المطمئنَّة الساذجة.
والاصطياف في لبنان بتراب الفلوس بحكم نزول الفرنك، فقروشُ القومِ اليومَ مليمات، وليراتهم «حتت بعشرات»، وما يصرفه المصري في عشوة أو سهرة في مونبرناس باريس أو بيكادلي لندن أو رنج فينا يكفيه للصرف أسبوعًا أو أكثر في أبدع فنادق صوفر وبحمدون وضهور الشوير وبيت مري.
ولعنة الله على «البروجرام» الذي حرمني من المتعة أسبوعَين في هذا النعيم المقيم.