قبرص قديمًا وحديثًا
ليست قبرص غريبة عنا أو بعيدة؛ فإنه بطائرات طلعت حرب باشا لا تزيد المسافة بين مطار ألماظة ومطار ليماسول على ثلاث ساعات.
ولقبرص تاريخ حافل بالمآثر.
وإذا نحن طرحنا «المتيولوجيا» جانبًا، فهناك صفحات مجيدة في المدنية التي عملت قبرص لنشرها مع آبائنا الفراعنة الغر الميامين.
من الفراعنة إلى الرومان
وكان اتصالنا المباشر بهذه الجزيرة في عهد مليكنا الفرعون تحوتمس الثالث، الذي غزاها سنة ١٤٥٠ قبل الميلاد.
ولم ينبئنا التاريخ عن مدى حكم المصريين لها ومتى انفصلت عنَّا، ولكنه يؤكد أن الفرعون أمازيس أحد ملوك العائلة الثامنة عشرة غزاها وأخضعها لمصر.
وبقيَت تابعة لنا حتى جاء قمبيز الغازي، وافتتح مصر وضم قبرص إلى حكومته.
واحتدم النزاع على الجزيرة بين الفرس واليونان، إلى أن أدخلها إسكندر ذو القرنين في أملاكه الواسعة، ثم كانت بعده من نصيب القائد أنتيجون، فجزأً من أملاك البطالسة، ثم غزاها الرومان وعيَّنُوا شيشيرون حاكمًا عليها، وله في وصفها رسائل معروفة.
ونزل إليها القديس بولس في القرن الأول للميلاد مبشِّرًا بالمسيحية، فتنصَّر على يديه كثير من القبارصة وحاكمهم سرجيوس.
ولما انقسمت حكومة روما إلى دولتين: شرقية وغربية، صارت قبرص من بلاد الدولة الشرقية البيزنطية.
فتح المسلمين قبرص
وغزاها العرب على يد معاوية بن أبي سفيان سنة ٢٨ للهجرة/٦٣٢ ميلادية، وكان معه جماعة من الصحابة فيهم أبو ذر وعبادة بن الصامت وزوجته أم حِرام، وأبو الدرداء، وشداد بن أوس.
وكان معاوية قد لَجَّ على عمر بن الخطاب في غزو البحر لقرب الروم من حمص، فكتب عمر إلى عمرو بن العاص يقول له: صف لي البحر وراكبه. فأخافه عمرو.
فلما كان زمن عثمان بن عفان، كتب إليه معاوية يستأذنه في غزو البحر، فأذن مشترطًا أن يكون التجنيد اختيارًا، قال: لا تنتخب الناس، ولا تقرع بينهم، خيِّرهم، من اختار الغزو طائعًا فاحمله وأعِنه.
وجهز المسلمون أول أسطول لهم لغزو قبرص بقيادة عبد الله بن قيس، وسار إليها عبد الله بن سعد من مصر في سفن أقلعت من الإسكندرية.
واجتمعوا عليها، فصالحهم أهلها على جزية سبعة آلاف دينار كل سنة، يؤدون إلى الروم مثلها، وأن يكونوا للمسلمين عينًا على عدوهم.
وماتت أم حِرام بسقوطها على بغلتها في قبرص، فدُفِنَت على مقربة من لارنكا، وشيد على قبرها مسجد يؤمه مسلمو الجزيرة والجزر اليونانية القريبة للتبرك.
في أيام البيزنطيين والصليبيين
ثم استرجع البيزنطيون قبرص في منتصف القرن التاسع.
ونزل الصليبيون إلى ليماسول، وفيها تزوج ريشار (قلب الأسد) برنجريا، التي أصبحت بعدُ ملكة إنكلترا.
واحتاج قلب الأسد إلى مبلغ من المال لتموين الحرب الصليبية الثالثة، فباع قبرص إلى جماعة الفرسان الهيكليين، ولكنهم لم يحسنوا سياستها، فقبض على دفة الحكم فيها جي ده لوزنيان.
وفي عهد أحفاده ازدهرت الفنون والآداب والعمارة في قبرص.
بين المصريين والترك والإنكليز
وتقلبت الجزيرة بين أيدي أهل جنوى والمصريين حتى سنة ١٤٢٥ للميلاد، وأخيرًا أخضعها الأتراك أيام السلطان سليم الثاني سنة ١٥٧٠.
وبقيت في حوزتهم حتى تنازل عنها السلطان عبد الحميد الثاني إلى الإنكليز سنة ١٨٧٨.
واتخذ شاكسبير من قبرص مادة لمسرحيته «أوتلو» التي ترجمناها باسم عطيل، ولا يزال هناك حصن باسم «أوتلو»، وهو الذي أمات فيه شاكسبير «ديدمونده» التي يعرفها رواد المسارح وقُرَّاء الدرامات.
قبرص مشتى ومصيف
وتعد قبرص من المصايف والمشاتي المعروفة بما فيها من جبال وغِياض ورِياض وأزهار وقرى صغيرة يسكنها المزارعون.
ويقول المؤرخون المعجبون بمناخ قبرص ومناظرها الطبيعية الخلابة إن أنطونيوس عرض على كليوباترة أن تجعلها مقرًّا تنعم فيه بغرامها.
وفي الشتاء يقصد كثير من الإنكليز وأهل البلاد الشمالية مدينة كيرنيا الواقعة شمال الجزيرة؛ لجفافها وجمال مناظرها وما تحويه أرباضها من الآثار، وأهمها دير البل بيز البيزنطي، وقصور هيراليون وبونافينتو، ثم الطريق المعبَّدة الموصِّلة إلى نيقوسيا (عاصمة الجزيرة)، وهي تشبه سواحل سورانتو وأمالفي في نابولي.
ونيقوسيا مركز الحركة التجارية والإدارية والاجتماعية، وقد تقدمت في الأيام الأخيرة تقدُّمًا يذكر، ولا سيما بعد ارتباطها بعواصم أوروبا ومصر بالخطوط الجوية.
المدن المهمة في قبرص
ويليها في الأهمية مدينة فاماجوستا، الميناء الأول في الجزيرة، ولا تزال حافظةً مظهرها الشرقي وصبغتها التركية. وكثير من أهلها المسلمين يتكلمون العربية والتركية. وفيها كثير من آثار العصور الوسطى ممثَّلة في الأديرة والكنائس والجوامع وقصور الحكام والأشراف، وقد شيد بعضهم عمارات في المدينة على الطراز العصري، وبنوا فيلات في الضواحي.
وعلى مسافة من فاماجوستا توجد مدينة سلاميس التي اشتهرت بعمرانها أيام الفنيقيين والرومان والبيزنطيين.
وفي قبرص مصايف جبلية عدة أشهرها ترودس على ارتفاع ٥٧٥٠ قدمًا، وبلاتراس على ارتفاع ٣٧٠٠ قدم، وبردرونو على ارتفاع ٤٦٣٣ قدمًا، وبيدولا على ارتفاع ٣٦٠٠ قدم.
وقد عُنِي أخيرًا السير رونالد ستروس (المعروف في مصر منذ كان في الوكالة البريطانية)، بوضع كتاب عن قبرص بالاشتراك مع المستر أوبرين، ونشر المستر روبرت جينوس سِفرًا قيِّمًا في تاريخ قبرص، حوى خير ما يقال عن فنون الجزيرة وآثارها.
ويعاني الإنكليز كثيرًا في إصلاح قبرص وتحسين حالة الزراعة والصناعة فيها وتمدين الأهالي.
المصريون والإنكليز في مصايف قبرص
وقد نشطت الدعاية للمَصِيف في جبالها قبل الحرب وازدادتْ بعدها، ولكنها لم تلاقِ في مصر ما كان يُنتظر من إقبال المصريين عليها، مع هدوء مصايفها وطيب مُنَاخها؛ لأن معظم من يصطافون فيها من الإنكليز.
ولذلك لا يجد المصطافون المصريون في قبرص من يعاشرونه أو يسامرونه؛ لانفراد أولاد العم جون بون بأنفسهم منصرفين إلى البولو والتنس والبريدج ووسكي بوكنان وشاي لبتون وإنجيل لوقا.
والشرق شرق والغرب غرب، لا يتلاقيان.
والله أعلم متى يزول هذا الرأي، ويمتزج الشرق بالغرب بالرغم من تلك النعرات الوطنية والدعايات القومية العاملة لتنفير بني آدم وحواء بعضهم من بعض.