الجانب «المعرفي» في العلاج السلوكي المعرفي
بالمثل، وجدَ عالِم النفس الأمريكي إدوارد تولمان دليلًا على «التعلُّم الكامن» في الفئران، من خلال إظهارِ نجاحها في حفظ طريقها داخل المتاهة في غياب أي مكافأة، ثم استخدام هذه المعرفة للعثور على المكافأة بسرعةٍ أكبرَ بمجرد توفُّرها. طوَّرت الفئران «خريطةً معرفية» للمتاهة، على الرغم من عدم وجود مكافأة خارجية للقيام بذلك في ذلك الوقت. وتقترح «نظرية التعلُّم الاجتماعي»، التي طوَّرها عالِم النفس الأمريكي ألبرت باندورا، أن البشر يمكنهم التعلُّم من خلال الملاحظة، وليس فقط من خلال الخبرة الشخصية. أشار باندورا إلى أنه يمكن تعلُّم السلوك من البيئة من خلال الملاحظة أو التوجيه، وأن العمليات المعرفية توسَّطت في هذا التعلُّم، وكذا الارتباطات بين المثيرات والاستجابات. بالإضافة إلى التعلُّم من خلالِ ملاحظة السلوك، يتأثَّر التعلُّم أيضًا بملاحظة السلوك الذي تتم مكافأته أو معاقبته، وهي عمليةٌ تُعرف باسم «التعزيز غير المباشر» — أي: رؤية شخص آخر يُعاقَب على فعلٍ ما تجعلنا نمتنع عن فِعله. على سبيل المثال، كان يُعتقد أن الإعدام العلني يكون رادعًا للآخرين.
نظرية التعلُّم الاجتماعي
في أوائل الستينيات من القرن الماضي، أجرى باندورا سلسلةً من الدراسات شاهد فيها أطفالٌ أشخاصًا بالغين، وهم يتفاعلون مع دميةٍ قابلةٍ للنفخ وثقيلةٍ (تسمَّى الدمية بوبو) ترتدُّ إلى أعلى عند دفعِها إلى الأسفل. كان الأطفال الذين راقبوا شخصًا بالغًا يتفاعل مع الدمية بطريقة عدوانية، بالصراخ فيها ولكمِها؛ أكثرَ ميلًا بكثيرٍ إلى التصرُّف بعنفٍ تجاه الدمية، من الأطفال الذين راقبوا شخصًا بالغًا يتفاعل مع الدمية بطريقةٍ غير عدوانية. وقد تحقَّق هذا بشكلٍ خاص، عندما شاهدوا أن الشخص البالغ يتلقَّى المدح بدلًا من التأنيب على سلوكه العدواني. حقيقةُ أن التعلُّم القائم على الملاحظة يتأثَّر برؤية عواقب السلوك؛ تشير إلى وجودِ عنصرٍ معرفي للتعلُّم. وقد كان التأثير أقوى عندما كان الشخص البالغ من نفس جنس الطفل الذي يراقبه. وهذا لأننا «نتماهى» مع النماذج (أي: الأفراد الذين نلاحظهم) التي ندرك أنها تشبهنا أكثرَ، والنماذج التي ندرك أنها كُوفِئَت. هذه النماذج ليست فقط العناصرَ الفاعلة المشارِكة في التجارب، ولكنها تشكِّل جزءًا من سياقنا الثقافي الاجتماعي؛ ومن ثَم كل مَن حولنا، بمَنْ في ذلك الأصدقاء والعائلة والمعلمون وزملاء العمل والشخصيات الإعلامية. تقدِّم هذه النماذج أنماطَ سلوك يمكننا ملاحظتها وتقليدها، مثل المُثُل العليا الذكورية والأنثوية، والسلوك المؤيِّد والمعادي للمجتمع، وما إلى ذلك. توفِّر وسائل التواصل الاجتماعي عددًا كبيرًا من النماذج المحتمَلة، بالإضافة إلى مؤشراتٍ واضحةٍ على شعبيتها أو مكانتها. قد تساعد عملية التعلُّم القائم على الملاحظة في توضيح سبب ارتفاع معدلات الانتحار، في أعقاب قيام أحد المشاهير، أو حتى شخصية خيالية في أحد المسلسلات، بالانتحار. كما قد دُرِس كثيرًا دورُ تقديم العنف على شاشات التلفزيون أو في ألعاب الكمبيوتر، في تعزيز السلوك العدواني، ولكن دون الوصول إلى استنتاجٍ واضح.
إنَّ نظريات التعلُّم المختلفة لا تستبعد إحداها الأخرى، وقد تحدُث عملية التعلُّم الأكثر فاعلية عندما يتم الجمع بينها. على سبيل المثال، يتعلم الأطفال من خلال الملاحظة عندما «يقلِّدون» ما يفعله قدوتهم من الكبار؛ لذلك فإن أطفال المدخنين يكونون أكثرَ عرضة للتدخين. ومع ذلك، فالسياق الاجتماعي الثقافي؛ ومن ثَم الارتباط الشرطي الاستثابي، سيكون له تأثيرٌ أيضًا؛ فإذا كوفئ سلوك التدخين بقبولٍ اجتماعي من الأقران، فمن المرجَّح أن يستمر أكثرَ مما لو قُوبِل بالرفض أو بعواقبَ سلبيةٍ أخرى. وبالإضافة إلى كونه إيجابيًّا أو سلبيًّا، يمكن أن يكون التعزيز خارجيًّا أو داخليًّا. فإذا حصلَ الفردُ على قبولٍ من الآخرين، فهذا القبول «معزِّز خارجي»، ولكن الشعور بالسعادة بشأن القبول الذي تلقَّاه هو «معزِّز داخلي». وفي المقابل، قد يكون رفضُ الآخرين هو المكافأة، كما هو الحال في السلوك المتمرد. إن حقيقة أنَّ ما هو مجزٍ لشخصٍ ما، أو في موقفٍ بعينه، يختلف باختلاف الشخص والموقف، تسلِّط الضوءَ على دَور الوساطة المعرفية في عملية التعلُّم.
الثورة المعرفية
دفعت دراسةُ مُنظِّري التعلُّم التفصيلية للسوابق والسلوكيات والعواقب، المعالجين إلى استخدام نهجٍ مماثل، يُعرف باسم «التحليل الوظيفي»، لفَهْم الصعوبات التي يُعانيها مرضاهم. التحليل الوظيفي هو عملية فحصٍ مفصَّلٍ لسوابق السلوك أو مُحفِّزاته، والسلوك نفسه، وعواقب السلوك. الغرض من التحليل الوظيفي هو فَهْم سببِ استمرار السلوك غير المفيد أو المؤلم. استُخدم هذا، إلى جانب نظرياتِ التعلُّم، لتطوير علاجاتٍ مفيدة مثل علاج الرُّهاب بإزالة التحسُّس المنهجية أو التعرُّض التدريجي. ومع ذلك، لا تزال هذه التدخُّلات تركِّز في المقام الأول على ظواهرِ السلوك الملحوظة وعواقبه. وبحلول سبعينيات القرن الماضي، كان تجاهل جميع العمليات النفسية غير المرصودة، ولا سيما دَور الفكر في التأثير على السلوكيات والمشاعر البشرية، يُسبِّب استياءً متزايدًا. وسعى العديد من مجالات البحث إلى دمج الظواهر المعرفية في فَهْم الاضطرابات النفسية، وأصبح هذا التطوُّر يُعرف باسم «الثورة المعرفية».
يقتضي العلاج العقلاني الانفعالي السلوكي أنه إذا أردنا تغييرَ العواقب النفسية المختلَّة، مثل القلق والاكتئاب، فإنه يتعيَّن علينا تغييرُ المعتقَدات غير العقلانية الكامنة وراءها. رأى إليس أن المعتقَدات غير العقلانية تتخذ غالبًا شكلًا متطرفًا أو دوجماتيًّا من العبارات التي تبدأ ﺑ «لا بد من كذا»، «يجب كذا»، «ينبغي كذا»، وهذا على عكس الرغبات أو الأمنيات أو التفضيلات الأكثر عقلانيةً ومرونة. ولذا فبدلًا من الاعتقاد «يجب أن أكون الأفضل في كل شيء»، سيكون الاعتقاد الأكثر مرونةً وعقلانيةً هو «على الرغم من أنه من الجيد القيام بالأشياء بصورةٍ جيدة، فإنه من غير الممكن أن أكون الأفضل في كل شيءٍ طوال الوقت». تُركِّز استراتيجيات العلاج العقلاني الانفعالي السلوكي على تغيير معتقَدات وسلوكيات المرضى الانهزامية، من خلال إظهارِ مدى جمودها وافتقارها إلى العقلانية. اعتقد إليس أنه من خلال التحليل العقلاني وإعادة التقييم لمثل هذه المعتقَدات، سيفهم المرضى كيف أن معتقَداتِهم غير العقلانية انهزاميةٌ؛ ومن ثَم يمكنهم تطويرُ بدائلَ أكثرَ عقلانية. كان عمل إليس مثيرًا للجدل للغاية في وقتِ ظهوره، لا سيما وأن أسلوبه العلاجي يمكن أن يكون صداميًّا وينطوي على السخرية. على سبيل المثال، لكي يُثني المرضى عن المعتقَدات الجامدة والمتطلبة بشكل مفرط، مثل الاعتقاد بأنهم «لا بد» أن يشعروا أو يتصرفوا بطريقةٍ معينة، فكان يتهمهم ﺑ «التصلب». أو «التهويل» عندما كانوا يركِّزون بشكلٍ مفرط على الجوانب السلبية للموقف. يُذكر أنه من أجل التغلُّب على خوفه من التحدُّث إلى النساء، فقد أجبر إليس نفسه على التحدُّث إلى أكثرَ من مائة امرأة في إحدى الحدائق المحلية. وفي عام ١٩٥٩، أسَّس إليس معهد الحياة العقلانية (الذي يُعرف الآن باسم معهد ألبرت إليس) للمزيد من الدراسة والتدريب، في مجال العلاج العقلاني الانفعالي السلوكي، كما كان كاتبًا غزيرَ الإنتاج حيث ألَّفَ وشاركَ في تأليفِ أكثرَ من ثمانين كتابًا.
في نفس الوقت تقريبًا الذي كان إليس فيه يطوِّر العلاج العقلاني الانفعالي السلوكي، بدأ الطبيبُ النفسي الأمريكي إيرون تي بيك (١٩٢١–٢٠٢١) — الذي أُصيبَ بخيبةِ أمل مماثلة من نهج فرويد للتحليل النفسي — في تطوير فرضياته الخاصة حول دَور الأفكار (المعروف أيضًا باسم الإدراك) في الاضطرابات النفسية. لاحظَ بيك أن مرضاه المصابين بالاكتئاب بدَوا وكأنهم يعانون تدفقًا تلقائيًّا لفيضٍ من الأفكار السلبية. وقد وصفَ هذه الأفكار ﺑ «الأفكار التلقائية السلبية»، ولاحظَ أنها تميل إلى الحدوثِ في ثلاثة مجالاتٍ مرتبطة: «الثالوث المعرفي» للأفكار السلبية حول كلٍّ من الذات والآخرين والمستقبل.