سِمات العلاج السلوكي المعرفي وهيكله
مثل جميع العلاجات، العلاج السلوكي المعرفي له أسلوبه الخاص. فمقارنةً بأشكال العلاج النفسي الأخرى، عادةً ما يكون العلاج السلوكي المعرفي أكثرَ تركيزًا على المشكلات، وأكثر تنظيمًا وإيجازًا. ومع ذلك، فالعديد من عناصرِ أسلوبه ونظامِه مشتركٌ مع معظم أشكال العلاج. على سبيل المثال، اللقاءات الأسبوعية التي تكون مدتُها ساعة. وبالمثل، تدرك معظم العلاجات النفسية أهميةَ وجود علاقة جيدة بين المريض والمعالِج، وهي ما يُطلَق عليها اسم «العلاقة العلاجية» أو «التحالف العلاجي». سلَّط عالِم النفس الأمريكي كارل روجرز الضوءَ على أهمية «الشروط الأساسية» التي تتمثَّل في التعاطف، والصدق، والاحترام الإيجابي غير المشروط في تكوين علاقات علاجية فعَّالة. وفي حين أن بعض الأساليب العلاجية تنظر إلى العلاقة العلاجية على أنها الآلية الأساسية للتغيير، فالعلاج السلوكي المعرفي ينظر إليها على أنها ضرورية، ولكنها ليست كافية وحدَها لتحقيق التغيير المنشود. بعبارة أخرى، دون علاقة علاجية جيدة، من المستبعَد أن يتحقَّق التغيير الإيجابي، ولكن العلاقة العلاجية الجيدة وحدَها لن تؤديَ قطعًا إلى تغيير علاجي. ففي النهاية، الأساس النظري الذي يقوم عليه العلاج السلوكي المعرفي هو أن التغيير يتحقَّق من خلال كسرِ الحلقات المُفْرغة الفكرية، والشعورية، والفسيولوجية، والسلوكية التي يُفترض أنها تُبقي على المشكلة (المشكلات) مستمرة. يقدِّم هذا الفصل نظرةً عامة على العناصر الرئيسية، لأسلوب العلاج السلوكي المعرفي وكيفية استخدامها. وللحصول على مقارنةٍ أكثرَ تفصيلًا بين العلاج السلوكي المعرفي وأساليب العلاج النفسي الأخرى، انظر كتاب «العلاج النفسي: مقدمة قصيرة جدًّا».
قصير المدى ومحدود زمنيًّا
إحدى السمات المميِّزة للعلاج السلوكي المعرفي هي أنه محدود زمنيًّا نسبيًّا، كونه قصيرَ المدى نسبيًّا، حيث يقدِّم معظم المعالجين عادةً ما يتراوح بين ست جلسات وعشرين جلسةً من العلاج السلوكي المعرفي. هذا على عكس بعض مناهج التحليل النفسي التي يمكن أن تكون مفتوحة المدة. انتُقدت الطبيعة القصيرة المدى للعلاج السلوكي المعرفي؛ إذ اعتُبر «إسعافًا مؤقتًا» أو أنه لا يعالج مشكلاتٍ أعمق. ومع ذلك، فهذه الطبيعة هي ما تجعل العلاج السلوكي المعرفي خيارًا جذابًا، لكلٍّ من المرضى والمنظَّمات التي تُموِّل خِدْمات العلاج النفسي. عادةً ما يكون التدخُّل التقليديُّ للعلاج السلوكي المعرفي — فيما يخصُّ الفرد وليس المجموعة (تميل الجلسات الجماعية إلى أن تكون أطول) — ما بين اثنتي عشرة وعشرين جلسة تتراوح مدةُ كلٍّ منها ما بين خمسين دقيقة وساعة، وتُعقَد أسبوعيًّا. في حال محدودية الموارد، تُقدَّم جرعاتٌ أقلُّ من العلاج في عدد جلساتٍ أقلَّ (على سبيل المثال، من ستٍّ إلى عشر جلسات) أو جلساتٍ أقصرَ. يمكن أن تكون فترات العلاج الأقصر على القَدْر نفسِه من الفعالية، خاصةً لمن يعانون مشكلاتٍ أخفَّ.
يُجادل منتقِدو العلاج السلوكي المعرفي بأن طبيعته المحدودة زمنيًّا تعني أنه قد لا يكون مناسبًا للعديد من المرضى، مثل مَن يعانون مشكلاتٍ أكثرَ حدةً أو تعقيدًا، أو مَن يكافحون من أجل التعبير عن أنفسهم أو التركيز. في الواقع، تشير الأبحاث إلى أن أولئك الذين يعانون مشكلاتٍ حادة، والذين يعانون مشكلاتٍ أخرى ذات صلةٍ مثل اضطراب الشخصية؛ قد يحتاجون إلى أكثرَ من عشرين جلسة ليحصلوا على الفائدة الكاملة. وقد يلزم تعديلُ طولِ وتواتر جلسات العلاج السلوكي المعرفي، وفقًا لما يظهر على الفرد من أعراضٍ أو وفقًا لحاجته السريرية. على سبيل المثال، قد يتطلَّب إجراء تدخُّلٍ علاجيٍّ معيَّن، مثل التعرُّض لبيئةٍ معينة، جلسةً أطول. أو قد تعني جوانب من الأعراض الظاهرة على المريض، مثل ضعف التركيز بسبب الاكتئاب الشديد، أن الجلسات الأقصر والأكثر تواترًا تكون أكثرَ فعالية. يمكن أيضًا تعديل جدول الجلسات وفقًا لوضع المريض، حيث غالبًا ما تكون الجلسات أكثرَ تواترًا في بداية برنامج العلاج، خاصةً لمن يعانون مشكلاتٍ أكثرَ حدة، وتصمَّم بحيث تُعقد جلسة كل أسبوعين أو شهريًّا مع اقتراب المريض من التعافي، وتمكُّنه من استخدام مهارات العلاج السلوكي المعرفي التي تعلَّمها بشكل مستقلٍّ نسبيًّا.
منظَّم وتعاوني
المبدأ الأساسي الآخر لأسلوب العلاج السلوكي المعرفي هو التعاون؛ فأي جلسة أو برنامج علاج سلوكي معرفي يجب أن يكون عملًا تعاونيًّا بين المريض والمعالِج. يقول مَثلٌ صيني، «أخبِرني سأنسى. علِّمني سأتذكر. أشرِكني سأتعلَّم». ومن ثَم فالمعالِج يشجِّع المريض على المشاركة النشطة على كل المستويات. يجمع كلٌّ من المعالِج والمريض مصادرَ الخبرة الخاصة بكلٍّ منهما، في محاولةٍ لفهم وتغيير المشكلة (المشكلات) التي يريد المريضُ تلقي المساعدة في حلها. يتعاون المريض والمعالِج في جميع مراحل العلاج: في التقييم وصياغة الحالة لتحديد وفهم المشكلة (المشكلات)؛ وفي تحديد أهداف العلاج؛ وفي وضع خطة عمل للجلسات؛ وفي تصميم مهامِّ العلاج والمهام بين الجلسات («الواجب المنزلي»)؛ وفي تلخيص الفَهْم المشترَك لما نُوقش؛ وفي إنهاء العلاج.
قد تتناقض الطبيعة التعاونية للعلاج السلوكي المعرفي مع النموذج الطبي أكثرَ؛ حيث يقوم الطبيب بإرشاد المريض بشأنِ ما يجب عليه فِعله ويذعن المريض، بدرجةٍ أكبر أو أقل، للتعليمات. وهو ما يعني أن المرضى قد لا يتوقَّعون تقديمَ مساهمات فعَّالة كهذه، وقد يحتاجون إلى تلقي التشجيع من معالِجهم للقيام بذلك. غالبًا ما يقدِّم المعالِج توجيهًا أكبرَ في الجلسات الأولى، ولكن يُتوقَّع من المريض تحمُّل المزيد من المسئولية في الجلسات، مع تطوُّر مهاراته الخاصة بالعلاج السلوكي المعرفي على مدار برنامج العلاج. تُستخدم الأساليبُ السقراطية والاكتشاف الموجَّه لتعزيز التعاون. فبدلًا من إخبار المريض عن طبيعة المشكلة، يستخدِم معالجو العلاج السلوكي المعرفي الأسئلةَ السقراطية، لاستكشاف وجهات نظرٍ بديلةٍ حول هذه المشكلة. على سبيل المثال، السؤال عما إذا كانت هناك طرقٌ أخرى لرؤية الموقف، أو ما إذا كانت وجهةُ نظر معينة تنطبِق على جميع المواقف، أو كيف كان سينظر المريض إلى الموقف إذا كان أحدُ أحبائه فيه، أو كيف كان سيرى هذا الموقف قبل أن يصاب بالاكتئاب. لتعزيز التعاون، يستخدِم معالجو العلاج السلوكي المعرفي أيضًا تلخيصاتٍ متكررة، ويطلبون تقييمَ المريض بانتظامٍ للتأكُّد من أن لدى كلَيهما فَهْمًا مشتركًا للمشكلات ذات الصلة. في نهاية الجلسة، يطلب المعالِج عادةً من المريض تلخيصَ فَهْمه لما تناولاه في الجلسة، وكيف سيستخدمه، وما إذا كان يجد أيَّ شيءٍ مفيدًا أو غير مفيدٍ بشكلٍ خاص فيما يخص الجلسة. من المهم بوجهٍ خاصٍّ أن تكون على درايةٍ بأي تحفُّظاتٍ لدى المريض، حيث إن تلك التحفظات قد لا تؤدي إلى إعاقة التقدُّم فحسب، بل قد تتسبَّب أيضًا في تدمير العلاقة العلاجية. إذا لم يكن المريض يشعر بأن المعالج قد فهِم وجهةَ نظره تمامًا، فمن غير المرجَّح أن يرى أن اقتراحات المعالِج ذاتُ صلة أو قد تكون مفيدة. إن استخدام التقييم المتبادل يتحقَّق من أن المعالِج والمريض قد فهِم كلٌّ منهما الآخر، وأنهما متفقان ويتشاركان المسارَ نفسَه في مواجهة المشكلة.
تجريبي
العلاج السلوكي المعرفي هو نهجٌ تجريبي، يُطبق سواء داخل الجلسات الفردية أو عبر برامج العلاج ككلٍّ. على المستوى الأساسي الأبسط، هو يقوم على فكرة الممارسة القائمة على الدليل؛ أي: استخدام أفضل دليل بحثي حالي لاتخاذ القرارات فيما يتعلق برعاية كل مريض على حدة. الهدف من وجود المبادئ التوجيهية الوطنية هو تقديم النصح لاختصاصيي الرعاية الصحية حول أفضل العلاجات المثبتة المناسبة لكل حالة. في المملكة المتحدة، يقدِّم المعهد الوطني للصحة وجودة الرعاية توصياتٍ، حول أي التدخُّلات يحظى بأفضل دليلٍ بحثيٍّ فيما يخصُّ حالةً معينة، وهو يُوصِي باستخدام العلاج السلوكي المعرفي في علاج مجموعةٍ من المشكلات، بما في ذلك القلق والاكتئاب، وكذا اضطرابات الأكل، واضطراب ما بعد الصدمة، والذهان والاضطراب الثنائي القطب. وبالمثل، تقدِّم مؤسسة كوكرين الخيرية المستقلة مراجعاتٍ لأفضل الأدلة البحثية الحالية على مستوى العالم، لإرشاد الممارسين في اختيار التدخُّلات التي سيقومون بها.
في حين أن العلاج السلوكي المعرفي تجريبيٌّ؛ من حيث إنه يخضع للتقييم من جانب الأبحاث، فمن الجدير بالذكر أن الأبحاث ليسَت مثالية. بينما تعتبر التجارب العشوائية المضبوطة هي «المعيار الذهبي» في أبحاث النتائج، فإن لها مشكلاتها أيضًا، ويمكن أن تكون معيبةً أو غيرَ حاسمةٍ أو صعبة التفسير. تقسِّم التجربة العشوائية المضبوطة التقليدية المرضى بشكلٍ عشوائي إلى مجموعتَين أو أكثر (على سبيل المثال، مجموعة العلاج «أ» مقابل مجموعة العلاج «ب» مقابل المجموعة الضابطة/مجموعة العقار الوهمي) وتقارن نتائجها. تتلقَّى «المجموعة التجريبية» العلاج الجاري تقييمه، بينما تقدِّم المجموعة أو المجموعات الأخرى شكلًا من أشكال المقارنة («المجموعة الضابطة»). لتجنُّب التحيز، يُوَزَّع المشاركون بشكلٍ عشوائي على المجموعات، والأفضل أن يكون أولئك الذين يُقيِّمون النتائج «يجهلون» المجموعة التي ينتمون إليها. ومع ذلك، من الصعب أن يكونوا يجهلون وَضْع العلاج فيما يخصُّ العلاجات النفسية، وبالمثل لا يوجد علاج وهمي واضح يمكن أن يحاكي العلاجَ النفسي الخاضع للتقييم. كما تستغرق التجاربُ العشوائية المضبوطة وقتًا طويلًا، ويكون إجراؤها مكلِّفًا، كما أن جودتها متغيرة، وهذا بوجود عوامل تشكِّل كلها مصادرَ للتحيز، مثل ولاء الباحث لمنهجٍ بعينه، وكفاءة المعالِج، والمتابعة غير الكافية على المدى الطويل، ومعدَّلات الانقطاع المتغيرة، وفقدان المشاركين أثناء البحث.
يهدف العلاج السلوكي المعرفي أيضًا إلى أن يكون تجريبيًّا في استخدام المنهج العلمي في العلاج، سواء في الجلسات الفردية أو عَبْر برنامج العلاج ككل. في المراحل الأولية، تكون عمليةُ التقييم ووضع صياغة الحالة والعلاج الخاصة بالعلاج السلوكي المعرفي؛ عمليةً تكرارية حيث يجري اقتراح الصياغة كفرضيةِ عملٍ، حولَ ما قد أدَّى إلى تطوُّر مشكلة (مشكلات) المريض، وما يُبقي عليها مستمرة. بعد ذلك، تُعَدَّل هذه الصياغة وفقًا للمعلومات الإضافية التي يحصل عليها المعالج أثناء العلاج.
وبالمثل، يَستخدم العلاج السلوكي المعرفي المنهجيةَ العلمية في أساليبه، حيث يُنظر إلى كل معتقَدٍ على أنه فرضية، وغالبًا ما يكون الغرض من العلاج هو اكتشاف أيٌّ من الفرضيتَين البديلتَين الأكثرُ «ملاءمة». يمكن التعبير عن هذا في صورة «النظرية «أ» في مقابل النظرية «ب»»:
النظرية «أ» | النظرية «ب» |
---|---|
مشكلتي أنني في خطر دائم | مشكلتي هي اعتقادي بأنني في خطر دائم |
ستقع كارثة بكل تأكيد ما لم أقُم بطقوس بعينها، وأتجنَّب مواقفَ معينة | لقد منعني فِعل طقوس بعينها وتجنُّب مواقفَ معينة من اكتشاف أن الكارثة لن تحدُث، حتى لو لم أفعل هذه الأشياء. هذا بالإضافة إلى أن القيام بها مرهِق، ويمنعني من عيش حياتي بالطريقة التي أريدها. |
بمجرد تحديد نسخة فردية خاصة من النظرية «أ» والنظرية «ب»، يمكن أن يركِّز العلاج على اكتشاف أو اختبار أيٌّ من هذه الفرضيتَين المتنافستَين يقدِّم سرديةً أكثرَ دقةً ونفعًا لتجربة المريض. يُنظر إلى كل معتقَد أو فكرة، يعبِّر عنها المريض أو المعالِج، على أنها فرضية قابلة للاختبار. على سبيل المثال، إذا كان المريض يعبِّر عن معتقَدات خاصة بالنقد الذاتي، فسيشجِّع المعالِج المريضَ على البحث الدءوب عن أدلةٍ عكس هذه المعتقَدات، وسيدمج ذلك لتشكيل رؤيةٍ أوسع.
يعتبر العلاج السلوكي المعرفي تجريبيًّا أيضًا في اعتماده على القياس. يهدف العلاج السلوكي المعرفي سواء داخل الجلسات أو على مدارها، إلى قياس الأهداف ذات الصلة لتقييم التغيير. على سبيل المثال، إذا كان المعالِج والمريض يعملان على إعادةِ تقييم معتقَد معيَّن، والذي يُفترض أنه وثيق الصلة بصعوبات المريض الحالية، فسيقومان بتقييم التغيير من خلال تقييم درجة اقتناع المريض بهذا المعتقَد. يُستخدم هذا المقياس لتقييم التغيير خلال جلسةٍ بعينها، قبل وبعد تنفيذ تدخُّل مستهدَف معيَّن. على المستوى الأساسي، قد تكون هذه المقاييسُ تقييماتٍ من صفر إلى ١٠ للمشاعر، أو الاقتناع الراسخ بالمعتقَد، أو الحالات الفسيولوجية، أو الدوافع السلوكية الملحَّة. على مستوًى أكثرَ تعقيدًا، قد يستخدِم معالجو العلاج السلوكي المعرفي أساليبَ قياسية نفسية معيارية مُثْبَتَة. فتهدف الاستبيانات المعيارية إلى قياسِ شدة الأعراض لجميع اضطرابات الصحة العقلية الشائعة، وعادةً ما يطلب معالِجو العلاج السلوكي المعرفي من المرضى إكمالَها بصورة منتظمة. تُستخدم هذه الاستبيانات إما لتحديدِ شدة الأعراض (على نحوٍ يشبه قياسَ درجة الحرارة) أو على نحوٍ أكثرَ شيوعًا لتقييمِ ما إذا كانت الأعراض تتحسَّن مع تقدُّم العلاج.
تُعَد الاستبيانات والمقاييس الأخرى التي تعتمد على الورقة والقلم، جيدةً في قياس الجوانب المعرفية أكثرَ مثل درجة الاعتقاد أو شدة الأعراض، ولكن بالنظر إلى تركيزِ العلاج السلوكي المعرفي المساوي على السلوك، فمن المفيد أيضًا أن يكون هناك مقاييسُ سلوكية. قد تكون هذه المقاييس تقييماتٍ لمدى تَكرار حدوثِ سلوكٍ ما (مثل الأكل بنَهم أو محاولة التفريغ السريع لما تناوله الشخص من طعام)، أو مقدار الوقت المستغرَق في سلوكٍ ما (مثل الفحص المتكرِّر للأشياء أو نتف الشعر)، أو عدد المرات التي يُتَجنَّب فيها سلوكٌ ما. من أجل دقة القياس، كلما اقتربنا من وقتِ حدوث السلوك أو التفكير، كان التسجيل أكثرَ دقة. ومن ثَم من المهم أن يكون لدى المريض أداةٌ محمولة وغير لافتةٍ للنظر، لتسجيل الجوانبِ ذات الصلة بين الجلسات، والتي يمكن أن تكون أيَّ شيءٍ، من تسجيل عدد مرات الحدوث في دفتر يومياتٍ إلى تسجيل الملاحظات ورقيًّا أو إلكترونيًّا.
يركِّز على المشكلة/الهدف
على العكس من بعض أشكال العلاج النفسي، لا يركِّز العلاج السلوكي المعرفي بشكلٍ خاص على شخصية الفرد أو تجاربه. ولكنه «يركِّز على المشكلة»؛ أي إنه يركِّز على المشكلة (المشكلات) المحدَّدة التي يريد المريض حاليًّا المساعدة فيها (بافتراض أنه من الأخلاقي القيام بذلك). وهو ما قد يثير مخاوفَ من أن العلاج السلوكي المعرفي قد يكون مفرطَ التبسيط أو اختزاليًّا، أو يفشل في معالجة مشكلات الشخص «بكل جوانبه». إن العلاج السلوكي المعرفي لا يحاول عادةً التعاملَ مع كل مشكلات الشخص. بل يهدف إلى مساعدة الفرد على إجراء تغييرات في مجالاتٍ بعينها من طريقة عيشه. كجزء من التقييم، يعمل المريض والمعالِج معًا للوصول إلى فَهْم مشترك لما يريد المريض المساعدة فيه، ويقومان بتحديد المشكلة (المشكلات) المراد التعامل معها. وكلما كان هذا الفَهْم أكثرَ تفصيلًا وتحديدًا، كان أكثرَ فائدة في توجيه العلاج. ولذا، بدلًا من مجرد القول إن المشكلة هي الاكتئاب، يعمل كلٌّ من المعالِج والمريض على وَضْع «قائمة بالمشكلات» الخاصة بجوانب الاكتئاب التي تزعج المريض. غالبًا ما تكون القائمةُ مجموعةً من أعراض المشكلة وعواقب تلك الأعراض. مثالًا على هذا، انظر المربع أدناه.
قائمة مشكلات خاصة بالاكتئاب
-
الشعور بالحزن. في المتوسط، الشعور بالحزن بنسبة ٨٠ في المائة في الصباح و٦٠ في المائة في وقت لاحق من اليوم.
-
البقاء في الفراش لفتراتٍ طويلة (اثنتا عشرة إلى ست عشرة ساعة في اليوم).
-
التوقف عن العمل والمعاناة من صعوبات مالية.
-
عدم رؤية الأصدقاء. العزوف عن الذهاب إلى نادي الكِتاب أو ممارسة البولينج.
-
صعوبة في التركيز. العزوف عن القراءة.
-
عدم الاستمتاع بأي شيء (مشاهدة التلفزيون، القراءة، رؤية الأصدقاء، حل الألغاز).
-
تناول طعام سريع التحضير رديء الجودة.
-
التخلف عن أداء الأعمال المنزلية (الغسيل، التنظيف، دفع الفواتير).
-
عدم ممارسة الرياضة والحد الأدنى من تمشية الكلب.
بمجرد تحديد قائمة المشكلات، يعمل المعالِج والمريض معًا لتحديد أهداف العلاج. وهو ما يتضمَّن تحديدَ نطاق العلاج، وتحديدَ ما يريد المريض تحقيقه بالضبط بنهاية العلاج؛ على سبيل المثال، أن يكون أقلَّ اكتئابًا. ومع ذلك، فأهداف العلاج، مثل معظم الأهداف، تكون أكثرَ فائدة عندما تكون «ذكية» (أي: محدَّدة، وقابلة للقياس، وقابلة للتحقيق، وملائمة، ومحدَّدة بإطار زمني).
لذا، فقد يكون الهدف الذكي المتعلِّق بأن يكون المريض أقلَّ اكتئابًا؛ هو أن يكون متوسط معدَّل مزاجه لا يقلُّ عن ٥ من ١٠، على الأقل خمسة أيام في الأسبوع، بحلول نهاية فترة العلاج. كمثال، انظر المربع أدناه. يمكن للمعالِج أن يساعد المريض على تحديدِ الأهداف باستخدام أسئلة سقراطية، مثل «كيف ستعرف أنك كنت أقلَّ اكتئابًا؟ ما الذي سيمكنك فِعله بشكل مختلف؟ كيف ستفكر أو ستشعر بشكل مختلف؟». على سبيل المثال، قد يعرف المريض أنه كان أقل اكتئابًا عندما تمكَّن من النهوض من الفراش في وقت معيَّن كل يوم، أو تواصل اجتماعيًّا بوتيرة أكبر. من المهم أيضًا أن تكون الأهداف واقعية؛ فإذا كان شخصٌ ما مصابًا بالاكتئاب الشديد لسنوات، فمن غير المرجَّح أن يتحسَّن تحسنًا تامًّا في غضون ثلاثة أسابيع، أو أنه لن يعانيَ أبدًا من حالة مزاجية سيئة مرة ثانية. إذا لم تكن الأهداف واقعية، فقد يؤدي ذلك إلى انتكاسةٍ أو إثارة مشاعر اليأس إذا لم تتحقق. ومن ثَم، بالنسبة للأشخاص الذين يعانون اضطرابًا شديدًا، فقد يكون من المفيد تقسيم الأهداف الأكبر إلى سلسلةٍ من الخطوات الأصغر التي يمكن تحقيقها على نحوٍ أكبر.
أهداف ذكية خاصة بالاكتئاب
-
الشعور بالحزن بنسبة أقل من ٥٠ في المائة، في المتوسط، خمسة أيام في الأسبوع.
-
تقليل وقت النوم؛ ضبط المنبه (والاستيقاظ) أبكر بنصف ساعة كل ثلاثة أيام حتى الاستيقاظ بحلول الساعة الثامنة صباحًا (لمدة ستة أسابيع تقريبًا).
-
الاتصال بالأصدقاء عَبْر الرسائل النصية أو البريد الإلكتروني، وإخبارهم بأنك تمرُّ بوقتٍ صعب، ولكنك ترحِّب بالزوار.
-
الترتيب لمقابلة أحد الأصدقاء لتمشية الكلب.
-
تعزيز التركيز بقراءة الصحف، أو الأخبار على الإنترنت، لمدة عشر دقائق في كل مرة، مرة واحدة على الأقل في اليوم.
-
تناول وجبة مغذِّية كل يوم. يفضَّل طهيها من الصفر. والسعي إلى تناول ثلاث حصص من الفاكهة/الخضراوات يوميًّا.
-
تسوق الطعام عَبْر الإنترنت أيام الأحد.
-
قضاء عشرين دقيقة كل صباح وبعد الظهر، في إتمام المهام المنزلية الأكثر إلحاحًا (الغسيل والتنظيف).
-
الطلب من شريك الحياة تولِّي دَفْع الفواتير في الوقت الحالي.
-
الشروع في ممارسة الرياضة بالمشي لمدة نصف ساعة ثلاث مرات في الأسبوع.
-
التحدُّث إلى صاحب العمل حول العودة التدريجية إلى العمل، بمجرد أن تقل أعراض الاكتئاب بنسبة ٥٠ في المائة.
تكشف الأهداف الذكية بوضوحٍ ما يعمل المريض والمعالِج على تحقيقه، وتسمح لكليهما بتقييم إن كان يُحرَز تقدُّمٌ أم لا. يمكن أن تنشأ الصعوبات عندما لا يتفق المعالِج والمريض على المستهدَف من الأهداف (على سبيل المثال، فقدان الوزن في حالةِ مريض يعاني نقصَ الوزن بالفعل) أو عندما تكون أهداف المريض خارجَ نطاق ما يمكن أن يحقِّقه العلاج السلوكي المعرفي (على سبيل المثال، العثورُ على شريك حياة). قد يكون من الضروري عندئذٍ التفاوضُ على حلٍّ وسط مقبول لكلٍّ من المريض والمعالِج، ويقع ضمن نطاق العلاج السلوكي المعرفي. على سبيل المثال، يجب السعي إلى تقليل القلق الاجتماعي؛ بحيث يشعر المريض بالراحة في المبادرة بالتواصل على مواقع المواعدة عَبْر الإنترنت، أو إلى تقليل توتُّر المريض من خلال الحفاظ على وزن الجسم في النطاق الصحي.
بسيط ومعتمد على المهارات
إن الفلسفة التي يستند إليها العلاج السلوكي المعرفي، والطبيعة التعاونية للعلاقة بين المريض والمعالِج، تعنيان أن المعالِج لا «يعالج» المريض. بل إن دور المعالج هو تسهيل فَهْم المريض لنظرية العلاج السلوكي المعرفي، وصياغة الصعوبات التي يواجهها، وتعلُّم استخدام مهارات العلاج السلوكي المعرفي، لتمكينه من معالجة مشكلاته بنفسه. ونظرًا للتركيز على تعلُّم المهارات في العلاج السلوكي المعرفي، فالممارسة بين الجلسات أو إتمام الواجبات المنزلية هي عنصر أساسي في العلاج؛ فهي بمثابة ساحة تدريب للمريض لممارسة مهاراته المطوَّرة حديثًا، بحيث تكون الجلسات الأسبوعية مع المعالِج بمثابة لقاءاتٍ استشاريةٍ للمريض يتسنَّى له فيها مراجعةُ وصَقْل مهاراته. ومن ثَم، فأحد المكوِّنات الأساسية للعلاج السلوكي المعرفي هو أن المريض يمارس ما تعلَّمه في الجلسات في حياته اليومية. لذا، إذا كان المعالِج والمريض يعملان في الجلسة على تحديدِ الأفكار ذات الصلة، فقد يُطلب من المريض تدوينُ ما يدور في ذهنه في كل مرة يلاحظ فيها نفسه يمر بتغيُّر مزاجي، بمعنى تغيُّر ملحوظ في المشاعر مثل القلق أو الاكتئاب. وسواء أكان قادرًا على إتمام تلك المهمة أم لا، فمن المرجَّح أن يوفِّر هذا معلوماتٍ مفيدة. فإذا لم يتمكَّن من إتمام المهمة، فسيقوم المعالِج باستكشاف ومواجهةِ ما جعل إتمامها صعبًا بالنسبة له، مما قد يؤدي إلى تغييرها أو تطوير الصياغة، حيث سيكون المريض قد حدَّد عقبةً تقف أمام التغيير. ومن ناحية أخرى، إذا كان المريض قادرًا على إتمام المهمة وتحديد أفكاره ذات الصلة، يمكنه الانتقال إلى إعادة تقييم تلك الأفكار.
غالبًا ما تتضمَّن مهامُّ الواجب المنزلي محاولةَ القيام بشيء بشكل مختلف. على سبيل المثال، وَضْع مدرَّج للتعرُّض. لذا، قد يزيد الشخص المصاب برُهاب الأماكن المفتوحة تدريجيًّا من مقدار الوقت الذي يقضيه خارج منزله، والمسافة التي يقطعها. في الواقع، لا يمكن تنفيذُ العديد من المهام السلوكية خلال جلسة العلاج، وهذا لأنها تتطلب أماكنَ معينةً أو مجموعة محدَّدة من الظروف، مثل مركز تسوق مزدحم أو مبنًى شاهق، أو وجود أشخاص معينين. يمكن تنفيذ هذه المهام كمهام واجبات منزلية، وهي توفِّر فرصةً مثالية لتطبيقِ ما تعلَّمه المريض. تُراجَع نتيجةُ الواجب المنزلي في الجلسة التالية. وإذا أهمل المعالِج لأي سبب من الأسباب مراجعةَ مهام الواجب المنزلي، فهو بذلك يرسل رسالةً قد تكون غيرَ مفيدة إلى المريض، مُفادها أن مهام الواجب المنزلي غيرُ مهمة أو أنه لا يهم إذا لم يكملها. وهذا أمرٌ خطير، حيث تشير الأدلة البحثية إلى أن أولئك الذين يكملون مهامَّ الواجبات المنزلية سيستفيدون على الأرجح من العلاج السلوكي المعرفي أكثرَ من أولئك الذين لا يكملونها. لذلك، لا بد أن تُحدَّد مهامُّ الواجبات المنزلية بشكلٍ تعاوني ومخطَّط جيدًا؛ وأن تكون مناسبة وذات صلة ومصمَّمة وفقًا لحالة المريض؛ وأن تُنَفَّذ في سياق علاقة علاجية سليمة ذات منطق واضح؛ وأن تُراجَع بدقة لمساعدة المريض على تحديدِ ما تعلَّمه منها وكيف سيستخدم ذلك للمضي قُدمًا.
من الأفضل تصميم مهمة الواجب المنزلي بشكلٍ تعاوني أثناء الجلسة، حيث يقوم المريض بتدوين المهمة المطلوبة، وتُتاح له الفرصة لطرح الأسئلة أو التفكير في بدائل أخرى. قبل انتهاء الجلسة، سيطلب المعالِج من المريض تلخيصَ المهمة والغرض منها. كذلك، لا بد أن يستفسر المعالِج عن أي عوائقَ محتملة تحول دون قدرةِ المريض على تنفيذ المهمة، أو أي تحفظات لديه بشأن القيام بها. وهذا يتيح الفرصةَ لحل المشكلات المحتملة أو تعديل المهمة في ضوء وجود تحفظات شديدة.
أمثلة على مهام الواجبات المنزلية في العلاج السلوكي المعرفي
-
إكمال استبيانات لقياس الأعراض.
-
الاستماع إلى تسجيل صوتي للجلسة، وتلخيص ما جرى تناوُله وتعلُّمه منها كتابةً.
-
استخدام ورقة عمل لتسجيل الأفكار والمشاعر في المواقف المزعجة.
-
ممارسة مهارات الاسترخاء لمدة ثلاثين دقيقة يوميًّا.
-
استخدام ورقة عمل، لتقييم الأدلة المؤيدة والمعارضة لمعتقَد معين.
-
استخدام ورقة عمل، لتسجيل الأنشطة ومعدَّل الشعور بالمتعة والإنجاز.
-
استخدام ورقة عمل، لتخطيط الأنشطة التي ستكون ممتعة و/أو تعطي إحساسًا بالإنجاز.
-
تنفيذ مهمة تعرُّض؛ على سبيل المثال، إذا كان المريض يخاف من النحل، النظر إلى صور النحل في كتاب.
-
التدرُّب على أن تكون حازمًا، بإخبار صديقٍ لك أنك غير قادرٍ على مساعدته في هذه المرة.
-
إعطاء الأولوية لتلبية احتياجاتك من خلال قضاء بعض الوقت في الاعتناء بنفسك.
كنهجٍ قائم على المهارات، يتضمَّن العلاجُ السلوكي المعرفي أيضًا تثقيف المريض فيما يتعلق بالظواهر النفسية. غالبًا ما يهدف هذا إلى جعلِ تجربة المريض تبدو له طبيعية. على سبيل المثال، يصادف معظم الناس أفكارًا تسلطية، أو درجة من درجات القلق الاجتماعي في مواقفَ، مثل التحدُّث أمام جمهور. قد تساعد معرفة أن مثل هذه التجارب شائعة في التخفيف من مشاعر القلق والخزي. يتضمَّن العديد من اضطرابات القلق حلقة مُفْرغة تتعلَّق بالقلق من التعرُّض لأعراض القلق؛ لذا فالتوعية بطبيعة القلق يمكن أن تكون مفيدة. وبالمثل، قد يكون من المفيد اكتساب المعرفة حول مدى شيوع الاكتئاب وأعراضه الرئيسية، حتى يتمكَّن المريض من فَهْم أن اليأس وصعوبة التركيز والإرهاق قد تكون جميعها أعراضَ اكتئاب، وليست ناجمةً عن ضعف شخصي. بدلًا من ذلك، قد تستهدف التوعية مخاوفَ بعينها لدى المريض، على سبيل المثال، إذا كان المريض يخشى الاختناقَ بقيئه، فقد يكون من المفيد الحصول على معلوماتٍ حول الظروف التي يحتمل حدوث ذلك فيها (أي: عندما يُقمع ردُّ الفعل المنعكس الخاص بالسعال أو التقيؤ، بشكل كبير). الآن وقد نظرنا في سِمات العلاج السلوكي المعرفي وهيكله، وطريقة تقديمه، سيوجِز الفصل الخامس بعضَ الأساليب الرئيسية التي يستخدمها لتحقيق أهدافه.