الاتجاهات والتحديات المستقبلية
حتى الآن، ركَّزنا على ما يمكن أن يُسمى العلاج السلوكي المعرفي التقليدي، أو الخاص بإيرون بيك؛ إذ طُوِّر بشكلٍ أو بآخر مباشرةً من نموذج بيك المعرفي للاضطراب الوجداني. كما هو موضَّح في الفصل الأول، ركَّز العلاج السلوكي المعرفي في بداياته على نظريات التعلُّم؛ الارتباط الشرطي الكلاسيكي والتعلُّم الإجرائي. يُعرف هذا باسم «الموجة الأولى» من العلاج السلوكي المعرفي، وقد ركَّزت «الموجة الثانية» منه بشكلٍ أكبرَ على الأفكار وعناصر معالجة المعلومات. تستند نسختا الموجة الأولى والثانية من العلاج السلوكي المعرفي إلى الفرضية الخاصة بالترابط بين الأفكار والمشاعر والاستجابات الفسيولوجية والسلوكيات؛ لذا فإن تغيير أي جانب واحد سيؤدي إلى تغييرات في الجوانب الأخرى. غالبًا ما يكون هدف التغيير هو الأفكار، حيث إن لها دورًا مركزيًّا في النموذج، ويُعتقد أنها أكثرُ قابلية للتغيير بشكلٍ مباشر من الاستجابات الفسيولوجية أو المشاعر، على سبيل المثال. ومع ذلك، فهناك انتقادٌ للعلاج السلوكي المعرفي وهو أننا نعرف القليل جدًّا عن مسألة تحديد أيٍّ من مكوِّنات العلاج السلوكي المعرفي هو المسئول عن إحداث التغيير. أسفرت الدراسات التجريبية عن نتائجَ مختلِطة، مما دفع لونجمور وَوُريل إلى طرح سؤال «هل نحتاج إلى تحدي الأفكار في العلاج السلوكي المعرفي؟» استُخدِمت «تجارب التفكيك» و«تحليلات المكونات» للتحقُّق مما إذا كان التغيير المعرفي (تغيير الأفكار) ضروريًّا؛ لكي يكون العلاج السلوكي المعرفي فعالًا في تخفيف الأعراض. عادةً ما تتضمَّن تدخلات العلاج السلوكي المعرفي مكوِّنات متعددة، وتحاول تجارب التفكيك أو تحليلات المكونات فصْلَ المكوِّنات المختلفة ومقارنة تأثيرها. على سبيل المثال، وُجِد أن نسخةً من العلاج السلوكي المعرفي للاكتئاب تركِّز فقط على المكونات السلوكية («التنشيط السلوكي») بنفس فاعلية النسخة الأكثر اكتمالًا التي تضمَّنت الاستراتيجيات المعرفية لمواجهة التفكير الاكتئابي. قارن العديد من الدراسات اللاحقة مكوِّنات مختلِفة من العلاج السلوكي المعرفي، أو العلاج السلوكي المعرفي مع وبدون مكون محدَّد، وتوصَّلت إلى نتائجَ متفاوتة. وبينما خلصت المراجعة البحثية المبكرة التي أجراها لونجمور وَوُريل إلى أن «تحليلات المكونات فَشِلت في إظهار أن التدخُّلات المعرفية توفِّر قيمةً مضافةً كبيرةً للعلاج»، لاحظت المراجعات الأحدث التي أجراها كوبريس وآخرون مدى صعوبة التقييم الدقيق للمكونات المنفصلة للعلاج السلوكي المعرفي، وخَلَصت إلى أن «دراسات المكونات المتاحة حاليًّا لا تتمتَّع بالقوة ولا بالجودة الإحصائية؛ لاستخلاص أيِّ استنتاجٍ ذي مغزًى حول المكونات الرئيسية للعلاجات النفسية لاكتئاب البالغين». لذا فإن الأدلة الحالية لا تمكننا من التمييز بسهولة بين المكونات الأكثر فعالية، أو حتى الضرورية، في العلاج السلوكي المعرفي.
في السنوات الأخيرة، يشير العديد من النماذج النظرية إلى أن الأمر يتطلَّب أكثرَ من تغيير محتوى الأفكار. من المعروف منذ فترةٍ طويلةٍ أنه يمكن أن يكون هناك تعارضٌ بين العقل والقلب؛ حيث يَعرف المريض عقليًّا أن خوفه غيرُ واقعي، ولكن هذا لا يكفي لمنعه من الشعور بالخوف. في عام ١٩٩٥، اقتُرِح بديلٌ لفكرةِ أن العلاج السلوكي المعرفي كان فعالًا لأنه غَيَّر محتوى الإدراك. وافتُرِض أن العلاج السلوكي المعرفي قد يكون له تأثيره، من خلال مساعدة المريض على أن يكون قادرًا على التراجع عن أفكاره؛ أي من خلال تسهيلِ الوعي «فوق المعرفي»، وهو إدراك أن الأفكار مجرد أفكارٍ وليست بالضرورة انعكاساتٍ صحيحة للواقع. وفي المقابل، قد يقلل الوعي فوق المعرفي من تفاعل الفرد مع أفكاره.
على هذه الخلفية من التشكيك في المساهمة النسبية للأفكار المتغيرة، اقتُرِحَت أساليبُ «الموجة الثالثة» من العلاج السلوكي المعرفي. تهدف أساليب الموجة الثالثة من العلاج السلوكي المعرفي إلى تعزيز فاعلية الموجتَين الأولى والثانية من العلاج السلوكي المعرفي، من خلال التأكيدِ على استراتيجيات التغيير السياقي والتجريبي. تشمل الموجةُ الثالثة من العلاج السلوكي المعرفي طائفةً واسعة من الأساليب، التي تطوَّر كثيرٌ منها بمعزِلٍ عن الأساليب الأخرى. ما يجمع بين هذه الأساليب هو أنها تختلِف عن العلاج السلوكي المعرفي التقليدي في أنها، بدلًا من تشجيع المرضى على تغيير محتوى أفكارهم من أجل التحكُّم في المشاعر والاستجابات الفسيولوجية والسلوكيات بشكلٍ أفضل، تُشجِّعهم على تغيير علاقتهم بأفكارهم. تُلاحَظ الأفكارُ وتُقبل على أنها أحداثٌ عقلية خاصة، وبخاصة تلك التي تثير القلقَ أو غير المرغوب فيها. ومن ثَم يقلِّل هذا القبول من التجنُّب التجريبي. تشير تقييماتٌ مبكرة إلى أن العديد من نسخ الموجة الثالثة من أساليب العلاج السلوكي المعرفي، يمكن أن يكون فعَّالًا، على الرغم من غياب التركيز التقليدي على تغيير محتوى الإدراك.
العلاجات القائمة على القبول والالتزام واليقظة الذهنية
نشأ أحد أول أساليب الموجة الثالثة من عمل عالِم النفس الأمريكي ستيفن هايز (المولود عام ١٩٤٨) الذي اقترح «نظرية الإطار العلائقي»، وهي تحليل سلوكي للغة والإدراك. تقترح هذه النظرية أن أساس اللغة البشرية؛ ومن ثَم الفكر الإنساني، هو «الترابط». هذا يعني القدرةَ على إنشاء روابط أو ارتباطات بين الأشياء. كان الارتباط الشرطي الكلاسيكي (الذي يُسمَّى أيضًا التعلُّم الارتباطي) قد ركَّز على قوة الارتباطات بين الأشياء، وخاصَّة المثيرات والاستجابات. في المقابل، تؤكد نظرية الإطار العلائقي أن قوةَ الارتباط ليست وحدَها هي المهمة، وإنما أيضًا نوع الارتباط (العلاقة)، وكذلك الأبعاد التي ترتبط عَبْرها المثيرات. شكَّلت نظرية الإطار العلائقي الأساسَ لتطوير نهج الموجة الثالثة من العلاج السلوكي المعرفي المعروف باسم «العلاج بالقبول والالتزام». يعتمد هذا العلاج على فكرةِ أن المعاناة النفسية تنتج عن:
-
التجنُّب التجريبي؛ إذا كنا نخشى شيئًا ما، فإننا نتجنَّبه، مما يمنعنا من معرفةِ ما إذا كانت مخاوفنا بلا أساس، ويحرمنا من فرصِ التعلُّم وتنمية المهارات؛
-
الشَّرَك المعرفي؛ بمعنى أن نقع في شَرَك أفكارنا ونجترَّها بدلًا من التركيز على المجموعة الواسعة من المعلومات المتاحة من خلال حواسنا؛
-
الافتقار إلى المرونة النفسية؛ مما يعني أننا نفشل في التصرف وفقًا لقيمنا الأساسية.
يرى العلاج بالقبول والالتزام أن المعاناة النفسية يمكن تفسيرها من خلال عدة عناصر، وهي: الاندماج مع أفكارك، وتقييم تجربتك، وتجنُّبها، وتعليل سلوكك. والبديل الصحي لهذه العناصر هي قبول ردود أفعالك والحضور في اللحظة الحالية؛ واختيار اتجاه قيم والالتزام به؛ واتخاذ إجراءات في اتجاه القيم التي اخترتها. يعتمد العلاج بالقبول والالتزام على علم النفس السلوكي ويستخدم التدخُّلات التي تتعامل مع المعزِّزات (المكافآت والعقوبات) لإحداث تغييرات في السلوك. بالإضافة إلى ذلك، فإنه يستخدم عمليتَي القبول واليقظة الذهنية لتعزيز المرونة النفسية، ولتطوير الالتزام بالأهداف القيِّمة وعملية تغيير السلوك. المبادئ الأساسية الستة الموضَّحة في المربع التالي تشكِّل أساسَ الأساليب العلاجية المستخدَمة في العلاج بالقبول والالتزام.
المبادئ الأساسية للعلاج بالقبول والالتزام
-
الفصل المعرفي: تعلُّم الطرق التي من شأنها تقليلُ الميل إلى اختبار الأحداث العقلية (الأفكار، الصور، العواطف، الذكريات) باعتبارها انعكاساتٍ مطلَقة للواقع.
-
القبول: السماح للأفكار بأن تغدوَ وتروح دون المجاهدة للسيطرة عليها.
-
الحضور في اللحظة الحاضرة: الوعي باللحظة الحالية، واختبارها بانفتاح واهتمام وتقبُّل.
-
مراقبة الذات: اختبار شعور متسامٍ بالذات واستمرارية الوعي.
-
القيم: تحديد القيم والأهداف الأكثر أهمية لذات المرء الحقيقية.
-
العمل المتَّسم بالالتزام: تحديد الأهداف وفقًا للقيم والسعي من أجل تنفيذها بمسئولية.
مثل الكثير من نظريات معالجة المعلومات، يفترض العلاج بالقبول والالتزام أن هناك نوعَين من «أنماط العقل» أو أنظمة معالجة المعلومات. أحد النمطَين هو نظام حل المشكلات القائم على التناقض، والذي سهَّل تطوُّرنا إلى النوع المهيمن. يلاحِظ هذا النظام التناقضَ بين حالتنا الحالية وحالتنا المرجوَّة ويسعى إلى تقليل هذا التناقض. يعمل هذا بشكلٍ جيدٍ للغاية مع حالاتٍ مثل الجوع، يمكن تقليلها بشكلٍ مباشرٍ من خلال سلوك الأكل. ومع ذلك، فإنه لا يعمل بشكل جيد مع المشاعر السيئة؛ فمجرد محاولة أن تكون أقلَّ خوفًا أو حزنًا قد يؤدي إلى تقوية هذا الشعور، على سبيل المثال، من خلال خلْق الخوف من الخوف أو اليأس بشأن الاكتئاب. خيرُ مثال على ذلك هو التأثير المتناقض لقمع الفكر؛ إذا أغمضت عينَيك وحاولت جاهدًا ألَّا تفكرَ في أرنبٍ وردي، فمن المرجَّح أكثر أن تُشتِّت انتباهك بأفكارٍ متعلقةٍ بالأرانب أكثر مما لو لم تكن تحاول جاهدًا ألَّا تفكر في الأرانب. على عكس ما هو متوقَّع، كلما حاولت تقليلَ المشاعر السيئة أو الهروب منها، استمرَّت أكثر. وقد يكون جهد محاولة الهروب منها، عادةً عن طريق التجنُّب، والقيود التي تجلبها معه، مكلفًا ومعوِّقًا.
يهدف العلاج بالقبول والالتزام إلى زيادة المرونة النفسية وتقليل التجنُّب الوجداني. إحدى الطرق التي يتم بها ذلك هي من خلال تشجيع المريض على التفريق بين ما هو تحت سيطرته وما ليس ذلك. غالبًا ما تكون مشكلات الحياة الواقعية، لأسبابٍ تقع خارج نطاق الجسم، مثل الجوع أو الشعور بالبرد، تحت سيطرتنا، ويمكننا حلُّها بجهدٍ مُوَجَّه. ومع ذلك، غالبًا ما تفشل جهودنا في السيطرة على الحالات الانفعالية السلبية، وقد تتفاقم بسبب محاولات السيطرة عليها أو تجنُّبها. لذلك يشجِّع العلاج بالقبول والالتزام المريضَ على إدراك أنه لا يمكنه التحكُّم في تجربته الوجدانية الداخلية، ولكن يمكنه التعامل معها بفضول ويقظة، وقبولها وتحمُّلها. يستخدم العلاج بالقبول والالتزام تشبيهاتٍ مثل الركَّاب في الحافلة لإثبات ذلك، ومساعدة المريض على إعادة التركيز على أهدافه والتصرُّف وفقًا لذلك، بغض النظر عن الأحداث العقلية المشتِّتة للانتباه.
تمرين ركَّاب الحافلة
ركَّاب الحافلة هو تمرين يُستخدَم في العلاج بالقبول والالتزام لمساعدة المرضى على أن يصرفوا انتباههم عن أفكارهم ومشاعرهم ولتعزيزِ المرونة النفسية. يُطلَب من المريض أن يتخيَّل أنه يقود حافلة. تتَّجه الحافلة نحو أهداف حياته القيِّمة. في الطريق، ينضم ركَّاب إلى الحافلة أو يغادرونها. بعض الركَّاب محايدون، والبعض الآخر إيجابي ومشجِّع. لكن بعضهم انتقادي، أو سلبي، أو مشتِّت، أو مزعِج. قد يحاول هؤلاء الركَّاب إقناعَ المريض بإبطاء الحافلة، أو تحويلها في اتجاهٍ مختلف، حتى لا يتجه نحو أهدافه القيِّمة. قد يقوم المعالِج بلعب دور أحد هؤلاء الركَّاب، ويطلب من المريض أن يتدرَّب على الطريقة التي يريده أن يستجيب بها. هل يوقف الحافلة؟ هل يحوِّل اتجاهها؟ هل يستسلم؟ هل يصرف انتباهه بواسطة حجةٍ لتبرير طريقه؟ أم يواصل نحو وجهته؟ ومثل الأفكار التي تخطر بأذهاننا، لدينا خيارٌ بشأن مِقدار الاهتمام الذي نوليه لمختلِف «ركَّاب الحافلة»، وإلى أي مدًى نتركهم يزعجوننا أو يحوِّلوننا عن طريقنا.
هذا المبدأ المتعلِّق بقبول التجربة الوجدانية تشترك فيه نُهج أخرى قائمة على اليقظة الذهنية. كان جون كابات-زين، أثناء عمله في كلية الطب بجامعة ماساتشوستس، من أوائل مَن دمجوا ممارسات التأمُّل العلاجي في التدخُّل النفسي. في كتابه «حياة كارثية تمامًا: استخدام حكمة جسدك وعقلك لمواجهة التوتر والألم والمرض» الذي ظهر عام ١٩٩٠، دمج ممارسات التأمل اليقِظ في برنامجٍ للحد من التوتر، لمساعدة الناس على التعامل مع التوتر والقلق والألم المزمن. اليقظة الذهنية هي خاصيةُ الحضور والانخراط الكامل في الحاضر. أي: مع كلِّ ما نقوم به أو نختبره حاليًّا؛ متحررين من الإلهاء أو إصدار الأحكام، ومدركين لأفكارنا ومشاعرنا دون أن نعلِّق فيها. يمكن تدريب هذا الوعي اللحظي (اليقظ) من خلال مجموعة متنوِّعة من ممارسات التأمل، والتي تُطَبَّق بعد ذلك على المواقف اليومية. ينصبُّ التركيز على العيش في الحاضر مع قبول تجربتنا الحالية، مهما كانت.
قد يبدو الجمْع بين اليقظة الذهنية وأساليبِ العلاج المعرفي التقليدية أمرًا غيرَ منطقي؛ فكيف يمكنك مجابهةُ أفكارك في العلاج السلوكي المعرفي التقليدي (الموجة الثانية) مع قبولها أيضًا بيقظة ذهنية؟ قد لا تكون قادرًا على فِعل الأمرَين معًا، لكن العلاج المعرفي القائم على اليقظة الذهنية يرى أنه من المفيد أن تكون لديك هاتان الأداتان في ترسانة الأسلحة الخاصة بك، ثم تختار أيهما تستخدم وفقًا للموقف.
مثل معظم نظريات العلاج السلوكي المعرفي، يعتمد العلاج المعرفي القائم على اليقظة الذهنية على نظرية أو نموذج نظري؛ نموذج «الأنظمة الفرعية المعرفية المتفاعلة» لمعالجة المعلومات، الذي يرى العقلَ على أنه نتاجُ مكونات متفاعلة. يتلقى كلٌّ من هذه المكونات معلوماتٍ من الحواس وكذلك من المكونات الأخرى للعقل، مما يؤدي إلى إنشاء شبكة تفاعلية يجري من خلالها تنشيط الأنماط المتكررة استجابةً للمثيرات. من المفترض أن أولئك الذين عانَوا دوراتٍ اكتئابية قد «مهَّدوا الطريق» للتفكير والشعور بنمط الاجترار الاكتئابي أكثرَ من أولئك الذين لم يختبروا الاكتئاب؛ ومن ثَمَّ يزيدون من احتمالية تعرُّضهم لمزيدٍ من نوبات الاكتئاب. سُمِّيت الأنماط المتكررة للتفاعل بين المكونات العقلية ﺑ «أنماط العقل» وتُقارَن بتروس المحرِّك، من ناحيةِ أن كل ترس له وظيفة ويمكن تنشيط تغيير التروس تلقائيًّا أو عن قصد. يشبه تغيير التروس، أو أنماط العقل، توزيعَ الانتباه؛ ومع أن هناك طريقةً تلقائية للرد على موقف معيَّن، إلا أنه يمكن تجاوزه من خلال إعادة المعايرة المتعمَّدة. وكما هو الحال مع السيارة، يمكن للعقل أن يكون في حالةِ تعشيق لترس واحد فقط في كل مرة. يهدف العلاج المعرفي القائم على اليقظة الذهنية، إلى مساعدة الشخص على التعرُّف على ما إذا كان ترسٌ عقلي أو نمط عقل ما غير مفيد، حتى يتمكَّن من اختيار الانسحاب منه والتحوُّل إلى نمطٍ أكثرَ تكيفًا أو فائدة. يُنظر إلى اليقظة الذهنية على أنها نمطٌ لا يتوافق مع نمط الاجترار التقليدي للاكتئاب؛ ولذلك يمكن أن يكون مفيدًا في مساعدة الشخص على الابتعاد عن نمط التفكير الاكتئابي.
عادةً ما يُقدم العلاج المعرفي القائم على اليقظة الذهنية على أنه برنامجٌ مدته ثمانية أسابيع، يتعلَّم فيه المشاركون ملاحظةَ أفكارهم ومشاعرهم، من خلال الممارسة المتكررة لإعادة الانتباه عن عمدٍ إلى شيءٍ أو جانب مادي من أنفسهم، مثل تنفُّسهم أو أحاسيسهم الجسدية. يتعلَّم المشاركون كيفيةَ تنمية الوعي التجريبي المباشر والتقبُّل المتجرِّد من إصدار الأحكام لأي شيء يظهر في كل لحظة، بما في ذلك الحالات المزاجية السلبية التي تثير القلق والتفكير السلبي. تُمكِّن تنميةُ الوعي من خلال ممارسة اليقظة الذهنية المشاركين من التعرُّف على وقت إثارة الاستجابات السلبية والاجترارية للأفكار، مما يسهِّل بدوره تطويرَ شعور بالانفصال عن أنماط التفكير هذه، من خلال رؤيتها على أنها أحداث عقلية، وليست انعكاسات مطلَقة للواقع. وعلى النقيض من العلاج السلوكي المعرفي التقليدي، حيث كان التركيز منصبًّا تقليديًّا على تغيير محتوى الأفكار، يركِّز العلاج المعرفي القائم على اليقظة الذهنية، على تعزيز الوعي فوق المعرفي للأفكار، بالإضافة إلى الأحداث العقلية الأخرى، وعلى تعديل العمليات فوق المعرفية التي كانت تحافظ على حالاتٍ عقليةٍ تفاعليةٍ أو اجتراريةٍ غير مفيدة.
طُوِّر العلاج المعرفي القائم على اليقظة الذهنية في الأصل استجابةً لطبيعة الاكتئاب الشديدة الانتشار والانتكاسية على نحوٍ مُزمِن. من المعروف منذ فترة طويلة أنه حتى بعد زوال الاكتئاب، فإن معظم الأشخاص الذين عانَوا نوبة اكتئاب واحدة سيستمرون في التعرُّض لنوبةٍ أخرى منه. وكلما زاد عددُ النوبات التي تعرَّضتَ لها، زاد احتمالُ تعرُّضك لنوبات أخرى، حيث وجدت بعض الدراسات أن ٨٠ في المائة من أولئك الذين عانَوا نوبتَين من الاكتئاب سيظلُّون يتعرَّضون لنوباتٍ أخرى منه. تمثِّل الطبيعة المتكررة للاكتئاب وانتشاره الشديد تحديًا كبيرًا من حيث نطاق العلاج اللازم. وهكذا، طُوِّر العلاج المعرفي القائم على اليقظة الذهنية باعتباره تدخُّلًا فعَّالًا من حيث التكلفة، وجماعيًّا، ومصمَّمًا لاستهداف العمليات المعرفية (مثل الاجترار والتفاعلية المعرفية المرتفعة) مما يجعل الأفراد المكتئبين عرضةً للانتكاس المتكرِّر وعودة الأعراض. لقد ثبَت أن هذا العلاج يعكس العمليات التي يُفترض أنها تشكِّل أساسَ علم النفس المَرضي الاكتئابي، ويقلِّل خطر الانتكاس على الأقل كما لو كان المريض يواصل تناولَ الأدوية المضادة للاكتئاب. وعلى الرغم من أنه مصمَّم في الأصل للمرضى المصابين باكتئاب في حالة خمود، تشير الدراسات الأولية إلى أن العلاج المعرفي القائم على اليقظة الذهنية قد يكون مفيدًا لطائفةٍ واسعة من مشكلات الصحة العقلية، بما في ذلك الاضطراب الثنائي القطب، واضطراب القلق العام، واضطراب الهلع، ومتلازمة التعب المزمن، والذهان، وكذلك أشكال الاكتئاب المزمنة والمقاومة للعلاج والانتحارية (انظر قسم القراءات الإضافية للحصول على مراجعات حول كفاءة تدخُّلات العلاج المعرفي القائم على اليقظة الذهنية).
نظرًا لأن علاجات الموجة الثالثة هي تطوُّر حديث نسبيًّا، فإن قاعدة الأدلة التي تدعَم كفاءتها في مرحلة مبكرة نسبيًّا. ومع ذلك، وجدت مراجعة منهجية واحدة وتحليلٌ بَعدي لستين تجربة عشوائية مضبوطة للعلاج بالقبول والالتزام، تشتمل على ما مجموعه ٤٢٣٤ مشاركًا، أنه على الرغم من أن قاعدة الأدلة الخاصة بالعلاج بالقبول والالتزام لم تترسَّخ بعدُ لأي اضطراب، فمن المحتمل أنه فعَّال مع الألم المزمن وطنين الأذن، وربما يكون فعَّالًا مع الاكتئاب، والأعراض الذهانية، واضطراب الوسواس القهري، والقلق المختلط، وتعاطي المواد المخدرة، والتوتر المرتبط بالعمل. وبالمثل، تضمَّنت مراجعةٌ منهجية وتحليلٌ بَعدي للعلاج المعرفي القائم على اليقظة الذهنية؛ ستَّ تجارب عشوائية مضبوطة لما يقرُب من ٦٠٠ مريض، ووجدت أن هذا العلاج قلَّل بشكلٍ كبير من خطر الانتكاس إلى الاكتئاب. وبينما أظهرت تجاربُ أولية لكلٍّ من العلاج بالقبول والالتزام والعلاج المعرفي القائم على اليقظة الذهنية؛ نتائجَ واعدة، هناك حاجة إلى مزيدٍ من التجارب المُحكَمة من الناحية المنهجية، قبل أن يكون بوسعنا أن نكون واثقين من أن أساليب الموجة الثالثة هذه ذات فاعلية مماثلة لفاعلية العلاج السلوكي المعرفي الأكثر تقليدية. هناك مرحلةٌ أخرى لتدخُّلات العلاج السلوكي المعرفي المستجَدة، مثل العلاج بالقبول والالتزام والعلاج المعرفي القائم على اليقظة الذهنية وهي تعميمها؛ أي عبور الفجوة بين كونها قيد التطوير، غالبًا في بيئة أكاديمية، واستخدامها على نطاقٍ واسعٍ في الممارسة السريرية الروتينية.
تعميم تدخُّلات العلاج السلوكي المعرفي
يُعَد عبور الفجوة من تجارب الكفاءة إلى الممارسة الروتينية، أو علم التطبيق، تحديًا شائعًا للعديد من التدخُّلات النفسية الجديدة. في بعض النواحي، يمكن اعتبار العلاج السلوكي المعرفي ضحيةً لنجاحه؛ فقد دفعت كفاءته المثبتة في علاج مشكلات الصحة العقلية الشائعة، إلى جانب التحليلات الاقتصادية التي تحدِّد التكاليفَ الباهظة لحالة المرضِ العقلي غيرِ المعالَج، المنظماتِ الحكوميةَ والمهنية إلى دعمِ توفير العلاج السلوكي المعرفي على نطاقٍ واسع لعامة السكان، ليس فقط في المملكة المتحدة، ولكن أيضًا في الولايات المتحدة الأمريكية وأماكنَ أخرى من العالم. ومع ذلك، ومع بعض الدراسات التي تشير إلى أن ما يصل إلى ٢٠ في المائة من السكان يعانون القلقَ أو الاكتئاب في أي سنة من السنوات، فإن أحدَ أكبر التحديات التي تواجه تطبيقَ العلاج السلوكي المعرفي هو حجم المشكلة (المشكلات) التي يحاول معالجتها. وقد أدَّى هذا التحدي المتمثِّل في زيادة توفير العلاج السلوكي المعرفي، إلى تطوُّره وتكيُّفه على نحوٍ أكبر.
كانت إحدى الاستجابات الأولى والأهم للحاجة المحدَّدة غير الملبَّاة، لمواجهةِ مشكلاتِ الصحة العقلية غيرِ المعالَجة، هي محاولة زيادة أو «توسيع نطاق» توفير العلاج السلوكي المعرفي لعامة الناس. على سبيل المثال، في عام ٢٠٠٨ التزمَت حكومة المملكة المتحدة بمبادرةٍ واسعةِ النطاق ﻟ «تحسين الحصول على العلاجات النفسية» ضمن خدمة الصحة الوطنية في المملكة المتحدة. العلاجات النفسية المقدَّمة هي تلك التي هناك أبحاثٌ مهمة تُظهر أنها فعَّالة، وبهذا تُعتَبَر «مستندة إلى أدلة». وفي حين أن العلاج السلوكي المعرفي هو عادةً نموذجُ العلاج المستخدَم، فمن المتوقَّع أن تقدِّم خدمات المبادرة للمرضى إمكانية اختيار أحد التدخُّلات النفسية الأخرى المستندة إلى أدلة، مثل الإرشاد النفسي والعلاج التفاعلي. توسَّعت المبادرة عامًا بعد عام وهي تقدم حاليًّا المساعدةَ لأكثر من ٩٠٠ ألف شخص، يعانون مشكلاتِ الصحةِ العقلية الشائعة كل عام. الهدف هو أن يستوفيَ نصف أولئك الذين عولجوا معاييرَ «الشفاء»؛ أي أن ينتقلوا من تسجيلِ ما يزيد عن القيمة الحدية للتشخيص السريري للحالة، إلى تسجيلِ ما هو أقل من ذلك، بعد العلاج. بالإضافة إلى ذلك، يُعتبر الوضع الوظيفي معيارًا للنتائج؛ ولذلك يُولى الاهتمام بتسهيل العودة إلى العمل. وفي حين أن توفير تدخُّلات العلاج السلوكي المعرفي على هذا النطاق الواسع لا يخلو من التحديات، فقد جرى الوفاء إلى حدٍّ كبير بأهداف التعافي الخاصة بالمبادرة، والعديد من أولئك الذين لا تفي نتائجهم بمعايير التعافي مع ذلك يختبرون تحسنًا كبيرًا.
تستخدم خدمات المبادرة نموذجَ رعاية «متدرجة» أو «متوائمة». وهو ما يعني نظامًا لتقديم العلاج ومراقبته بحيث يُقَدَّم أولًا العلاج الأكثر فاعلية، وفي نفس الوقت الأقل استنزافًا للموارد؛ مع «الارتقاء» فقط إلى خدماتٍ أكثرَ تكثيفًا أو تخصصية حسب الحاجة السريرية. لتبسيط تقديم الخدمة في هذا النموذج، قُسِّمَت تدخُّلات العلاج السلوكي المعرفي إلى تدخُّلات «مرتفعة» و«منخفضة» التكثيف. التدخُّلات المرتفعة التكثيف هي التدخُّلات التقليدية للعلاج السلوكي المعرفي التي نوقشت في هذا الكتاب بأسْره، والتي عادةً ما تكون من اثنتي عشرة إلى عشرين جلسة من العلاج السلوكي المعرفي المدفوع بصياغة الحالة، والتي يقدِّمها معالِج متخصِّص في العلاج السلوكي المعرفي مدرَّب تدريبًا كاملًا لمريض منفرد. ومع ذلك، يُعَد هذا تدخلًا مستنزِفًا نسبيًّا للموارد؛ لذا فقد جرى التساؤل عما إذا كان يمكن لتدخل العلاج السلوكي المعرفي الأقل استنزافًا للموارد أن يكون فعالًا أيضًا، خاصة لأولئك الذين يعانون مشكلاتٍ خفيفةً إلى متوسطة. لتوفير مثل هذه التدخُّلات، استُحْدِث الدور الجديد لممارس العلاج السلوكي المعرفي المنخفض التكثيف؛ وهو معالِجٌ غير مُدَرَّبٍ تدريبًا كاملًا لتقديم تدخُّلات العلاج السلوكي المعرفي المرتفعة التكثيف، ولكنه مُدَرَّب تحديدًا على تقديم تدخُّلات أقلَّ تكثيفًا لأعدادٍ أكبرَ من المرضى. غالبًا ما يُطلق على هؤلاء الممارسين اسم «ممارسو الرفاهة النفسية» ليعكس دورَهم في التعامل مع مشكلات الصحة العقلية الخفيفة إلى المتوسطة الأكثر شيوعًا.
تدخُّلات العلاج السلوكي المعرفي المنخفضة التكثيف
الهدف الأساسي من تدخُّلات العلاج السلوكي المعرفي المنخفضة التكثيف، لا يختلف عن ذلك الخاص بتدخُّلات العلاج السلوكي المعرفي المرتفعة التكثيف؛ وهو توظيف العلاجات المعرفية والسلوكية للتخفيف من أعراض الضيق النفسي لدى المريض. الاختلاف هنا هو تكثيف الأساليب المستخدَمة مع فكرةِ أن استخدام نُهجٍ أقلَّ تكثيفًا سيعني أنه يمكن توفير نفس المورد العلاجي لمزيد من المرضى؛ ومن ثَمَّ زيادة توفُّر تدخُّلات العلاج السلوكي المعرفي لأولئك الذين يحتاجون إليها. ويهدف العلاج السلوكي المعرفي المنخفض التكثيف أيضًا، إلى زيادة إمكانية الوصول إلى العلاج السلوكي المعرفي، عن طريق تقليل أو إزالة الحواجز التي تحول دون الوصول إلى التدخُّلات. من وسائل إزالة تلك الحواجز، على سبيل المثال، عدمُ مطالبة المرضى بحضور الجلسات وجهًا لوجه. بدلًا من ذلك، يمكن تقديم التدخُّلات عَبْر الهاتف أو عَبْر الكمبيوتر. هناك العديد من النسخ المختلفة من العلاج السلوكي المعرفي المحوسب، بدءًا من برامج الكمبيوتر التي تدرِّبك على استخلاص تفسيراتٍ أكثرَ إيجابية لسيناريوهات غامضة؛ ومن ثَمَّ تسهيل تطوير تحيزات تفكير أكثرَ إيجابية إلى البرامج التعليمية القائمة على المساعدة الذاتية، التي توضِّح وتحاول تعليمَ مهارات العلاج السلوكي المعرفي الأساسية، مثل مراقبة الحالة المزاجية ومواجهة الأفكار. في الواقع، يمكن أيضًا تقديمُ العلاج السلوكي المعرفي الفردي التقليدي عَبْر جهاز كمبيوتر، وهو مفيدٌ للمرضى خاصَّة الذين قد يجدون صعوبةً في حضور الجلسات وجهًا لوجه (على سبيل المثال، القاطنون في أماكنَ بعيدة جغرافيًّا؛ أو ذوو الإعاقة) أو في المواقف التي يتعيَّن فيها أن يكون التواصل وجهًا لوجه محدودًا (على سبيل المثال، كما كان الحال أثناء جائحة كوفيد-١٩). ثمَّة تعديل مختلف لا يقلِّل بالضرورة من وقت المعالِج، ولكنه قد يزيد من إمكانية الوصول إلى العلاج، وهو توفير تدخُّلات مكثفة من العلاج السلوكي المعرفي. على سبيل المثال، ثَبَت أن العلاجَ السلوكي المعرفي لمرض الرُّهاب الذي يُجرى على مدار يوم واحد؛ فعَّال بنفس القَدْر مثل العلاج السلوكي المعرفي الذي يُجرى على مدار عدة جلسات أسبوعية أقصر. وبالمثل، أظهر العديد من الدراسات أن اثنتي عشرة إلى عشرين ساعة من العلاج السلوكي المعرفي الذي يجري تقديمه في أسبوع واحد لا يقل فاعلية عن الجلسات التي تُقدم على فترات أسبوعية. هذه التغييرات في بروتوكول تقديم العلاج القياسي مفيدةٌ للمرضى، الذين قد لا يكونون قادرين على حضور اثنتي عشرة إلى عشرين جلسة أسبوعية، ولكن يمكنهم الحضور كلَّ يومٍ لمدة أسبوعٍ واحد (على سبيل المثال؛ لأن قيود العمل أو السفر تجعل الجلسات الأسبوعية على مدى فترة أطول غير عملية).
هناك طريقةٌ أخرى يمكن من خلالها زيادةُ إمكانية الوصول إلى العلاج؛ وهي استخدام تكثيف أقل لمورد المعالِج، لعدد أكبر من المرضى. يمكن فِعل ذلك من خلال توفير تدخُّلات أكثرَ إيجازًا؛ إما جلسات أقل أو أقصر؛ أو عن طريق زيادة نسبة المرضى إلى المعالِج؛ كما هو الحال في العلاج الجماعي. غالبًا ما تُدَعَّم التدخُّلات الأقل تكثيفًا من خلال زيادة استخدام المواد المكتوبة، وأساليب المساعدة الذاتية مثل المراقبة الذاتية وأوراق العمل. قد تتضمَّن بعض التدخُّلات أيضًا عروضَ فيديو لقضايا محدَّدة أو عروضَ مهارات معينة. في نموذج التكثيف المنخفض، غالبًا ما يكون دَور المعالج أقربَ إلى دَور المعلم أو المُيَسِّر الذي يتمثل دوره في توجيه المساعدة الذاتية للمريض، أو تنمية المهارات الخاصة به، مع تركيزٍ أقلَّ نسبيًّا على العلاقة العلاجية.
يمكن أن تكون العلاجات الجماعية أيَّ شيء، من معالِج واحد يقدِّم ورشةَ عمل للتحكم في التوتر لمئات الأشخاص إلى مجموعاتٍ علاجيةٍ أصغرَ تركِّز على مشكلات محدَّدة، مثل الاعتداء الجنسي على الأطفال. النمط التعليمي المنظَّم للعلاج السلوكي المعرفي مناسبٌ للبيئات الجماعية لاستخدامه لعناصر مثل إعداد جدول الأعمال، وتعلُّم المهارات (على سبيل المثال، جدولة الأنشطة أو التصدي للأفكار)، واستخدام مهام الواجبات المنزلية والتقييم. بالإضافة إلى تزايد درجة الكفاءة في استخدام وقت المعالِج، فإن تقديمَ العلاج السلوكي المعرفي في بيئةٍ جماعيةٍ له مزايا أخرى أيضًا. عادةً ما يكون أعضاء المجموعة داعمين لبعضهم، وحقيقة أن المجموعة تتكوَّن من مرضى يعانون مشكلاتٍ متشابهةً هي علاج في حدِّ ذاته؛ فهي تجعل المشاركين يدركون أنهم ليسوا الوحيدين الذين يعانون هذه المشكلة، مما يجعلها تبدو أمرًا طبيعيًّا، ويحتمل أن يقلِّل هذا من الشعور بالخزي. قد يكون أعضاء المجموعة أيضًا مصادرَ مفيدةً للمعلومات فيما بينهم، حيث يمكنهم مشاركةُ ليس فقط تجاربهم، ولكن أيضًا تفاصيل استراتيجيات التأقلم والموارد التي وجدوها مفيدة. يمكن أن يكون أعضاء المجموعة أيضًا مساعدين مفيدين عند إجراء تجارب سلوكية (على سبيل المثال، إجراء مسح لمواقف الأشخاص) أو مهام علاجية أخرى، يلزم فيها وجود مساعد. تتشابه تحديات تقديم العلاج السلوكي المعرفي الجماعي مع تلك الموجودة عند توفير أيِّ تدخُّلٍ جماعيٍّ علاجي. هناك فرصةٌ أقلُّ لتكييف التدخُّل مع الظروف الفردية للشخص ومعتقَداته أو سلوكياته الفردية؛ ومن طرقِ التغلُّب على هذا أن يكون للمشاركين في المجموعة صياغاتُ حالةٍ فردية. علاوة على ذلك، يجب التحكم في ديناميكيات المجموعة، حيث يوجد احتمال أن يكون لأعضاء المجموعة تأثيراتٌ غير مفيدة بعضهم على بعض؛ مثال ذلك عندما يفرض أحدُ الأعضاء سيطرته أو ينتقد الآخرين، أو عندما يكافح أعضاء المجموعة للتواصل بشكلٍ مفيد فيما بينهم. قد يجد بعض الأفراد، على سبيل المثال، أولئك الذين يعانون قلقًا اجتماعيًّا كبيرًا، أن إطار البيئة الجماعية ينطوي على تحدياتٍ خاصة، أو قد يجدون البيئة الجماعية مقيدةً عندما يتعلَّق الأمر بالكشف عن معلوماتٍ شخصية. غالبًا ما تُقَدَّم التدخُّلات الجماعية من قِبل اثنين من المعالجين؛ لمواجهة التحديات الإضافية الخاصة بالتحكُّم في ديناميكيات المجموعة، ولتكييف التدخُّل وفقًا لاحتياجات الأفراد، مع تقديم المحتوى المخطَّط للجلسات. من حيث النتائج، تختلف الأدلةُ على كفاءة تدخُّل العلاج السلوكي المعرفي الجماعي عَبْر أنواعٍ مختلفةٍ من المشكلات والمرضى. فيما يتعلَّق بما إذا كانت فعَّالة من حيث التكلفة، يجب أن نتذكَّر أن الجلسات الجماعية عادةً ما تكون أطولَ من الجلسة التقليدية، التي تستغرق ساعة واحدة؛ وغالبًا ما يكون بها أكثرُ من معالج؛ وقد تستلزم المزيد من التحضير من المعالج والمزيد من وقت المراجعة. كما يمكن أن تكون معدَّلات التسرُّب كبيرة. ومع أن التقارير تفيد بوجود نتائج علاجية إيجابية، يمكن أن يكون قَدْر التأثير أقل، وكان ثمة شكوكٌ حول ما إذا كان العلاج الفردي أكثرَ ملاءمة للأشخاص الذين يعانون أعراضًا أكثرَ تعقيدًا أو شدة.
تُعَد المساعدة الذاتية والتدخُّلات الجماعية جزءًا لا يتجزَّأ من نماذج الرعاية المتدرِّجة، حيث يُقدَّم التدخُّل الأقل تكثيفًا أولًا للمريض، ولا يُقدم تدخُّل أعلى تكثيفًا إلا إذا لم يكن التدخُّل الأقل تكثيفًا كافيًا لحل الصعوبات التي يواجهها. ومع أن لهذا فوائدَ واضحة من ناحية الموارد في كونه استخدامًا فعالًا للخدمات، فإنه ينطوي على مجازفة أنه قبل أن يحصل شخصٌ ما على النسخة الأكثر فعالية من العلاج السلوكي المعرفي، عليه أن يفشل في العديد من النسخ الأقل تكثيفًا، مما يؤدي إلى المخاطرة بالتخلِّي عن الأسلوب قبل أن يكون لديه الفرصة الأفضل للاستفادة منه. ومن ثَم انتقلت الخدمات نحو نماذج «الرعاية المتوائمة»؛ حيث يهدف المعالج الذي يُجري التقييم الأولي إلى تحديد مستوى التدخُّل الذي من المرجَّح أن يكون أفضلَ مواءمةً لمريض معيَّن. هذا يعني أنه، إذا لزم الأمر، سيبدأ عملية العلاج عند «مستوى» أعلى مما كان سيفعل مع النظام السابق.
ملاحظات ختامية
سعى هذا الكتاب إلى تقديمِ لمحة عامة عن ماهية العلاج السلوكي المعرفي، وما يفعله، وكيف يفعله، ولمَنْ، وفي أي سياقات. تتمثَّل إحدى النقاط الرئيسية في هذا الإطار في أن هذا العلاج ليس علاجًا يعتمد على نهجٍ واحدٍ يناسب الجميع، وإنما يشمل طيفًا واسعًا من النُّهج المعرفية والسلوكية التي استمرت في التطور. وبينما ركَّزت التدخُّلات المبكرة على تعديل السلوك الذي يمكن ملاحظته، تطوَّر العلاج السلوكي المعرفي وصار يولي مزيدًا من التركيز على الأفكار والعمليات المعرفية الأخرى. في الآونة الأخيرة، نقلتْ نُهج الموجة الثالثة التركيزَ بعيدًا عن محتوى الأفكار إلى علاقة الفرد بأفكاره، والعمليات الكامنة وراء التفكير. كانت إحدى القوى الدافعة وراء تطوُّر هذا العلاج ونجاحه هي روابطه الوثيقة بالبحوث التجريبية. وهو يرحِّب بالتقييم العلمي داخل الجلسة وخارجها، حيث يُقَيِّم المعالجون تأثير المناورات العلاجية الفردية، وكذلك التأثير الكلي لتدخلات هذا العلاج مقارنةً بالعلاجات الأخرى.
على الرغم من الشعبية الكبيرة التي اكتسبها العلاج السلوكي المعرفي في السنوات الأخيرة، فلا بد أن يواصل التطور لمواجهة التحديات المستمرة والجديدة. يدعو حجم مشكلات الصحة العقلية والتكلفة العالية للعلاج التقليدي، لحدوث تطورات في الأساليب الأقل تكثيفًا التي يمكن أن تصل إلى جماهيرَ أوسع. وبالمثل، فإن حجم تدريب الأشخاص اللازمين لتنفيذ التدخُّلات قد شكَّل تحديًا، حيث أصبح البحث عن أكثر الطرق فعالية وكفاءة لتدريب المعالجين ومراقبة كفاءتهم مجالًا آخر للتطوير المستقبلي. يرتبط بهذا تحديدُ الكيفية التي يجب أن تكون عليها تدخُّلات العلاج السلوكي المعرفي الفردية، مع كون الوضع المثالي هو التدخُّل الذي يعالج ما هو شائع بين معظم المرضى الذين يعانون هذا الاضطراب، دون إهمالِ ما يختصُّ بفردٍ معيَّن. هناك مجالٌ آخر مثير للاهتمام وهو استقصاء كيفية تفاعل العلاج السلوكي المعرفي مع الأدوية النفسية. لا تزال هناك تساؤلاتٌ بشأنِ أكثر مزيجٍ فعالٍ من العلاج السلوكي المعرفي والأدوية، لعلاج القلق والاكتئاب. بالإضافة إلى ذلك، أشارَت الأبحاث الحديثة إلى أنه قد يكون هناك دورٌ للتدخلات المعزَّزة دوائيًّا؛ أي الجمع بين الأدوية (التي تستهدف أنظمةً كيميائية عصبية معينة) وتدخُّلات معينة من العلاج السلوكي المعرفي (مثل التعرض)، لتعزيز آثارها في تقليل القلق. تتناسب الطبيعة التجريبية للعلاج السلوكي المعرفي مع توليد البيانات حول فائدة مثل هذه الأساليب، وعند الاقتضاء، دمجها في النُّسخ المستقبلية من العلاج السلوكي المعرفي. يجب أيضًا أن نتذكَّر أن العلاج السلوكي المعرفي ليس العلاج النفسي الوحيد المدعوم بأدلةٍ بحثية، وأننا لا نعرف سوى القليل جدًّا عن المكونات الفعالة لأي تدخُّل نفسي، أو أي من التدخُّلات تناسب أيَّ أنواع من الأشخاص أو المشكلات على أفضلِ نحو.