الفصل الثاني عشر
جلس ستراتون بعد أن تلقَّى هذه المعلومات منعزلًا في غرفته، قادحًا ذهنه في مخططاته. لم يشأ أن يتخذ خطوةً خاطئة، ولكن الدليل الذي حصل عليه لم يكن كافيًا ليبرر تسليم ستيفن رولاند إلى الشرطة. إلى جانب هذا، كان من شأن مثل هذه الخطوة أن تدفع المشتبه به إلى أخذ حذره في الحال، ولم يكن ثمة أي شك في أن ذلك الرجل قد أخذ الاحتياطات كافةً للحيلولة دون اكتشاف فعلته. بعد دراسة متأنية للأمر لوقتٍ طويل، ارتأى أنه ربما أفضل ما يمكن فعله هو أن يحاول مباغتة رولاند. في تلك الأثناء، وأمام ذلك الرجل المستغرق في التفكير، وقف برنتون وسبيد وكأن بينهما خلافًا حادًّا في الرأي.
قال سبيد: «قلت لك، لا فائدة تُرجى من التدخُّل مع ستراتون. إنه على الطريق الخطأ، ولكن كل ما يمكن أن نمارسه عليه من تأثير في إطار تفكيره الحالي لن ينتج عنه سوى ما حدث من قبلُ وحسب؛ سيربكه ويشوش تفكيره. أقترح أن ندعه وشأنه. دعه يكتشف خطأه. وسيكتشفه بطريقةٍ أو بأخرى؛ وحينئذٍ سيصبح ذهنه مهيئًا للتحوُّل بتفكيره إلى جين مورتون.»
جادله برنتون قائلًا: «لكن ألا ترى أن كل ذلك الوقت الذي استغرقه في تحرياته الحالية هو مضيعة كبيرة للوقت؟ سأتفق معك في أن ندعه وشأنه، كما تقول، لكن لنضع شخصًا آخر في اتجاه جين مورتون.»
قال سبيد: «لا رغبة لي في ذلك؛ لأن جورج ستراتون قد أولى قدرًا كبيرًا من الاهتمام لهذا البحث. لقد قطع شوطًا كبيرًا الآن، وأظن أن من الواجب أن نشعر بالامتنان تجاهه لذلك.»
قال برنتون متذمرًا: «امتنان! لقد فعل ذلك من منطلق دوافع أنانية بحتة يمكن لشخص أن يتصرف على أساسها. لقد فعل كل ذلك فقط لأجل الصحيفة التي يعمل بها، ومن أجل سمعتها. لقد فعل ذلك سعيًا وراء المال.»
قال سبيد في انفعال: «عليك أن تكف الآن عن الحديث أمامي عن ستراتون بهذه اللهجة. لن أدلي برأيي في أسلوب الحديث الذي بدر منك، ولكن بوسعك أن ترى مدى خطورة تدخلنا في عمله قبل هذا، وكيف أوشك على العودة إلى شيكاجو نتيجةً لتدخلنا. أقترح الآن أن نتركه بمفرده.»
أجاب برنتون: «اتركه بمفرده إذن لأي هدفٍ كان. أنا واثق من أنني لن أبني أي شيء على ما يمكن أن يفعله بأي حال.»
رد سبيد، مستعيدًا طبيعته الدمثة: «حسنًا، إذن. رغم أنني لا أنوي أن أضع أي شخصٍ آخر في طريق الآنسة جين مورتون، لكن سأخبرك بما أنوي فعله. إن شئت، فسنذهب إلى مقر إقامتها، ونؤثِّر عليها حتى تعترف بجريمتها. أظن ذلك أمرًا يمكن القيام به.»
«رائع؛ أريدك أن تعلم أنني موافق تمامًا على هذه الخطوة. كل ما أريده هو ألا نضيع وقتًا أكثر من ذلك.»
صاح سبيد: «وقت؟! لدينا كل ما نحتاجه من الوقت. لقد ثبَتت براءة زوجتك. ولم يعد هناك أي خطورة.»
«أقر بأن هذا صحيح مائة في المائة، لكنك لا تزال ترى الحزن الذي ترزح تحته؛ لأن ساحتها لم تبرأ بعدُ من عار الجريمة. ستلتمس العذر لي، يا سبيد، إذا قلت إنك تبدو كمن يسعى من أجل إنجاح ستراتون صحفيًّا أكثر من تبرئة سمعة زوجتي.»
قال سبيد: «حسنًا، لن نتحدث في هذه المسألة. ستراتون لديه القدرة الكافية على الاعتناء بنفسه، كما سترى قطعًا. والآن، ما رأيك في أن نجري محاولةً لنرى إذا ما كان بوسعنا التأثير على جين مورتون لتفعل ما ينبغي فعله، وتُقر بجريمتها؟»
أجابه برنتون: «هذه مهمة لا يُرجى منها الكثير؛ من الصعب أن نوحي لشخصٍ بأن يدلي بما يضع حبل المشنقة حول رقبته.»
قال سبيد: «لست واثقًا من ذلك؛ فأنت تدرك بالطبع حالة القلق التي تعيشها. أعتقد أنه قد بات من الوارد بقوة أن يريحها تسليم نفسها بعد الفزع الذي عانته خلال الأسابيع القليلة الماضية.»
«عظيم؛ لنذهب إليها.»
ما لبث الرجلان أن وجدا نفسَيهما في الغرفة القليلة الأثاث التي تسكنها جين مورتون. كانت تلك الفتاة المسكينة تتأرجح إلى الأمام والخلف وتندب ندبًا على الكارثة التي حلَّت بها. وفجأةً توقفت عن التأرجح، وأخذت تتطلَّع حولها عبر أرجاء الغرفة وفي عينَيها توجُّس مُبهم. نهضت وتفقَّدت مزلاج الباب، وما إن تحققت من أن كل شيءٍ محكم الغلق، عاودت الجلوس.
صاحت محدِّثةً نفسها: «لن أنعم بأي سكينةٍ في هذا العالم مرةً أخرى.»
ثم أخذت تميل بجسدها إلى الأمام والخلف في صمت للحظات معدودة.
ثم قالت: «أتمنى لو تكتشف الشرطة الأمر كله، ويزول عذاب نفسي.»
ثم عاودت التأرجح بجسدها إلى الأمام ثم الخلف، ويداها مرتخيتان في يأس على حِجرها.
قالت منتحبةً ولم تزل تتأرجح: «يا إلهي! لا يمكنني فعل ذلك، لا يمكنني فعل ذلك!» وأخيرًا هبَّت واقفة.
وصاحت: «سأفعلها، سأعترف إلى السيدة برنتون نفسها. سأخبرها بكلِّ شيء. لقد مرَّت هي نفسها بهذا الكرب، وربما ترأف بي.»
قال سبيد لبرنتون: «ها أنت ترى بنفسك، لقد نجحنا في التغلب على هذه العقبة في النهاية.»
أجاب برنتون: «يبدو الأمر كذلك قطعًا. ولكن، ألا تظن أنه كان من الأحرى أن نبقى معها حتى تعترف؟ أليس محتملًا أن تعدل عن قرارها؟»
قال سبيد مقترِحًا: «لنتجنب الإسراف في الأمر؛ إن لم تعترف، فسيأتي الوقت، ويمكننا بسهولة أن نجري حوارًا آخر معها. لقد حسمت الفتاة قرارها. إنها الآن تتجرع المرارة والأسى وستظل هكذا حتى تقر بجريمتها. لنذهب الآن ونتركها بمفردها.»
لم يتوانَ جورج ستراتون في تنفيذ خطته بمجرد أن حسم أمره. ثبَّت على الجانب الأمامي من صدريته شارةً صغيرةً تحمل كلمة «محقق». وجد هذا الأمر مُجديًا قبل ذلك عند التحرِّي عن جريمة في شيكاجو، على نحو لا يُعاقب عليه القانون مطلقًا. وحالما حلَّ المساء، ظل يسير جيئةً وذهابًا أمام منزل رولاند، وعلى الجهة المقابلة من الطريق. كان ثمة ضوء في مكتب الطبيب، وظن أنه ربما تكون أفضل طريقة للبدء هي اقتحام المنزل وتنفيذ خطته. ولكن بينما كان يمعن التفكير في ذلك، انطفأ الضوء، وفي لحظاتٍ معدودة انفتح الباب. نزل الطبيب على السلم، ثم خرج إلى الرصيف، وظل يسرع الخطى عبر الشارع. تتبَّعه الصحفي على الجهة الأخرى من الطريق. كان السؤال الذي يُلح على ستراتون إذا ما كان من الأحرى تنفيذ خطته في الظلام أم في الضوء. إذا نفَّذ خطته في الظلام، فلن يلحظ تعبيرات وجه الرجل حين يتفاجأ. وإذا نفذها في الضوء، فقد يعرف الطبيب أنه صحفي شيكاجو، وسيعرف في الحال أنه ليس بمحقق. لكنه شعر أنه إذا كان ثمة شيء يميِّز خطته، فهو عنصر المفاجأة؛ ثم تذكَّر الشهقة السريعة التي صدرت عن المحامي براون من أثر المفاجأة عندما أخبره بأنه يعرف خطته في الدفاع. لا بد أن يتمكن من ملاحظة تعبير الرجل المدان بهذه الجريمة البشعة.
ما إن حسم أمره في هذا الشأن، أسرع وراء الطبيب بخطًى متزنة، وعندما مر الأخير تحت عمود إنارة، وضع ستراتون يده فجأةً على كتف الطبيب ثم صاح بقوة:
«دكتور ستيفن رولاند، أنا هنا لألقي القبض عليك بتهمة قتل ويليام برنتون!»