الفصل الرابع عشر
في الصباح، تهيَّأت جين مورتون لمقابلة السيدة برنتون والاعتراف لها. ذهبت إلى منزل السيد برنتون، لكن وجدته مغلقًا كما كان منذ وقوع مأساة صبيحة عيد الميلاد. استغرقت بعض الوقت حتى تصل إلى المكان الذي تقيم فيه السيدة برنتون التي أقامت، منذ حادث القتل، عند صديقةٍ لها باستثناء فترة احتجازها.
لم تتعرَّف السيدة برنتون لوهلة على السيدة الهزيلة الشاحبة الوجه التي وقفت أمامها في حالة اضطراب عصبي شديد، لدرجة جعلتها تبدو كأنها ستنهار وتبكي في أي لحظة.
بدأت الفتاة حديثها قائلة: «لا أظن أنك ستذكرينني، يا سيدتي، لكنني عملت لديكم منذ أسبوعين قبل … قبل …»
قالت السيدة برنتون: «أجل، تذكرتك الآن. هل كنتِ مريضة؟ تبدين منهكةً وشاحبةً تمامًا، شتَّان بين هيئتك الآن وآخر مرة رأيتك فيها.»
قالت الفتاة: «هذا صحيح، أظن أن علةً قد أصابتني.»
«تظنين؛ ألستِ على يقين من ذلك؟»
«العلة التي أصابتني كانت في عقلي، فأثقلني الهم، ولهذا السبب أبدو بهذا السوء … أوه، سيدتي، أردت أن أخبرك بشيءٍ أرهق ذهني منذ ذلك اليوم المشئوم! أعلم أنك لن تغفري لي أبدًا، لكن لا بد أن أخبرك، وإلَّا فسيصيبني الجنون.»
قالت السيدة برنتون، بعطف: «اجلسي، اجلسي، لا يخفى عليكِ بالتأكيد أي كرب كنت أمرُّ به. وأنا على يقين من أن قدرتي الآن على التعاطف مع شخصٍ أصابه كرب قد ازدادت عن أي وقت مضى.»
«أجل يا سيدتي، لكنك كنتِ بريئة، أما أنا فمذنبة. وهذا ما يجعل الفرق شاسعًا بيننا.»
صاحت السيدة برنتون، وقد غشيها خوف غريب وهي تحدق بالفتاة: «مذنبة! مذنبة بأي شيء؟»
«سيدتي، دعيني أخبرك بكل شيء. ليس لديَّ، قطعًا، أي عذر، لكن سأحكي من البداية. أتذكرين قبل عيد الميلاد بفترةٍ عندما جاء جون لزيارتي في إحدى الليالي، وجلسنا معًا في المطبخ حتى ساعة متأخرة من الليل، ونزل زوجكِ في هدوء، وعندما سمعناه قادمًا نحونا أطفأنا الضوء، وبينما كان جون يحاول الهرب، أطلق زوجك النار عليه مرتين، وأصابه في المرة الثانية؟»
قالت السيدة برنتون: «أجل، أتذكر ذلك جيدًا. لقد نسيت الحادثة تمامًا في غمرة أزمتي؛ لكن أعلم أن زوجي كانت لديه النية لأن يفعل شيئًا لأجل ذلك الشاب. لعل إصابته لم تكن خطيرة، أليس كذلك؟»
«بلى، يا سيدتي، لقد استرد عافيته مرةً أخرى أكثر من قبل، ولم يُصبه حتى العرج، كما كنَّا نتوقع. ولكن حينها ظننت أن العرج سيلازمه بقية حياته، وربما لهذا السبب فعلت ما فعلته. عندما كان المنزل في هرج ومرج، وبدا مؤكدًا أننا سنغادر جميعنا المنزل، اقترفت عملًا مخزيًا. ذهبت إلى غرفتك، وسرقت بعضًا من خواتمك، وبعض المال الذي كان هناك، وأشياء أخرى كثيرةً كانت في الغرفة. تراءى لي حينها — رغم أنني أعرف قطعًا الآن كم كان ما فعلته مخزيًا — أنكم مدينون إلى جون بشيءٍ تعويضًا له عما مر به، وكنت أظن أنه سيصبح أعرج، وأنك لن تلاحظي مطلقًا اختفاء هذه الأشياء؛ لكن، يا إلهي! لم يغمض لي جفن، يا سيدتي، ليلةً واحدةً منذ أن سرقتها. كنت أخشى الشرطة وأخشى أن يعثروا عليَّ. لم أرهن أيًّا منها، وكل شيء أخذته كما هو دون نقصان، وقد أحضرتها إليك هنا، مع كل سنتٍ أخذته من المال. أعلم أنك لا يمكن أن تسامحيني أبدًا، ولكنني الآن على أتم الاستعداد لأن أُسلَّم إلى الشرطة، وأشعر بأن ذهني في حالٍ أفضل عما كنت عليه منذ أن سُرقت الأشياء.»
قالت السيدة برنتون، بنبرة تعاطف: «صغيرتي المسكينة! أهذا كل شيء؟»
صاحت الفتاة: «كل شيء؟ أجل، لقد رددت إليك كل شيء.»
«معذرة، لم أقصد ذلك، لكن يحزنني كل هذا القلق الذي حلَّ بك من شيءٍ تافه كهذا. أتفهَّم في مثل ذلك الوقت كيف تسلل إليك شعورٌ بأنك قد ظُلِمت، وسوَّلَت لك نفسك سرقة الأشياء. لكن أتمنى ألا يزعجك الأمر أكثر من ذلك. ما دام بالإمكان تعويض جون بالمال، أرى أنه سيُعوَّض عن كل ما أصابه. أتمنى أن تحتفظي بالمال. أما الأشياء الأخرى، بالطبع، فسأستردها، ويسرني مجيئك لتخبريني بالأمر قبل أن تُفضي به لأي شخص آخر. وأظن أنه ربما كان من الأفضل ألا تبوحي بأي شيء عن هذا الأمر لأي شخص. قد لا يتفهَّم الناس الوساوس التي أغوتكِ بهذا، ولن يعرفوا ملابسات الحادث؛ لأنه لا أحد يعرف، حسب ظني، بإصابة جون. والآن، يا صغيرتي العزيزة، كفاكِ بكاءً. كل شيء أصبح في نصابه. وحتمًا لن تلمسي أي شيءٍ ليس ملكك مرة ثانية، والمعاناة التي ألمَّت بكِ كانت سببًا في إصلاح جميع الأخطاء التي وقعتِ فيها. أنا واثقة من أنني سأسامحك بنفس صافية عما بدر منك، وأظن أنه كان نبلًا بالغًا منك أن جئت وأخبرتني بالأمر.»
أخذت السيدة برنتون الصندوق من يدي الفتاة الباكية، وفتحته. وجدت كل شيءٍ بداخله، كما قالت الفتاة. أخذت المال وأعطته لجين مورتون. هزَّت الفتاة رأسها في رفض.
صاحت قائلة: «لا، لا أستطيع أن ألمسه بيدي. لا أستطيع حقًّا. لقد أشقاني بما يكفي.»
أجابت السيدة برنتون: «عظيم. أود كثيرًا أن أقابل جون. هلا أتيتِ إليَّ به؟»
نظرت الفتاة إليها بعين فزعة.
ثم قالت: «لن تخبريه، أليس كذلك؟»
«كلا، لن أخبره بأي شيءٍ بكل تأكيد. لكن أريد أن أقدم له ما في استطاعتي أن أقدمه كما ذكرت. أظنه خطب يدك للزواج؟»
أجابت الفتاة: «أجل، لكنه لو علم بما حدث، فلن يتزوجني أبدًا.»
قالت السيدة برنتون: «لو لم يفعل، لن يكون جديرًا بك. لكنه لن يعرف شيئًا مما حدث. وستعدينني بالمجيء إلى هنا برفقته لمقابلتي، أليس كذلك؟»
قالت الفتاة: «أجل، يا سيدتي.»
«إلى اللقاء إذن، حتى ألقاكِ مجددًا.»
جلست السيدة برنتون تفكر مليًّا في اعتراف هذه الفتاة. واستغرقت بعض الوقت حتى تستعيد هدوءَها المعتاد؛ إذ ظنت لوهلة أن الفتاة ستعترف بارتكابها جريمة القتل. مقارَنةً بتلك الجريمة البشعة، بدت السرقة أمرًا هينًا، حتى إن السيدة برنتون كادت تبتسم عندما شردت بذهنها في محنة تلك الفتاة.
قال جون سبيد للسيد برنتون: «تلك مفاجأة كبرى. عن نفسي أشعر بسعادة جمة بذلك، إذا توصلنا إلى الحقيقة الفعلية لهذا الأمر.»
قال برنتون: «وأنا كذلك سعيد بأن الفتاة ليست مذنبة، رغم أنني أجد نفسي مرغمًا على قول أشياء تبدو ضدها لا محالة.»
قال سبيد: «سأخبرك عن سبب سعادتي. أنا سعيد لأن ذلك سيكسر جزءًا من الغرور المفرط الذي ركب ذلك المحقق الفرنسي المدعو ليكوك. لقد كان واثقًا من نفسه على نحو مبالَغ فيه. وكأن من غير المحتمل أن يقع في الخطأ. تخيل الآن الأخطاء التي لا بد أن يكون هذا الرجل قد ارتكبها عندما كان على الأرض، وكان يملك ذلك النفوذ الذي وُضع بين يديه في باريس. في النهاية، اتضح أن ستراتون على الطريق الصحيح، وسيزج حتمًا بصديقك رولاند في السجن. لنذهب ونبحث عن ليكوك. فالأمر أروع من أن نتكتم عليه.»
قال برنتون: «سيدي العزيز، أراك تنتشي فرحًا بسبب صديقك ستراتون أكثر من أي سببٍ آخر. ألا تريد أن نصل إلى الحقيقة في هذه القضية مطلقًا؟»
«بالطبع أريد ذلك، لكن لا أريد الوصول إليها بإيقاع شخصٍ بريء في ورطة.»
«أليس من المحتمل أن يكون ستيفن رولاند بريئًا؟»
«ربما، قد أضعه احتمالًا؛ لكن لا أعتقد أنه بريء.»
«لماذا تعتقد ذلك؟»
«حسنًا، إذا أردت السبب الحقيقي؛ فهو ببساطة لأن جورج ستراتون لا يراه بريئًا. إنني أعلِّق آمالي على ستراتون.»
«أظنك تبالغ في تقديرك لستراتون.»
«أبالغ في تقديره يا سيدي؟! هذا مستحيل. إنني أحبه كثيرًا لدرجة أنني أتمنى أن يصل بنفسه إلى حل هذا اللغز، وحده ودون عونٍ من أحد، وفي طريق عودته إلى شيكاجو يُقطَّع إربًا في حادث قطار وبذلك يلحق بنا هنا لنهنئه.»