الفصل التاسع
صاح سبيد: «جين مورتون! مَن هي؟»
«لعلك تتذكرها، إنها تلك الفتاة التي حملت القهوة من زوجة السيد برنتون إلى السيد برنتون.»
«وهل أنت متأكد من أنها الجانية؟»
لم يُجِب المحقق العظيم، واكتفى بإيماءة معبرة لها طابع فرنسي قليلًا، وكأن السؤال لا يستحق التعليق عليه.
سأل سبيد: «عجبًا! ما دافعها إلى ذلك؟»
لأول مرة خلال فترة معرفته به بدت بعض الحيرة على ذلك الوجه المفعم بالحماس الذي يُميِّز هذا الفرنسي المتقلب المزاج.
ثم قال: «أنتم أذكياء كما تدَّعون، يا أهل شيكاجو، وقد أصبت في لحظة النقطة الوحيدة التي تحيرنا.»
رد سبيد: «سيدي العزيز، هذه هي النقطة الأساسية في القضية. الدافع وراء الجريمة هو أول شيء يجب البحث عنه، كما يتراءى لي. لقد قلت ذلك كثيرًا بنفسك. إن لم تنجح في التوصل إلى الدافع الذي دفع جين مورتون إلى تسميم سيدها، فإنك لم تُنجز إلا القليل في نظري.»
«تمهَّل، أنت تقول ذلك قبل أن تعرف التفاصيل. أنا على يقين من أننا سنكتشف الدافع. ما أعرفه الآن هو أن جين مورتون هي الشخص الذي وضع له السم في فنجان قهوته.»
«كان الأمر سيتطلَّب منها قدرًا كبيرًا من الشجاعة لتفعل ذلك في حضور ستة وعشرين شخصًا مجتمعين حول المائدة. لقد أغفلت، يا سيدي العزيز، أنها كان عليها أن تجتاز المائدة بأكملها على امتدادها، بعد أن أخذت الفنجان، وقبل أن تعطيه إلى السيد برنتون.»
«نصف الحضور كانوا يديرون ظهورهم لها، وأستطيع أن أؤكد لك أن النصف الآخر لم يلتفتوا إليها. إذا كان السم جاهزًا، فمن السهل أن يُدَس في فنجان القهوة. كان هناك متسع من الوقت لذلك، وهكذا جرى تنفيذ الجريمة.»
«اسمح لي أن أسألك، كيف توصَّلت إلى ذلك الاستنتاج؟»
«قطعًا، وبكل تأكيد، يا عزيزي. لقد أفاد المخبرون التابعون لي أنهم ظلوا ملازمين ليلًا ونهارًا لكل فردٍ من السبعة والعشرين شخصًا ممَّن كان لا بد من اقتفاء أثرهم. ولكن لم تصدر تصرفات مريبة إلا من اثنين فقط منهم. كان هذان الشخصان هما جين مورتون وستيفن رولاند. الحقيقة التي تبرر اضطراب ستيفن رولاند هي حبه الواضح لزوجة السيد برنتون. لكن التغيير الذي طرأ على جين مورتون كان رهيبًا. إنها تعاني من وخز شديد في الضمير لا طائل منه. لم تعد مجددًا للعمل، ولكن قبعت في غرفةٍ في واحد من أفقر ربوع المدينة، ولم تغادر هذه الغرفة مطلقًا إلا ليلًا. كل تصرفاتها تعكس خوفها من الشرطة، خوفٌ من أن يُقتفَى أثرها لما ارتكبته. تشتري الجريدة كل مساء، ثم تغلق الباب بالمزلاج بمجرد أن تدخل غرفتها، ثم تقرأ كل كلمة عن أخبار الجريمة والدموع تنهمر من عينيها. وذات مساء، عندما خرجت لتشتري نسخةً من الجريدة، والطعام الذي تحتاج إليه لليوم التالي، وجدت نفسها فجأةً أمام شرطي عند الناصية. لم يكن الشرطي ينظر إليها مطلقًا، ولا يبحث عنها، ولكنها فرَّت هاربة، وأخذت تركض كغزالٍ هارب، وتستدير وتنعطف بين الأزقة والشوارع الخلفية إلى أن وصلت إلى غرفتها عبر طريقٍ ملتوٍ. حبست نفسها في الغرفة، وظلت من دون زادٍ طوال اليوم التالي بدلًا من أن تخرج مرةً أخرى. بعد أن أوصدت باب غرفتها، ألقت نفسها على الفراش من هول الفزع الذي رأته، وصرخت قائلةً: «يا إلهي! لماذا فعلت ذلك؟ لماذا فعلت ذلك؟ سيكشفون أمري بالتأكيد. إذا ثَبَتت براءة السيدة برنتون، فسيطاردونني في اليوم التالي. لقد فعلت فَعلتي لأعوِّض جون عما قاساه، ولكن لو علم جون، لن يتحدث إليَّ مجددًا».»
سأل سبيد: «من هو جون؟»
رد المحقق: «للأسف، هذا ما لا أعرفه. عندما نكتشف من هو جون، سنكتشف حينها الدافع وراء ارتكاب الجريمة.»
«في تلك الحالة، لو كنت مكانك، فسأسعى للعثور على جون في أسرع وقتٍ ممكن.»
«أجل، يا سيدي العزيز، هذا بالضبط ما يجب فعله، وهناك مُخبر الآن تابع لي يسعى جاهدًا لاكتشاف هُوية جون. سينجح في مهمته في غضون أيام على الأرجح. لكن ثمة سبيلًا آخر لمعرفة هُوية جون، ولعل بإمكانك أن تساعدني فيه.»
«ما هذا السبيل الآخر؟»
«ثمة رجلٌ واحد يعرف يقينًا من هو جون، وهذا الرجل هو السيد برنتون. والآن، أظن أنه ربما لأنك تعرف برنتون أكثر مني، فلن تمانع في أن تسأله مَن هو جون.»
قال سبيد: «سيدي العزيز، برنتون ليس صديقًا مقربًا لي، ولا أعرفه إلا بالقدر الكافي الذي يشعرني بأنه إذا كان ينبغي إجراء أي استجوابٍ معه، فمن الأفضَل أن يتولَّى هذه المهمة شخصٌ آخر.»
سأله المحقق: «أنت لا تهابه، صحيح؟»
«أهابه؟ قطعًا لا، لكن أؤكد لك أن السيد برنتون ذو طبع حساس نوعًا ما، ويميل إلى أخذ الكلام على محمل الإهانة. وجدته على هذا الحال في عدة مواقف. والآن، لمَ لا تذهب إليه وتقابله ما دمت قد أخذت أمر هذه القضية بالفعل على عاتقك؟»
قال الفرنسي: «أظن أنه لا مفر من ذلك إذا كنت لا تنوي تولِّي هذه المهمة.»
«لا، لن أتولاها.»
«لكنك لن تُمانع في أن تذهب معي، أليس كذلك؟»
«من الأفضل لك أن تقابل برنتون وحدك. لا أظن أنه سيبالي باستجوابه أمام شهود، كما تعرف.»
«إلى اللقاء، إذن؛ سأعرف مِن السيد برنتون مَن يكون جون.»
أجاب سبيد، بينما يهم ليكوك بالانصراف: «أتمنى لك حظًّا موفقًا بالتأكيد.»
وجد ليكوك برنتون بصحبة فيريس. بدت روحه المتشائمة متشككةً نوعًا ما إزاء الروايات التي وصلته عن تأثير سبيد وبرنتون، مجتمعين معًا، على ذلك الصحفي من شيكاجو. ولكن ظلت القضية تستحوذ على اهتمامه، وعلى الرغم من إصراره على موقفه بأن لا نفع يُرجى من هذه المحاولات، حتى إن أمكن فتح محور للتواصل بين العالمين، أنصت فيريس بوقاره المعتاد إلى ما كان سيشرع برنتون في الإدلاء به.
قال برنتون عندما رأى الفرنسي: «خيرًا، هل تحمل لي أي أخبار؟»
«أجل، أحمل لك أخبارًا. لديَّ أخبار سأدلي إليك بها، لكن حاليًّا أريد بعض الأخبار منك.»
أجاب برنتون: «ليس لديَّ ما أخبرك به.»
«إذا لم يكن لديك، فهل تتعهَّد لي بالرد على أي أسئلة سأطرحها عليك، ولن تمتعض إذا بدت الأسئلة شخصية؟»
قال برنتون: «بالتأكيد، يسعدني أن أجيب عن أي سؤال ما دام له علاقة بالقضية.»
«عظيم، إذن، هذا السؤال مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالقضية. هل تتذكر جين مورتون؟»
«أتذكرها بالطبع، فهي واحدة من الخادمات اللاتي يعملن لدينا. لكن لا أعرف عنها سوى النزر اليسير.»
«هذا تحديدًا ما أسعى لمعرفته. هل تعرف أي شيءٍ عنها؟»
«لا؛ لقد كانت تعمل لدينا ولكن منذ أسبوعين فقط، حسب ظني، أو ربما منذ شهر. كانت زوجتي هي من تهتم بتلك التفاصيل، بكل تأكيد. كل ما كنت أعرفه أن الفتاة موجودة لدينا، هذا كل ما في الأمر.»
نظر الفرنسي نظرة ارتيابٍ شديد أثناء حديث برنتون، في الوقت الذي بدا فيه الأخير غاضبًا نوعًا ما.
صاح قائلًا: «من الواضح أنك لا تصدقني؟»
مرةً أخرى أومأ رجل المباحث إيماءته المعتادة، ثم قال:
«آه، معذرة، أنت مخطئ تمامًا. جئت لأُعلِمك بهذا الخبر. جين مورتون هي مَن قتلتك. تقول إنها فعلت ذلك في جزء منه لأجل جون — بصرف النظر عمَّن هو جون — وفي جزء آخر بدافع من الانتقام. والآن، لا أحد سواك بالطبع بوسعه أن يعطيني معلوماتٍ عن الدافع وراء هذه الجريمة. لا شك أن تلك الفتاة كان لديها دافع، وأود أن أعرف ما هو هذا الدافع.»
شرد برنتون بتفكيره للحظات قليلة، ثم فجأةً خطر له شيء.
«تذكرت الآن حادثةً وقعت قبل أسبوع أو أسبوعين من عيد الميلاد، قد تكون لها صلة بالقضية. ذات ليلةٍ سمعتُ — أو خُيِّل إليَّ أنني سمعت — صوت حركة في الأسفل، في الوقت الذي اعتقدت فيه أن الجميع قد خلد إلى النوم. أمسكت بمسدسي، ثم تسللت بحذرٍ عبر درجات السُّلم. بالطبع لم أحمل مصباحًا معي؛ إذ لو أن لصًّا بالمنزل، فلم أكن أرغب في أن أُظهِر نفسي له. بينما كنت أسير عبر الردهة المؤدية إلى المطبخ، رأيت ضوءًا في الداخل، ولكن بمجرد أن سَمعوني أتَّجه ناحيتهم انطفأ الضوء. حين وصلت إلى المطبخ، لاحظت رجلًا يحاول الهرب من الباب الذي يفضي إلى سقيفة تخزين الفحم. أطلقت النار عليه مرتين؛ فخر على الأرض يئن من الألم. ظننت أنني قد أصبت لصًّا بكل تأكيد، لكن اتضح أن لا شيءٍ من هذا قد حدث. كان مجرد شاب جاء لمقابلة واحدة من الفتيات في ساعة متأخرة. أشك الآن أن الفتاة التي أتى لمقابلتها كانت جين مورتون. بطبيعة الحال، جلبت الضوضاء الفتاتين إلى هناك، ولم أُجرِ تحقيقًا على الإطلاق في هذا الأمر أو أحاول أن أعرف مَن الفتاة التي جاء لزيارتها. فقد كانتا فزعتين، وكان الشاب نفسه في حالة هلعٍ شديد. ظن للحظةٍ أنه قد قُتل. لكنه أصيب فحسب في ساقه؛ ولهذا أرسلته إلى منزل الطبيب الذي يباشر مثل هؤلاء المرضى لعدم رغبتهم في الذهاب إلى المستشفى. ولم أهتم بإرساله إلى المستشفى؛ لأنني خشيت أن يصل نبأ الحادثة إلى الصحف، وتحدث ضجة حوله. الحادثة برمتها لم تكن مقصودة، وذلك ما أدركه الشاب، وكذلك الفتاتان، في ظني؛ على الأقل لم ألاحظ مطلقًا أي شيءٍ في سلوكهن يثبت العكس.»
سأل فيريس: «كيف تبدو جين مورتون؟»
«فتاة طويلة شعرها بني داكن، لها عينان ضيقتان وسوداوان.»
قال فيريس: «نعم، أتذكرها وهي تقصد الغرفة حيث جسدك الراقد صبيحة عيد الميلاد. اندهشتُ حين خرجت من الغرفة وهي هادئة تمامًا ومتماسكة، وغير متفاجئة بما حدث على الإطلاق.»
قال برنتون: «كل ما بوسعي قوله هو أنني لم ألاحظ في سلوكها أي شيء مطلقًا يشير إلى ضغينة بداخلها بسبب ما قد حدث. كنت أنوي أن أعطي ذلك الشاب تعويضًا سخيًّا عن إصابته، لكن ما حدث بالطبع عشية عيد الميلاد حال دون ذلك؛ لقد غاب عن ذهني حقًّا كل ما يخص هذه الحادثة وإلا لكنت أخبرتك بها من قبل.»
قال ليكوك: «إذن، الموقف بات واضحًا لا يحتاج إلى تأويل. تلك المرأة المشاكسة ذات العينين السوداوين قتلتك انتقامًا منك.»