(١) القضاء والقدر
بالرغم من أن الأفغاني ظل أشعريًّا في التوحيد والعدل وخروج محمد عبده
عليه إلى المنتصف فأصبح أشعريًّا في التوحيد معتزليًّا في العدل، إلا أنه
حاول الخروجَ عن الأشعرية بنقده عقيدة القضاء والقدر التي صبَّ فيها الكسب
الأشعري في الممارسات الشعبية وتحول إلى جبر وظل معتزليًّا خارجيًّا في
الإمامة يقول بضرورة الخروج على الحاكم الظالم، بينما ظل محمد عبده
أشعريًّا مرجئًا يقول بضرورة طاعة الإمام حتى ولو كان ظالمًا.
يبدأ الأفغاني ببيان أثر العقائد القلبية في الأعمال البدنية، وأن صلاح
الأعمال وفسادها راجعٌ إلى صلاح العقيدة. فإذا ما تم تأويل العقيدة الحسنة
تأويلًا سيئًا تصبح وكأنها عقيدة سيئة وتبطل الأعمال. فالأعمال دليل على
العقائد. لذلك يطعن البعض على العقائد والدين استنادًا إلى أعمال بعض
السذج. فإذا كان محمد بن عبد الوهاب قد بدأ بإصلاح العقيدة، ومدحت باشا
بإصلاح الحكومة والإدارة فإن الأفغاني بدأ بإصلاح العقول والنفوس أولًا ثم
إصلاح الحكومة ثانيًا، وربط ذلك بالدين. وإذا كان مدحت باشا يرى أن إصلاح
الشعب يأتي عن طريق إصلاح الحكومة فإن الأفغاني يرى أن إصلاح الحكومة يأتي
عن طريق إصلاح الشعب. وإذا كان مدحت باشا يرى أنه إذا صلح الراعي صلحَت
الرعية والغاية الدستور فإن الأفغاني يرى أن القوة النيابية تنبعث من نفس الأمة.
١
ومثال هذه العقائد التي لها أبلغُ الأثر على النفوس، عقيدة القضاء
والقدر التي كثر اللغطُ فيها وسوء فهمها خاصة من الإفرنج؛ فقد زعموا أنها
سببُ تأخُّرِ المسلمين وضعفهم وفقرهم وفسادهم وكذبهم ونفاقهم، وأن الاعتلال
بالقدر سبب الخيانة والتحاقد والتباغض والتفرُّق والجهل بالأحوال الحاضرة
والمستقبلة والغفلة عمَّا يضرُّهم وينفعهم، والركون إلى الحياة طعامًا
وشرابًا ونومًا دون تنافس في فضيلة والإضرار بالآخرين. تحول البأس بينهم
والأمم تبتلعهم جزءًا جزءًا. قبلوا العوارض، وارتكنوا إلى السكون دون أداء
الواجبات، ومالوا إلى التخاذل والتنافر، وإهمال المصالح العامة. والتنافر
يذهب بشوكة الأمة، ويُضيعها مثل الصراع بين زعيمَين، وموالاة أحدهما
للأجنبي ضد أخيه. وقعوا في الإسراف والتبذير والتخاذل، وسكنوا لغياب
الجمعيات لإحياء الغيرة في النفوس. وسببُ كلِّ ذلك عقيدة القضاء والقدر
التي تؤدي إلى الفناء والأفول. فالنظر أساس العمل.
لقد أخطأ الإفرنج في الخلط بين القضاء والقدر ومذهب الجبرية. وتابعهم
المسلمون في هذا الخلط. والاعتقاد بالقضاء والقدر غيرُ الاعتقاد بالجبر ولا
من مقتضياته. ولا يوجد مسلم الآن، سنيًّا أو شيعيًّا، زيديًّا أو
إسماعيليًّا، وهابيًّا أو خارجيًّا يرى مذهبَ الجبر المحض، وسلْب الاختيار
عن نفسه. انقرض مذهبُ الجبرية في أواخر القرن الرابع للجهرة. واستقرَّت في
نفوس المسلمين عقيدةُ الكسب، مناط الثواب والعقاب. هنا يدافع الأفغاني عن
القضاء والقدر باعتباره متكلمًا حديثًا ضد الطعن على الإسلام والترويج
للشبهات الجديدة التي تلتقي حوله من الغرب عامة والمستشرقين خاصة، رسالة
القضاء والقدر إذن تعطي التفسير الصحيح للعقيدة التي كثر فيها لغطُ
المغفلين من الإفرنج.
٢
القضاء والقدر تُرشد إليه الفطرة والدليل القاطع؛ فلكلِّ حادثٍ سببٌ
يقارنه في الزمان. والإنسان لا يرى إلا الأسباب المباشرة دون الأسباب
الأولى. وإرادة الإنسان حلقةٌ من حلقات سلسلة العلل. وهي أثر من آثار
الإدراك. والإدراك انفصالُ النفس بما يعرض للحواس والشعور بما في الفطرة من
الحاجات. فلظواهر الكون سلطة على الفكر والإرادة. وهذه الأسباب من مدبر
الكون الذي أبدع كلَّ شيء وفقًا للحكمة، وجعل كلَّ شيء تابعًا لشبهه في
العالم الإنساني. ولا يمكن إنكار تأثير الفواعل الطبيعية والحوادث الدهرية
في إدراك البشر.
٣ وواضح اعتماد الأفغاني على وصف السنن الكونية والتحليل
التاريخي لمسار العقائد، مثل انقراض الجبرية في أواخر القرن الرابع الهجري،
وتحول الكسب الأشعري إلى جبرية في العقائد الشعبية. وبالرغم من أن الأفغاني
يبدأ عادة بوضع قانون عام يندرج الموضوعُ تحته مثل أثر العقائد في سلوك
الأفراد والجماعات، إلا أنه كثيرًا ما يقع كالعادة أيضًا في نوع من الخطابة
والإنشاء، وتغليب أسلوب الداعية على أسلوب الباحث.
وقد لجأ بعضُ الإفرنج إلى الإطالة في إثبات القضاء. والتاريخ علم أفضل
من الرواية، علم البحث عن سِيَر الأمم صعودًا وهبوطًا، وطبائع الحوادث وما
فيها من تغيير في العادات والأخلاق والأفكار، وفي الإحساس والوجدان. ولو
كان الأمر بيدِ البشر وحدهم لما حدث قيامٌ أو سقوط. هنا يلجأ الأفغاني إلى
تحليل التجارب التاريخية للأمم والشعوب، أسباب النهضة وأسباب الانهيار. وهو
أفضل من علم الرواية أي المنهج النصي، بالرغم من عدمِ خلوِّ الأسلوب من
خطاب الوعظ والإرشاد، مثل
أنتم يا عصبة الرحمن
وأولياء الشفعة.
٤
ويعطي الأفغاني تحليلًا نفسيًّا لآثار القضاء والقدر في النفس بحيث
تدفع على الفعل أكثر مما تؤدي إلى الخمول؛ فالقضاء والقدر إذا ما تميَّز عن
الجبر يخلق في الإنسان القدرةَ والإقدام والشجاعة والبسالة واقتحام
المهالك. فإذا كان الأجلُ محدودًا فلا يُجدي الخوف الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ
فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ
وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ
ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ. اندفع المسلمون للفتح، وقضَوا على
الإمبراطوريَّتَين، الفرس والروم، في أقل من ثمانين سنة، وعمَّروا الأرض،
وصَعِدوا الجبال بالاعتقاد بالقضاء والقدر، وثبتَت أقدامهم للعلى، لا فرق
بين نساء وأطفال وشيوخ، وقد استكانوا اليوم بسبب الاستعمار الأجنبي. ويشهد
التاريخ أن كلَّ القائمين العظام كانوا يؤمنون بالقضاء والقدر مثل كورش
الفارسي (كيخسرو)، والإسكندر الأكبر، وجنكيزخان، ونابليون. فالاعتقاد يخلص
النفس من الجبن، وهو الذي يعوق عن التمدن. ولم يجد الأفغاني إلا الغزالي
للاستشهاد به على أن التوكل والركون إلى القضاء من مطالب الشرع، في النشاط
والعمل وليس في البطالة والكسل. ليس التوكل هو سببَ التخلف بل صدمة
الاستعمار، من الشرق التتار ومن الغرب الأمم الإفرنجية. الإسلام لن يموتَ
فالعقائد حية. إنما المطلوب هو الاعتدال. وقد فتَح العثمانيون البلادَ بعد
صدمة الصليبية والتتار، ودانَت لهم البلاد الإفرنجية بفضل القضاء
والقدر.
وكما حدث الخلطُ عند الإفرنج بين الجبرية والقضاء والقدر حدث خلطٌ
مماثل عند بعض العلماء المسلمين المزيفين بين القدرية وهم المعتزلة
والجبرية. فهاجم أحدُهم الزمخشريَّ ومؤلَّفَه
الكشاف، وأخرج مَن قرأه من عداد أهل السنة، وأدخله في زمرة
الملحدين؛ لأنه من المعتزلة المدافعين عن الجبرية! لذلك أدانه ابنُ خلدون؛
لأنه أشعري، وكل من خالف ابن خلدون فهو مارق من الدين مضلٌّ للمسلمين.
فالشيخ لا يعلم أن مذهب المعتزلة هو خلق الأفعال، أي حرية الاختيار مع أنه
يدعي أنه من كبار مدرسة السليمانية، درس كل العلوم العقلية والنقلية
والخلافيات. ويضع الجبرية والمعتزلة القدرية في سلة واحدة. ويرى العالم
المزيف أن كلَّ الأفعال مسندة إلى الله كما يقول الزمخشري المارق المضل!
ويذكر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية انتقاءً لإثبات ذلك وينقد تفسيرَ
الفخر الرازي وشرح الكشاف لابن الطيبي. ويدافع الأفغاني عن المعتزلة ككل
ولا ينقد كلَّ آرائهم. ففيها الحسن والقبيح. ويمدح واصل بن عطاء لاعتزاله
مجلس الحسن البصري وخلافه معه في مسألة مرتكب الكبيرة، وقوله بالمنزلة بين
المنزلتين، بين الخوارج وأهل السنة. ثم ينقد الجبرية لنسيانهم الجزءَ
الاختياري الكسبي. فينتهي الأمرُ إلى المذلة. وقد ينطبق المذهب على العالم
الروحاني أكثر من العالم الجسماني؛ لأن الأول خالٍ من الإرادة وحرية
الاختيار. وينقد تفسير «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» بأن التعوذ معرفة
الله بالمحدثات كلها وسبق القضاء الأزلي. فالله أقدر من الشيطان، ومحيط بكل
الكائنات والحوادث، وهو تناقض. فإما أن يعصيَ الشيطان وهو ما ينال من
القدرة الإلهية أو يكون مسلَّطًا على الإنسان مما ينال من الحرية
الإنسانية. فعندما يتهم العالم المزيف الجبرية قاصدًا المعتزلة بالقول بأن
الاستعاذة من الشيطان لا فائدة منها يكون أقربَ إلى الجبرية وأبعدَ عن
القول بالحرية الإنسانية عند المعتزلة. كما يدافع الأفغاني عن ابن خلدون ضد
اتهامه بالتحذير من الزمخشري بإيرادِ نصٍّ منه. وينتهي الأفغاني إلى الدفاع
عن القضاء والقدر؛ لأنه حال الربوبية في الخلق معتمدًا على الأستاذ علي
منلا خان بأن القضاء هو ما قضى به الله في الخلق وسبق علمُه في اللوح
المحفوظ أزليًّا، والقدر ما نزل على الأرض بالتدريج حادثًا ومسببًا. ويكون
محمد عبده قد تقدَّم خطوة على أستاذه ببقائه أشعريًّا في التوحيد وتحوُّله
إلى الاعتزال في العدل لقوله بالحسن والقبح العقليَّين وبحريَّة الاختيار
دون الاكتفاء بحسن تأويل القضاء والقدر.
٥
(٢) العقل والتكليف
وإذا كان أصلُ العدل يشمل عقيدتَين عند المعتزلة، خلق الأفعال، والعقل
أساس النقل أو الحسن والقبح العقليَّين فإن الأفغاني يحاذي أصلَ العدل عن
المعتزلة ولا يدخل إليه كلية كما فعل محمد عبده. فالعقل مناطُ التكليف قبل
ورود الشرع عند الأفغاني. وهو أعظم ما خلق الله. كرم الله الإنسان به؛ لأنه
أشرف المخلوقات. وهنا يبدو الأفغاني معتزليًّا قحًّا. وإذا صحَّ القضاء
والقدر بمعنى الجبر بطل الثوابُ والعقاب. ويعتمد الأفغاني على منلا خان
لإثبات إباحة الإسلام الجدل بالتي هي أحسن استجلاء للحقيقة، أي استعمالًا
للعقل. وتم تكليف الإنسان وحده دون الحيوان والجماد لتحمُّلِه مسئولية
الأمانة باختيار حر. فعل الإنسان مرجح بين الفعل والترك، والأفعال خارج
الترجيح لا ثواب ولا عقاب عليها. تسخير كل ما في الأرض له وجعله خليفة الله
في الأرض. وهذا كلُّه لا يتعارض مع علم الله بكل المحدثات وقدرته على كل
شيء. فكلا الإثباتَين شرعيان، عقل الإنسان وحريته، وعلم الله
وقدرته.
خلق الله الإنسان وأودع فيه العقل لمعرفة أسرار الكون كما قال ابن
عربي:
الإنسان نفسه من أكبر أسرار الكون. ويستجلي بعقله ما غمض عليه عن طريق
العلم. فما كان خيالًا أصبح حقيقة. يُقلِّب الإنسان النظر في الفضاء
والبحار، ويقلِّد الطيور والحيتان فتنكشف الطيارات والغواصات والصواريخ،
ويتحرر العقل من الأوهام كل يوم. وليس بمستحيل إيجاد مطية تُوصله إلى القمر
أو الأجرام الأخرى (وقد حدث بالفعل). فالعقل ليس فقط مناطًا للتكليف وسندًا
للحرية والمسئولية متوجهًا نحو الفعل، ولكنه أيضًا الطريق إلى العلم
واكتشاف قوانين الطبيعة متوجهًا نحو العالم.
٧
ويدافع الأفغاني عن السببية وانتظام حوادث الكون في قوانين ثابتة
يُدركها العقل، ويُنكر وقوعَ الصدفة في الكون. ومن ثَم يتأسس العلم، ويتم
تفسير الظواهر الطبيعية، وتخضع الأحياء أيضًا للقوانين مثل هروب الجرذ من
الأفعى، ولجوء الإنسان تحت الشجرة للوقاية من ظواهر الطبيعة. ويُحيل
الأفغاني إلى القرآن
وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
سَبَبًا. فالعلم هو العلم بتسلسل الأسباب. ولولا قِصَرُ العمر لعلم
الإنسان أشياءَ كثيرة كما يقول القرآن
يُرَدُّ إلى
أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا،
لذلك كانت العلوم باستمرار ناقصةً مثل علم الطب الذي يكتشف كل يوم شيئًا
جديدًا. ولا يعرف كنه الكهرباء حتى الآن. عرفه القدماء في شكل الحجر
الصواني. ويقول علماء اليوم إن الأصل الماء — الحركة، ومنها تتولد الحرارة،
مثل ما قاله أبو بكر ابن بشرون منذ أكثر من ألف عام. وإذا كانت حقائق
الأشياء ثابتة فإنه يتعذر على فرد واحد العلم بها؛ لأن العلم تراكمٌ معرفي
تاريخي بین جماعات متعددة وعبر العصور.
٨
وبالعقل والتكليف والعلم تنشأ الصناعة وتعني العمران كما هو الحال عند
الطهطاوي؛ فالإنسان من الحيوانات الأرضية، وليس من الحيوانات السماوية كما
كان يزعم حكماء الفرس والصين. نشأ في الطبيعة راعيًا وصائدًا وزارعًا،
يتعلم من الحيوان الدفاع والهجوم. لم يكن قد تربَّع بعدُ على عرش الوجود،
بل كان جاهلًا بحقائق الكون، هيابًا من العالم. هذا حال القبائل في جنوب
أفريقيا التي لم تختلط بالعالم وما زال فيها سذاجة الفطرة. ثم تحضر الإنسان
بالكد والعناء وبقوة العقل في التصريف. وقد تحقق ذلك في الصناعة التي
اخترعها بقوته العقلية لتكوين عوض له عن ضعفه. فصناعة الحياكة تحمي جسمه
مثل الحيوان. وصناعة الحديد والأسلحة بدلًا من المخالب. ومن هنا أتت أهمية
الصناعة وأقسامها الأولية. الصناعة قوة تتجاوز الأفعال الطبيعية مثل حرق
النار، وتزداد قوة. وبالفكر الصحيح يتم اكتشاف نظام الكون. وتستعمل القوة
ليس فقط لخدمة النفس كما يفعل الحيوان بل لخدمة الغير. العقل آلة الإنسان
وقوته. وعمله الصناعة. فالصلة بين العقل والصناعة كالصلة بين النظر والعمل.
ينظر العقل في كلية العالم فيدرك النوع الإنساني، ويعمل على حفظه وكماله.
ويرى أن ذلك يتم بالاجتماع والزراعة والحدادة والتجارة والحياكة ثم التخصص
في بعضٍ منها حتى ينشأ من مجموعها التعاون الإنساني. وذلك مثل أعضاء البدن
التي في مجموعها وعلى تخصُّصِها تكوَّن البدن. وتنقسم إلى صنائع طبقًا
للمنفعة والضرورة والكثرة والكمال والتمام إلى ثمانية: ناقصة ضرورية
كالحدادة، ناقصة غير ضرورية كقص الثياب، نافع للإنسان وحده كالحكمة، خيرة
بالوسط مثل الزراعة والكتاب، ولها غايات سوى نفس الإنسان ولكن تئُول إليه،
كثيرة النفع كالنجارة والتجارة، قليلة النفع مثل صناعة الصيد، متممة لفعل
الطبيعة مثل الطب المتمم لأفعال القوى الحيوانية المساعد لها على وظائفها،
ومزينة له مثل الصباغة والنقش والتلوين. وتتفاوت هذه الصناعات الثمانية
شرفًا وحكمة. أعلاها الحكمة؛ لأنها تبحث في كل شيء، فهي أشرف الصناعات،
وغيرها خادم لها. وهو نفس تصور الفلاسفة القدماء خاصة الفارابي.
٩ هنا يأخذ الأفغاني وجهةَ نظرِ أنثروبولوجية في نشأة الصناعات
تقليدًا للحيوان في الطبيعة.
ثم يتوجَّه الأفغاني بعد ذلك إلى نقد التصوف المناهض للعقل والتكليف
والعلم والصناعة. وينقد الإباحية أي عدم العمل، ونفي الملكية وإباحة
الشيوع، وترك الأعمال، وهي أمراض المجتمع مثل الفسوق والفُجر. ومثلها
البطالة وترك الأسباب بدعوى التوكل الكاذب ومعارضة سنن الله في الكون،
وانقطاعًا عن عالم الظواهر مع التخلِّي عن التعفف. ولا سبيل إلى تحقيق
الصناعة إلا بتطهير المجتمع من كل هذه القِيَم السلبية التي يروِّج لها
التصوف كما يتم التخلص من شعر الإبط؛ إذ يدعو الصوفية إلى الزهد والبطالة
وترك العمل، وهم أقرب إلى الطمع والرياسة الكاذبة والحقد والحسد ونهب أموال
الناس بدعوى الإباحة. فلا قوام للإنسان إلا بالصنعة قوام البنيان الإنساني.
١٠ وهنا يبدو الأفغاني كالعادة رافضًا الاشتراكية التي يسميها
الإباحية، ويدافع عن الملكية الخاصة كما تفعل الاتجاهات الدينية الرجعية
المحافظة في المجتمع التجاري مدافعةً عن الرأسمالية باسم الدين.
والعقل والفعل أو النظر والعمل ليسَا بغريبَين على الإسلام. العلوم
والسياسة في صلب القرآن. فكل شئون السياسة من سلطان وحكومة وشورى في القرآن
في سورة النمل، في قصة سليمان والملكة سبأ والهدهد. الملك يتفقد الهدهد فلا
يجده. والهدهد يأتيه بالأخبار، امرأة ملكًا وقومها يسجدون للشمس، ثم رسالة
من سليمان لها، ومشورة سبأ، وحكمها على الملوك والفساد وإذلال الأعزة،
وإرسال هدية إلى سليمان لعل المال يكون مطمعًا له. فردَّها سليمان إيذانًا
بالحرب. ثم نقل عرشها إلى القدس. كل ذلك مثل العلوم الحديثة، الطائرة
واللاسلكي، والانتقال من البطيء إلى السريع، من إحضار سبأ قبل أن يقوم
سليمان من مكانه إلى سرعة أكثر قبل أن يرتدَّ إليه طرْفُه مثل المغناطيس.
كما أشار القرآن إلى كروية الأرض
وَالْأَرْضَ بَعْدَ
ذَلِكَ دَحَاهَا، ودوران الشمس حول محورها
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا، وانفصال الأرض عن الشمس
كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا، وفناء
العالم باختلال النظام الشمسي بالزلزال
إنَّ
زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ،
إِذَا
زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا، ومحاور الأرض الأربعة
وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَة، ومن علم الاقتصاد تجميع
الثروة وجباية العشر وقت الحصاد كرسوم
وَآتُوا حَقَّهُ
يَوْمَ حَصَادِهِ.
١١ وواضح أن الأفغاني من أنصار رأي المعاصرين أن العلوم في
القرآن، الطبيعية والإنسانية. كما يحدث في برامج
العلم والإيمان وفي تيار أسلمة العلوم، أخذ العلوم الغربية ثم
تأويل القرآن طبقًا لها سلبًا أو إيجابًا. فالغرب يُبدع والمسلمون يؤوِّلون
النصوص طبقًا لإبداع الغرب. مع أن القدماء أبدعوا العلوم بعد أن تحوَّل
النصُّ إلى تحرير للعقل وتوجُّه نحو الطبيعة. اكتشاف السياسة والعلوم في
القرآن لا يؤيد ما يدعو إليه الأفغاني من عقل وتكليف وعلم بل يؤدي إلى
الكسل والتقليد والنقل، النقل عن العلوم الغربية ثم الاكتفاء بتسليط الآيات
القرآنية عليها قبولًا أو رفضًا، وتحكيمًا للنص في العقل والتجربة. يوهم
المسلمين أن القرآن به كلُّ شيء، فيستفيدون من علوم الغرب نقلًا بعد ختمه
بطابع القرآن. فإذا ما تغيَّر العلم الغربي تغيَّر التأويل والطابع والختم.
فيصبح العلم الغربي هو الثابت، مع أنه متحول، ويصبح القرآن متحولًا مع أنه
هو الثابت. ويوهم المسلمين بأنهم حصلوا على الحُسْنيَين في الدنيا والآخرة،
في الدنيا علم الغربيين الذين سخرهم الله للمسلمين، وإيمان المسلمين الذي
حرم الله منه الغربيين. فالغرب لديه العلم دون الإيمان فهو الخاسر،
والمسلمون لديهم العلم والإيمان، وهو الفتح المبين. وقد اعترف الغرب بفضل
العرب على العلم الغربي نفسه مثل الجبر الذي وضعه أبو السمح والجاذبية التي
اكتشفها أبو بكر بن بشرون قبل نيوتن في القرن الثالث للهجرة، واعترافه
بوجود قوة حاسة قابضة منعكسة من المركز، الأرض، في تفسير مركبات الكيمياء.
كما اكتشف التحليل والتركيب تلميذ المجريطي في القرن الثالث كما ذكر في
رسالته إلى أبي السمح التي يذكرها ابن خلدون بتعبير الحل والعقد. واكتشف
ابن بشرون الفوسفور واستحضاره. ويقول المؤرخ الألماني هوفر لتاريخ الكيمياء
إنه وجد رسالة مترجمة إلى اللاتينية لبشير من علماء العرب يبيِّن فيها
استحضار الفوسفور من الأدرار، ويسمِّيه الياقوت الجمري الاصطناعي. واكتشف
ابن بشرون استحضارَ الأوكسجين من حجر المغنيسيا، ويسميه روح حساسة أي غاز.
وكذلك اكتشف الأيدروجين وخواصه مثل إطفاء الأجسام الملتهبة. واكتشف جابر
بن حيان حامضَ الأزوت في القرن الثاني. كما اكتشف الرازي حامضَ الكبريت في
القرن الثالث. وعرف استحضاره، وذكره في الحاوي، وسماه روح الزاج، وبتقطير
كبريت الحديد يستحيل إلى حامض الكبريت وهو أهم الحوامض وأنفعها في الصناعة.
واكتشف المجريطي الذي انتهت إليه الرياسة في الأندلس في القرن الثالث،
فاعتبر الكيمياء ثمرة الحكمة، تتم بالصناعة، وعمل المعادن الخسيسة،
وتحويلها إلى ذهب وفضة، وقد أنكر ابن خلدون على المجريطي وابن بشرون
قولَهما بصحة الكيمياء؛ لأن رسالة ابن بشرون من قبيل الألغاز مع أنها واضحة
وفنية صرفة. وهو علم جليل أخذه الأوروبيون عن العرب قبل لافوازييه. وقد دل
ابن بشرون في رسالته إلى أبي السمح على الحجر الفلسفي أو حجر الحكمة. وذكر
مع التحليل والتركيب التقليب وهو تغيُّر جوهر الشيء. ويمكن بالتفاعل حدوث
جسم معتدل منها البوتاس دون تمويه على السذَّج من انقلاب الورقة دينارًا.
كما ذكر التنشيف. فالصابون لا يمكن تنشيفه بالهواء ولا بالشمس أو الحرارة.
كما ذكر التنقية أو التطهير. وذكر التكليس بالاحتراق أو ضغط الهواء، ومكتبة
بغداد والأندلس والقيروان وما ترجم في عصر العباسيِّين وما حققه العرب من
المباحث كانت وأوروبا ما زالت في عصر الجليد.
١٢ وهكذا يضع الأفغاني التقابل بين علم القدماء وجهل المحدثين،
ويضرب المثل بعلم الكيمياء رافضًا استعماله كأداة من أدوات السحر. بل إنه
ينقد ابن خلدون لهجومه على علم الكيمياء لإدخالها كلمات أعجمية.
لذلك يردُّ الأفغاني ردًّا شهيرًا على رينان الذي هاجم الإسلام في
نقطتين: الأولى أن الديانة الإسلامية كانت بما لها من نشأة خاصة مناهضة
للعلم. والثانية أن الأمة العربية غير صالحة بطبيعتها لعلوم ما وراء
الطبيعة والفلسفة.
١٣ ويردُّ الأفغاني على النقطة الأولى بأن مناهضة العلم ليست في
الإسلام نفسه بل في صورة الإسلام في العالم أو في أخلاق بعض الشعوب التي
اعتنقَت الإسلام خاصة إذا كان هذا الاعتناق بالقوة، ثم يتحول الأفغاني من
الدفاع إلى الهجوم مبينًا أن رؤساء الكنيسة الكاثوليكية ما زالوا يحاربون
التدليس والضلال ويقصدون به الفلسفة. ويردُّ على النقطة الثانية بأن العرب
خرجوا بسرعة من حالة القبيلة إلى حالة الأمة، تعادل سرعتهم فتوحاتهم
السياسية. وفي خلال قرن، عرفوا العلوم اليونانية والفارسية، وحفظوا آثار
روما وبيزنطة. ثم وسعوها وأضافوا عليها. وهو ما لم يفعله الإنجليز
والفرنسيون والألمان. وظلوا ناقلين لروما وبيزنطة اعتمادًا على العرب
وتراثهم في المشرق والمغرب. وقد أخرج العالم الإسلامي على مدى خمسة قرون
مفكرين وعلماء، أدباء شعراء. ولكن رينان يعتبرهم من أصول غير عربية، حرانية
أو أندلسية أو فارسية. ويردُّ الأفغاني بأنه إذا كان العلماء فرسًا فإن
الحرانيين عرب، والعرب بعد فتح إسبانيا ظلوا عربًا. واللغة قبل الإسلام
كانت لغةَ الحرانيين برغم كونهم من الصائبة. وكان أكثر نصارى الشام عربًا
غسانيين. ولم يكن ابن باجة وابن رشد وابن طفيل أقلَّ عروبة من الكندي.
ونابليون نفسه ليس فرنسيًّا. وكثير من العلماء الذين استوطنوا ألمانيا أو
إنجلترا أتَوا من خارجها. لقد وحَّد الإسلام بين الشعوب، ولم تَعُد هناك
جنسية غير الإسلامية. وإن تصور الجنسيات في دراسة تاريخ الأمة الإسلامية هو
إسقاط من الحاضر على الماضي، ومن الغرب على الشرق، ومن الثقافة الغربية على
الثقافة الإسلامية.
١٤
(٣) العلم والعمل
إذا كان العقلُ مناطَ التكليف وطريق العلم فإن العلم طريق العمل. ولا
يحصل علم دون تحرير العقول من الأوهام، فإن قيد الأغلال أهون من قيد العقول
بالأوهام. العقل أشرف مخلوق. فهو عالم الصنع والإبداع ولا معطل له إلا
الوهم، ولا يُقعده عن عمله إلا الجبن، وهو الذي يخيِّل المفقود موجودًا
والقريب بعيدًا. وكلُّ شيء في هذا العالم خاضعٌ لمطلق العقل الإنساني.
والمستحيل اليوم في العلم يكون ممكنًا غدًا في العلم والصناعة، وإن ثمرة
العقول لا تُجتنى إلا بإطلاقها من قيود الأوهام. والحقائق لا تزول بالأوهام
بل العلم والتحليل والعقل. فالحقيقة تثبت وتقضي على الوهم.
١٥
ولا يكتفي الأفغاني بهذه الأقوال المأثورة عن العقل والوهم بل يحلِّل
الوهم ويطبقه في العمل السياسي؛ فالوهم ليس مجردَ خداع في النظر وخطأ في
الإدراك بل له تحققات عملية في التوهم أي خداع النفس، مثل التوهُّم بأن
الإنجليز سيساعدون المسلمين ضد أطماع المستعمرين الهولنديين والبرتغاليين
فيهم، وأنهم جاءوا إلى مصر لمساعدة توفيق ضد ثورة عرابي عليه، وجاءوا إلى
الهند لحمايتها من الاستعمار البرتغالي والإسباني. الوهم مرآة للمزعجات
والمسرَّات، يصور الواقع على غير ما هو عليه، يحجب الحقيقة عند الرؤية،
ويتسلط على الإرادة. يجعل الضعيف قويًّا، والقريب بعيدًا، والأمان خوفًا،
يصرفه الواهم عن حسِّه. يتخيل الموجود معدومًا والمعدوم موجودًا. كان
الإنجليز أمة مجتمعة القوة، مستكملة العدد، مستعدة للفتوحات في وقت كانت
الأمم الشرقية مفككة جاهلة بأحوال الغربيِّين، يعدون كلَّ غريب معجزة، وكل
بديع سحرًا أو كرامة. انتهز الإنجليز الفرصة، واندفعوا إلى الشرق وبسطوا
سلطانهم على أرجائه، وأوهموا الناس بالأعاجيب والحيلة والمكر، وسلبوا
أموالهم، وانتزعوا أراضيهم. ثم تنافست على ذلك الدول الأوروبية. والوهم
يمثل للشرقيين أن الإنجليز أصدقاء، ويمثل للغربيين أن إنجلترا دولة منعزلة
بعيدة. ذهب الإنجليز إلى الهند، وتسابقوا مع فرنسا وهولندا والبرتغال على
الاستيلاء على أراضي الهند. وساعدتهم على ذلك غفلة الهنود، فمالوا إلى
الإنجليز، وصدقوا أنهم يريدون تخليصهم من الدول الظالمة، فرنسا وهولندا
والبرتغال. وأصبح للإنجليز سلطانٌ على الهند والهند الصينية وبورما، ولا
تزيد قوتهم على خمسين ألف إنجليزي، مع أن الممالك الصغيرة يمكنها جمع قدر
هذا العدد عشرات المرات بالإضافة إلى ما عند الأهالي من سلاح. استولى الوهم
على المشاعر فاستولى الإنجليز على الأراضي. وفي الدول العربية هناك مَن
يهاب دولة الإنجليز تحت وهمِ أنهم سيدافعون عنها. وبعض الدول الأوروبية
تهاب الإنجليز مثل أيرلندا. وينظر العثمانيون إلى الإنجليز كما ينظرون إلى
الروس. ويظنون أن معارضتهم تجلب الضرر. وظنوا أن الاعتماد على إنجلترا يجلب
النضج، والدولة العثمانية أكبر عددًا وعتادًا. وإنجلترا تُوهم الهنود أنها
خليفة الدولة العثمانية. ولو أن العثمانيِّين استعملوا سلطتهم على الإنجليز
والهند لما ضاعت الهند. كما تعدَّت إنجلترا على حقوق السلطان في المسألة
المصرية وهي مسألة عثمانية.
وكان المصريون أيام عرابي قسمين، قسم من أنصار توفيق وقسم يميل إلى
عرابي. الأول فشل، والثاني ارتاب، ولا عزيمة مع الشك. فدخل الإنجليز مصر
بلا حرب، بالترهيب والترغيب والدسائس. فتفرق الناس عن عرابي، وأُوهموا أن
الإنجليز يؤيدون توفيق. فتساهل المصريون معهم، وأحسنوا الظن بالإنجليز.
فاستقرت أقدامهم مع أنه لا يوجد أحدٌ من المصريين يميل إليهم. بل هناك من
يبغضهم. لكن الوهم يكبح العزيمة. ذهل المصريون عن الأسباب التي مكَّنَت
الإنجليز من البلاد ظانِّين أنهم على كلمة واحدة في مدافعة الإنجليز مع أن
الإنجليز دخلوا بمعونتهم. احتلَّت مصر بالوهم، وهم أن العساكر قادرة على
قهر الأهالي، فاستسلموا، مع أن إنجلترا لا تستطيع أن تُرسل إلى مصر أو
السودان أكثر من عشرين ألف جندي لا يستطيعون مقاومة المصريِّين
والسودانيِّين على سواحل مصر وبحيراتها. صحيح أن للإنجليز قوةً بحرية ظهرَت
في سواكن ولكنها تعجز عن العمل أكثر من فرسخَين مع مناوأة الأهالي لهم من
الأرض. لكن الوهم حجب الأبصار. وقد أزال الأوروبيون الوهم عن أبصارهم،
وأدركوا ضعفَ الإنجليز، كذلك على الشرقيِّين إزالة الوهم وعدم استبدال سيد بسيد.
١٦
لا يستطيع الوهم أن يغلب الحقائق مثل خداع الشرقيِّين والمكر بهم.
فللوهم آثارٌ قوية في الأمم الضعيفة، له سلطان على الإرادة وحكم على
العزيمة. يذهل الواهم عن نفسه ويصرفه عن حسِّه، يخيل الموجود معدومًا،
والمعدوم موجودًا. الوهم كونٌ غير موجود، وعالم غير مشهود. هو روحٌ خبيث
يُلابس النفس وهي في ظلام الجهل. إذا خضعت الحقائق سادت الأوهام، وتسلَّطَت
على الإرادات فقاد إلى الضلالة.
١٧
ويرتبط الوهم بالجبن. فالجبن أبُ الوهم ومربِّيه. ويبدأ مقاله عن
الجبن كالعادة بآيتَين قرآنيَّتَين
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ
كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ، قلْ إِنَّ
الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ، وهو
الذي قضى على دعائم الملك، وقطع روابط الأمم، وأوهن عزائم الملوك، وأضعف
قلوب الناس. يسهل على النفوس تحمُّل الذل والعبودية والهوان، وتلقِّي
الإهانة بالصبر وطأطأة الرأس. الجبن عار، وتخاذل النفس عن المقاومة مرض
نفسي، يرجع إلى الخوف من الموت وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ
بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ. الجبن فخٌّ ينصبه الدهر، يدفع إلى خيانة
الأوطان، والكذب والنفاق.
مَن يَهُن يَسْهُل الهوانُ عليه
ما
لجُرحٍ بميِّتٍ إيلامُ
والمسلمون أبعد الناس عنه. فلكل أجل كتاب
أَلَمْ
تَرَ إلى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ
إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ
خَشْيَة وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا
أَخَّرْتَنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ،
الإقدام في سبيل الحق سمةُ المؤمنين، والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر مهمةُ العلماء دون خوف أو جبن. وفرقعة السيوف بغير فتك، والتبختر
بلامةِ الحرب إبَّان السلم من الأدلة على الجبن في مواطن القتال. الجبن لا
يُغني، والشجاعة لا تُفقر، فلمَ الجبن دون الشجاعة؟ لولا الوهم والجبن لما
احتل الإنجليز الشرق. ولو أدرك الشرقيون قوتَهم الطبيعية لانكشف ضعف
الإنجليز. ربح الإنجليز بالمكر والحيلة، وخسرت الأمة بالجبن والوهم. كان
الإنجليز أمة مجتمعة القوة مستكملة العدد مستعدة للفتوحات، والشرقيون
مغرقون في حجب الجهل بالصنائع، فأعدوا كلَّ غريب معجزة، وكلَّ بديع سحرًا
أو كرامة. فإذا انتهز الإنجليز الفرصةَ وسيطروا على الشرق، على الأمة إذن
التحرُّر من الوهم والجبن، وأن تعود كما كانت أسودًا تستردُّ المفقود
وتحافظ على الموجود.
١٨
والوهم مثل الجهل ضد العقل والعلم. فما استحكم الجهل إلا وتفرَّقَت
الكلمة. ووجود الجهل في غياب العلم، وإذا وجد العلم غاب الجهل. وإذا خلا
الميدان من العقلاء تسابق الجهلاء. وإذا ساد الجهال ساءت الأحوال. والجاهل
الحي ميت، والعالم الميت حيٌّ. والعالم الفقير غنيٌّ بعلمه، والغني الجاهل
فقير بجهله. وانهزام العقلاء أمام الجهلاء أولى من الظفر بهم. وشرُّ
الأزمنة أن ينبح الجاهل ويسكت العاقل. فالجاهل أعلى صوتًا والعالم أكثرُ صمتًا.
١٩
والعلم هو العلم الواضح دون تطويل للمقدمات أو سقم للنتائج، ومع ذلك
فالقياس منهج العلم. القياس هو البرهان وليس قال يقول، أقوال الناس. وإذا
ما تعارض السماعي مع القياسي أي النقل مع العقل فإن في أحدهما عوجًا أو
انحرافًا؛ إذ لا يحقُّ لأحدهما أن يمنع الآخر. فإذا ما جاز انحراف السمع
فإنه لا يجوز اعوجاج العقل، ومن ثَم فالعقل أساس النقل.
٢٠ لذلك ينقد الأفغاني رجال الدين الذين أضاعوا حقائق الدين بين
سوء معقولاتهم وعدم تفهُّم منقولاتهم.
والعلم هو العلم الحي وليس العلمَ الميت، العلم في الراس وليس في
الكراس، العلم الشفاهي وليس العلمَ المدون، العلم في القلب وليس العلم على
اللسان. فالعلم الحي في الصدر الحي. ومقبرة العلوم خزانات الكتب. كان مقرُّ
العلم في الرأس والصدر ثم انحدر إلى الجُبة والسطر. وأصبحت صورة العالم
عمامة كالبرج وجبة كالخرج. «وكما أن عظمة
الملك لا تكون بالتيجان فإن وقار العلم لا يكون بالطيلسان.»
٢١ وينقد الأفغاني رجال الدين الذين يحللون ويحرمون بغير نصٍّ.
وقد نهى الرسول عن ذلك. وكان قد رأى شيخًا بعمامة كالبرج وجبة كالخرج أخذ
بتلابيب رجل بجوار جامع الآستانة لأن لبس القميص حرام وكفر؛ لأنه من صنع
الإفرنج الكفار مع أن عمامة الشيخ وجبَّته من صنع الإفرنج. ولا يستوي
العالم والجاهل كما لا يستوي الملك والرعية والأمير والصعلوك، وإلا لما نفع
في الشرق لسان أو قلب. والعلم نور داخلي. وعماء البصيرة أضرُّ من عماء
البصر. وكم من أعمى نبغ، حسدَه ويحسدُه المبصرون، وكم من أبكم بإشاراته
أفصح من عَيِيٍّ بكلماته. ولذلك يتم الحجر شرعيًّا على الفرد السفيه.
٢٢
والعلم للجهر والإعلان؛ فالصامت عن حقِّه محروم. وصاحب الحاجة إذا لم
ينطق بحاجته كان أولى بالخرس. وإن أكبر دليل على كبر الهمة مجاهرة المرء
بمخالفته المألوف إذا تحقق بطلانه. ويكون التعبير عن الحق بلا اختصارٍ
مخلٍّ أو تطويلٍ مملٍّ. فقلة الكلام لا تكون في الغالب دليلًا على الكمال.
وليس في كل اختصار بلاغ. وفي نفس الوقت التكلف للسجع ينفر منه الطبع، ويحسن
وقعه إذا جاء عفوًا. وإن أحقر صناعة لنحَّات أنفع من تقعُّر النحاة، وإن
أظهر الآداب وأليقها بالعلماء والمتعلمين عدم قطع الحديث على المتكلم وتركه
يُتم ما يريد، أن يرويَه من غير أن يسبقَه إليه ولو كان من منسياته.
٢٣
والعلم الصحيح نسبٌ صحيح بل وراثة النبوة طبقًا للحديث المشهور
«العلماء ورثة الأنبياء». العلم يتراكم حتى يُحدثَ الوعيَ العلمي، والوحي
يتوالى حتى يكتملَ ويحقق غايته في إعلان استقلال العقل وقدرته على الفهم
واستغلال الإرادة وقدرتها على الحرية والاختيار. وكل دعوة تستند إلى علم.
فكثرة النصراء لداعٍ أو لدعوة عن غير علم منهم بصحة الدعوى ذلة ومذلة.
وقليل من النصراء لدعوة عن علم مكانة واستطالة.
٢٤
والعلماء والعقلاء لا يصح أن يكونوا أكثرية في محيطهم. وحكيمان عاقلان
في أمة مجموعها مليون خيرٌ من ألف متعاقل ومدِّعي حكمة فيها. ويقلُّ
العلماء حتى يكثر المتطفلون والمدَّعون. هنا يبدو الأفغاني من أنصار
الأقلية المؤمنة والنخبة العالمة القادرة على قيادة المجتمع، نخبة العلماء
والعقلاء والحكماء. فالعالم الحق يساوي نصف مليون من مجموعة الأمة. ومن ثَم
تكمن الخطورة في مدعي العلم والحكمة والمتطفلين عليهما.
٢٥ وهي النظرة النخبوية الموروثة عن تاريخ الأنبياء والصحابة
والحواريين والتي ما زالت مسيطرة حتى الآن على الجماعات الإسلامية
المعاصرة. ومع ذلك علماء العصر يُظهرهم العصر، وقادة الأفكار تُبرزهم
الأخطار في تفاعل جدلي بين القيادة والجمهور والعصر. والعلم هو العلم
بالغاية؛ إذ ليس في الإنسان عضوٌ يتحرك لغير قصد وغاية. فكل حركة يعملها
الإنسان لا يعلم غايتها يُحكم عليه بالجهل، العلم هو العلم بالعلة الغائية
وليس بالعلة الفاعلة بالضرورة كما هو الحال في العلم الطبيعي. العلم
الإنساني يتحدد بغاياته ومقاصده. العلة الغائية هي العلة الفاعلة بالحقيقة
كما هو الحال عند إقبال وفشته. العلم على ما به من جمال لا يُرضي الإنسانية
كل الإرضاء؛ لأنها تتعطش إلى مثل أعلى، وتحب التحليق في الآفاق المظلمة
التي لا يستطيع الفلاسفة والعلماء ارتيادها.
٢٦
وصحيح العلم والذل نقيضان لا يجتمعان؛ لأن العلم يَهبُ القوة والعزة.
وصاحب القلم لا يحتاج إلى عصًا؛ لأن علمه قوة. ولو لم يتنازع الخلق على
الحق لما كان ثمة باطل، فالعلم نضال بين الحق والباطل. وبعض الخلق يرضون
بالموت خوف الموت، ويلبسون لباسَ الذل خوف الذل، فيموتون بالذل. ولكن بعض
الشرقيين يرون الحقيقة مرارة، والوهم حلاوة، والذل هناء، وطلب العلا والعز
الشقاء والعناء. وقد شكا إليه مرةً رجلٌ من الأدباء عدمَ صرفِ رواتبه فشجعه
جمال الدين؛ لأن الدخول في باب الذل يُثمر الذل. والشرق في فقر لخوفه من
الفقر، وفي موت لخوفه من الموت. فالذهاب إلى السلطان بمنطق الاستغناء،
ومنطق الهمة ورفع الصوت أدعى لاسترداد الحقوق. والذل نتيجة للجبن الذي يقعد
بالنفوس عن العمل، وينحدر بها إلى مناطق الزلل. فالجبن يوهن دعائم الملك،
ويقطع روابط الأمم، ويوهن عزائم الملوك. فتنقلب العروش، وتضعف القلوب،
وتسقط الصروح، وتُغلق أبواب الخير، ويسهل للنفوس احتمال المذلة، وتحمل
العبودية. يُلبس النفس عارًا وموتًا كل لحظة.
٢٧
والعلم تواضع، والعلماء أول المتواضعين. والمبتدئ في أوليات العلوم يظن
أنه تبحَّر فيها وانتهى. والراسخ المحقق يعتقد أنه ما زال في الابتداء.
ومحدث النعمة بالمال يستعرضه في كل مكان، ومحدث النعمة بالعلم يُلقيه على
كل إنسان. وقضايا الجهل في الإنسان أكثر من قضايا علمه. وعمرُ الإنسان
أقصرُ من أن يُنيلَه ما يجب أن يعلمَه، والعلم قشور ولباب. فالواقف على
القشور يغرق في بحر الغرور، والمغرور مَن لا يرضى إلا عن نفسه وعمَّا يصدر
عنه قولًا كان أو عملًا. وطالما كثر الادعاء المجرد بالصلاح والإصلاح عمَّ
الفساد وشمل. ولا تطيب نفسُ الإنسان بالتواضع إلا إذا عَلِم بعضَ العلم.
فالتواضع لا يعني الجهلَ حقيقةً أو ادعاء. والإفراط في التواضع دليلٌ على
الادعاء. ويدافع الأفغاني عن صديقه شبلي شميل واتهامه بالغرور ويعتبره عزة
نفس على عكس السوفسطائي قليل العلم ويطلب الاحترام ويضع النياشين ويدَّعي
أبهةَ المنظر.
٢٨
ويسترسل الأفغاني في بيانِ بعضِ الرذائل التي يمحوها العلمُ مثل الحسد
والنفاق. فأثقلُ الأعباءِ محاولةُ الحسود سترَ فضلِ المحسود. وكثيرًا ما
ينشأ النزاع بين العلماء لا بسبب العلم بل بسبب الحسد. فالأكفاء في العصر
لا يكونون في الغالب أصدقاء وكأن السماء لا تسَعُ إلا لكوكبٍ دريٍّ واحد.
والنفاق ادعاء، وإيجاد مَن لا وجود له. والمعوج الظاهر من الناس أقلُّ
ضررًا من المتلبس بالاستقامة. ومَن ظنَّ أنه خدع الناس بالباطل يكون أولَ
مخدوع. والعجيب أن المنافق لا يتصور أن الناس تراه. فهو كالأعمى الذي يظن
أن جميع الناس بدون أبصار.
٢٩
وأخيرًا يُبرز الأفغاني ارتباطَ العلم بالعمل بطرق عديدة. يبدأ العمل
بالمبادرة. فالعاقل من اعتقد بعجزه ثم سعى إلى العمل. والاعتماد على النفس
والتوكل من أقوى عوامل الظفر. ومَن فُتح له الباب ولم يدخل كان أولى
بالطرد. والعمل لا يعني فقط الجهدَ النظري ولكنه يضمُّ أيضًا العملَ
اليدوي. فأصغر صناعة لنحَّات أنفع من تقعُّر النحاة. وحمَّال الحطب للاتجار
أنفعُ من حمار الذهب للادخار. ولا تنفع الحكمة إن لم يشفعها عمل. فطلاب
الحكمة كثيرون ولكن ما أقل العاملين. ولا ينفع القول إن لم يتبعه عمل.
فالقائد مَن قاد بأفعاله لا بأوامره وأقواله. والأمير بأفعاله خيرٌ من
الأمير بأمواله. وألف قول لا يساوي في الميزان عملًا واحدًا. والعمل تحقيق
لأمل. فالأمة أرضها الأمل وبنيانها العمل. والاستقلال أملٌ يتبعه عمل وحمل
النفس على المكاره واقتحام المهالك والمصاعب. والحرية تؤخذ ولا تُعطى،
والاستقلال لا يُنال بالأقوال. وإذا لم تتذرع الأمة بشكواها من ظالمها بغير
الكلام فاحكم عليها بأنها أقل من الأنعام. والعمل هو الطريق إلى جنة النعيم
حاضرًا أو مستقبلًا. فالنعيم والجحيم يتجليان للإنسان في صور أعمال فيتنعم
بالحسن منها ويتألم من القبيح. وقلَّما يأتي الحق بدون عناء. فالعمل جهد
ومشقة. لذلك كان الأنبياء من كبار العاملين. فمحمد نبيٌّ مرسل. وكان قبل
النبوة أمينًا صادقًا، لم يقتنع بأسود بيته، حمزة وعلي وأبطال قريش
والأنصار. بل شاركهم في الحرب، وتكسَّرَت ثناياه. وتخضَّب وجهُه بالدم
انتصارًا للحق ومقاومة الباطل. كان معلمًا بنفسه لغيره بقوله وعمله. ويتخذ
الأفغاني الرسول قدوة صائحًا في المسلمين
أين
المسلمون اليوم من هذا الإقدام وتلك الهمة؟٣٠