(١) الفضائل الفردية
إن أهم ما يميز الإنسان على الحيوان هو الفضائل والأخلاق؛ فلا خير في
إنسان يفضله الحيوان، فالإنسان حيوان أخلاقي، والأخلاق هي التي تدل على
الإنسان وتعبِّر عن جوهره. فأنَمُّ شيء على الإنسان فضيلته ورذيلته.
١ وميسور على الإنسان فعل الأسود، وممتنع على الأسود عمل
الإنسان، والإنسان مثل الحيوان قوة، والحيوان ليس كالإنسان فضيلة.
ويفسر الأفغاني مقولتَي الحسن والقبح تفسيرًا أخلاقيًّا مثل المعتزلة
القدماء، مشيرًا بهما إلى الفضائل والرذائل. فالفضائل سجايا للنفس للتأليف
والتوفيق كالسخاء والعفة والحياء. أما الرذائل فهي كيفيات خبيثة تعرض
للأنفس، تحلِّل وتفرِّق؛ كالقحة، والبذاءة، والسفه، والبله، والطيش،
والتهور، والجبن، والدناءة، والجوع، والحقد، والحسد، والكبرياء، والعجب،
واللجاج، والسخرية، والغدر، والخيانة، والكذب، والنفاق.
٢
والغريب أن الأفغاني يجعل الأحكام بالحسن أو بالقبح نسبية على عكس
المعتزلة، مرتبطة بحالة الإنسان في الرضى والغضب. فمن الغرائب في طبائع
الإنسان أنه إذا رضيَ استحسن القبيح واستسهل الصعب، وإذا غضب عكس الأمر
فيستقبح الحسن ويستصعب السهل. فلو مزج الإنسان ساعةَ رضاه في ساعة غضبه
لوقع على الهيئة المتوسطة وفاز بالفضيلة، فالحكم بالحسن والقبح يتبع الحالة
الشعورية للإنسان، ولما كان الشعور في حالتَين متعارضتَين كما هو الحال في
أحوال الصوفية فإن الإنسان يُصدر حكمًا في حالة التوسط بينهما، وهي حالة
افتراضية صرفة؛ إذ إن الحكم الأخلاقي لا ينتظر هذه الحالة المتعادلة، ولا
يصدر طبقًا لهذه القسمة الحسابية. ويضرب الأفغاني المثل على نسبية الحقائق
والأحكام بأن لكلِّ خطٍّ طرفَين، ولكلِّ إنسان وجهًا وقفًا، وهما الفضيلة
والرذيلة. الفضيلة وجهُه، والرذيلة قفاه. لذلك يختلف الحكمُ على الأشخاص
باختلاف الزمان والمكان والموقف وقصد القائل، مما يجعل الإنسان قادرًا على
الاقتناع بالشيء وضده في موقفَين مختلفَين. ويؤصل الأفغاني هذه النسبية —
على عكس ما هو شائع — في حياة الرسول. فقد تعامل مع أبي سفيان بطريقتَين:
إذلاله بعبور جيش المسلمين أمامه، وإكرامه بعد الفتح؛ لأنه من سادة قريش.
وأثنى على تبختُر أبي دجانة طالبًا
قريش
للمبارزة، كما أثنى على الخَلِّ باعتباره نعم الأُدُم تطييبًا لقلب الفقير.
٣
ثم يعدِّد الأفغاني بعضَ الرذائل وبعضَ الفضائل الفردية وآثارها على
حياة الأفراد والجماعات. وربما تكرَّر البعض منها في
الرد على الدهريين. منها الجبن والذل؛ فالجبن لا يُغني
والشجاعة لا تُفقر. والجبن أقبحُ عيوب الملوك؛ إذ يحتاج الملك الجبان إلى
الصعلوك الشجاع، وبالتالي يستمد الملك الجبان وجودَه من الرعية الشجاعة،
ومن ثَم يكون الجبن والشجاعة نقيضَين، الجبن من الرذائل والشجاعة من
الفضائل. ومن دواعي الذل المسكنة، والسؤدد مع عزة النفس. وأصغر الناس مَن
يطلب موتَ الناس ليحيا، وأعظمهم مَن يستميت ليحيَا ولو واحد من الناس.
فالحقارة أنانية، حياة الفرد ولو مات الآخرون، والشهادة غيرية، موت الفرد
ليحيَا المجموع. والتسفُّل أيسرُ من الترفُّع؛ لأن الترفع يحتاج إلى جهد
ومعاناة وضبط للنفس. وساقط الهمة من علم موقع الفضيلة وصدق الدعوة ولم
يبادر إليها بل ينتظر أن يكون تابعًا مقلدًا لغيره فيهما. وخبث النفس من
الرذائل، ومن خبثَت نفسُه لَانَ ملمسُه وكَثُر ختلُه وخداعُه. ومن الرذائل
الإسراف في سوء استعمال الصحة. فإسراف الإنسان بصحته أضرُّ من إسرافه
بثروته. فالثروة تُعوَّض، والصحة لا تُعوَّض. ومن الأدواء والأمراض ما هي
عند أكثر الناس نعمة تفوق نعمةَ العافية. ومثال الأمراض النفسية جمع المال
مع صعوبة التمتع به وتربية الأولاد ثم استطالتهم على الأبوَين. ووباءُ
الغرض أفتكُ من دواء الأمراض؛ لأن فسادَ النية أخطرُ من فساد الجسد.
٤
ويَعدُّ الأفغانيُّ بعضَ الفضائل وهي عكس الرذائل؛ مثل الشجاعة والجبن،
والترفُّع والتسفُّل، والرفعة والذل، والقناعة والطمع، والأمل وطلب المجد
في مقابل سقوط الهمة. وتبدأ الفضائل بمحاسبة النفس أولًا، وأمر النفس بها
قبل أمر الغير. لو يحاسب الإنسان نفسه كما يحاسب غيره لقلَّ خطؤه وقرب من
الكمال. ومن عجز عن إصلاح نفسه كيف يكون مصلحًا لغيره؟ وأقرب مواد العدل
القياس على النفس، وعدم أمر الناس بالبر ونسيان النفس. والعاقل من مثل في
نفسه مثال ما استحسن من غيره؛ فالبداية بالنفس قبل البداية بالغير.
والبداية بالنفس شيء طبيعي في البشر؛ نظرًا لأن حبَّ المحمدة هو الدافع
لحسن الأخلاق. العالم الإنساني كتابٌ مفتوح للنظر والقراءة، للعظة
والاستبصار لكل ما خطَّه القدر الإلهي؛ فأول ما يلاحظ نهضة الشعوب
وانهيارها وتبدلها في أطوار مختلفة. فمن الناس مَن يراها أحداثًا بلا
دلالات، ومنهم مَن يراها عظة وعبرة. والسبب في ذلك أن الله قد أودع في
الإنسان ميلًا وهو حبُّ المحمدة الحقَّة، وحسن الذكر من وجوه الحق، ليس عن
طريق الزور والغش والرياء. المحمدة غذاء روحي ومقومٌ نفساني. ومن الفضائل
التوسُّط وعدم الإسراف. فالإنسان مسرفٌ في كل شيء. لذلك كثر بين الناس
المفرطون وقلَّ المعتدلون. ومن أعظم مجال الحكمة المحافظة على الهيئة
المتوسطة. والفضائل بلا شك هيئات متوسطة بين خلَّتَين ناقصتَين. ومن الصعب
وضعُ حدٍّ للعفة وحصرها بدايةً وانتهاء. فالعفيف في الماديات مثلًا إذا
عفَّ عن أخذ ألف دينار كيف يكون موقفُه عن المليون إذا عرض عليه؟ فالفضيلة
تختلف كمًّا كاختلافها كيفًا. ومَن يقطع اليد في سرقة محفظة يترك مَن يسرق
الملايين من ثروات الشعوب. وربما تكون القناعة أحد أسباب السعادة ولكن ليس
لها حدٌّ معروف. ومع ذلك فإن أول صفة رافقت الإنسان الأول هو الطمع وفيه
العناء وليس له حدٌّ. والقناعة وفيها الهناء وحدها ممكن وهو الاكتفاء
بالموجود وترك المتشوق للمفقود ولكن لا يعمل بها أحد.
٥
وتتداخل القيم الأخلاقية مع القيم الدينية مثل الإيمان، وهو من أفعال
الله كما هو الحال عند الأشاعرة. ومع ذلك ينقد الأفغانيُّ ضعفَ الإيمان في
نفوس المسلمين وجعلهم مذبذبين، مسلمين في النهار، منقلبين في الليل،
سنيِّين وشيعيِّين، وهَّابيين وإباحيِّين، ومن القيم الدينية الأخلاقية
الصبر والثبات. وهما فضيلتان مثل باقي الفضائل الأخلاقية، الصدق والكرم
والشجاعة. أثبتهما الشعراء مثل زهير، والصوفية مثل الجنيد حتى لو كان على
الرذائل مثل السرقة وقطع يد السارق ثم اليد الأخرى، ثم الرِّجل الأخرى، ثم
الصلب؛ لأن السارق ثبت على السرقة، الثبات يعني التمسُّك بالطبيعة والفطرة
إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ،
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ
ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ. والعجيب أن
الأفغانيَّ لا يجعل فضيلة الصبر والثبات فقط على الخير، مثل الثبات في
الجهاد من أجل النصر في مواجهة الجبن، فلا يُهزَم جيش يتحلَّى قائدُه
بالصبر والثبات واقتحام الموت قبل الجنود ولكن أيضًا على الشر. بل إن الصبر
فضيلة في الطبيعة، في النبات. فالقوي من الشجر لا يعجل بالثمر. ومن الفضائل
الدينية الأخلاقية السعادة. فالسعادة في الدنيا ضالة البشر. وإذا وجدها
أحدٌ قلما يدل عليها. وربما ليست من موجودات هذا العالم الفاني. يراها
الأفغانيُّ غايةً قصوى يستأثر بها الفرد وكأنها أنانية لا يجوز تعميمُها
على الغير. ويعتبرها خارج هذا العالم كما يفعل الصوفية.
٦
ثم تعود الفضائل من جديد أخلاقية مثل الشرف. والشرف ليس تشييدَ القصور
ولا الفاخر من الثياب بل حقيقة محمودة، بهاء للشخص وكرامة له. وحقيقة
الأنفة وعزة النفس عدم الاتكال على الناس. والأمل وطلب المجد والعلوم يدفع
الإنسان إلى العلا. ويبدأ الأفغاني بآيات قرآنية
إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ
الْكَافِرُونَ،
وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ
رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ. ويحولها إلى تحليلات نفسية وتاريخية،
فردية وجماعية لإثبات أن الوحيَ الإلهيَّ والفطرة الإنسانية شيءٌ واحد؛
فالأمل وطلبُ المجد شيءٌ فطري. ومحبة الشرف في قلب الإنسان. والإنسان يسعى
إلى المجد بالإلهام الإلهي ويواجه المخاطر لأجله. وكل أمة نالَت مطلبَها من
المجد نالَت حظَّها من السؤدد،
ذَلِكَ تَقْدِيرُ
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. الأمل يُنير الطريق، ويبعث الهمم، ويُعيد
الحياة للأموات. الأمل وحبُّ الكرامة طبيعيان في الإنسان، ويُعيد
الأفغانيُّ ذكْرَ الآيتَين الأوليَين لبيان الوحي صاعدًا من الطبيعة وكأنه
يبيِّن أسبابَ النزول. اليأس ضدُّ روح الإسلام وروح التاريخ،
فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ. وإن
كانت للعامة غفلةٌ فليس للعلماء عذر،
إِنْ تَنْصُرُوا
اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ. فالراحة بالرضا،
والنصب بالطموح. والغرب عالي الهمة يركب الأخطار وغيره من الفرنسيِّين
الأحرار، فلماذا تُقعد الشرقيِّين الأوهامُ الباطلة والأحلامُ الكاذبة وقد
كان لهم في أسلافهم سنَّة حسنة؟
٧
وتمثل مجموع الفضائل الأخيرة استرداد الحق ورفع الظلم واستعمال القوة.
فلذَّةُ استرداد الحق لا تُضارعها الهيبةُ والتهيب. وأمةٌ ثبتَت في جهادها
لأخذِ الحق ساعة خيرٌ لها من الحياة في الذل إلى قيام الساعة. وصاحبُ الحق
قويٌّ ولو كان ضعيفًا، والمبطل ضعيف ولو كان قويًّا.
٨ واستردادُ الحق لرفع الظلم. ولا يكفي في ذلك الكلام. واعتماد
المظلوم على وعود الظالم بالكلام أقتل له من المدفع والحُسام، وإذا لم
تتذرع الأمةُ بشكواها من ظالميها بغير الكلام فاحكم عليها بأنها أضلُّ من
الأنعام. والظلم حقٌّ باقٍ حتى ولو لم يسترد. المظلوم حيٌّ ولو مات،
والظالم ميتٌ ولو عاش. المهم ألَّا يقعَ المنتصر للمظلوم في شرَكِ الظالم.
وسجن الظالمين للمُصلح رياضة، ونفيهم له سياحة، وقَتْلهم له شهادة وهي أسمى
المراتب. ولا خيرَ في حقٍّ لا تدعمه القوة. وإن أضعف ما في هذا العصر حقٌّ
لضعيف لا قوة له. وأقوى شيء باطل لقوي يجعل باطله حقًّا. القوة صنمٌ مرهوب،
والضعف شبحٌ مربوب. ولا يؤمن بربوبية القوة إلا شبحُ الضعف. القوة قانون
طبيعي، هو أساس تنازع البقاء. إذ تخضع الكائنات إلى ناموس عظيم هو القوة.
وظهرَت آثارُه في الحيوان والنبات والجماد والأفلاك. فلكلٍّ حركة اضطرارية
تأتيها طوعًا أو كرهًا. القوة طريق استجلاب المنافع ودفع المضارِّ. وتسمَّى
أيضًا الجاذبية لحفظ نظام الكون. بالقوة يحيَا النبات، ويجذب الغذاء،
ويدافع عن نفسه بأعضاء لافتراس الحشرات. وتظهر القوة في عالم الحيوان.
القوة مظهر الحياة والبقاء، والضعف يؤدي إلى الفناء. بالقوة تظهر المواليد،
وبالضعف يبدأ الموت. القوة للذات تتطلب إضعافَ الغير وتسخيره؛ لذلك لا تنال
الأمم المهضومة حقَّها إلا بالقوة. فقد امتلكها الاستعمارُ بالقوة، استعمر
الإنجليز الهند لضعفها. وامتلك الإسبان المغرب بالقوة. والتحرُّر لا يكون
إلا بالقوة. وما أُخذ بالقوة لا يُستردُّ إلا بالقوة.
وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ. وقلما يأتي
الحقُّ بدون عناء، والقبة الجوفاء لا تُرجع إلا الصدى. والمصلح الزعيم مَن
لا يفرُّ ولا يتضعضع من أذية اللئام. والأسد لا يعدم فريسةً أينما ذهب.
ويبدو أن الأفغانيَّ هنا أقرب إلى دارون وتنازع البقاء ونيتشه وإرادة
القوة، وإن ردَّ على الدهريِّين لأسباب دينية خالصة تتعلق بالخلق.
٩
(٢) فلسفة التربية
والتربيةُ هي وسيلة الانتقال من الأخلاق الفردية إلى الأخلاق
الاجتماعية. وترتبط فلسفة التربية بفلسفة الطبيعة وتدرجها من النبات إلى
الحيوان إلى الإنسان. وهنا يبدو الأفغانيُّ أقربَ إلى نظرية التطور منه إلى
نقدها. فإذا توجَّه العقلُ إلى الأجسام الحية علم أن قوامَ حياتها بتفاعل
عناصرها الداخلية دون غلبة أحدهما على الآخر من أجل حدوث الوسط المتناسب أو
التعادل بينها كما هو الحال عند القدماء. ووضعت علوم النبات والحيوان والطب
لذلك لإعادة التوازن بين البسائط التي يتركب منها الجسم للوصول إلى حالة
الاعتدال حتى تحقق حكمةُ الله في بقاء الأنواع. وقد ارتبطَت علومُ الحياة
بعضها ببعض، ولزم الطبيب معرفة علم النبات وعلم الحيوان. والروح الإنسانية
تعمل بالتضاد من أجل خلق هذا المزاج المعتدل، وروح الكمال الإنساني.
وباجتماع أخلاق متضادة تقوم الأخلاق بالتعادل بينها. فالشجاعة وسطٌ بين
التهور والجبن، والكرم وسطٌ بين التبذير والبخل كما قال القدماء. ويقع
الفساد بتغلُّب أحد الضدَّين على الآخر. لذلك وُضعت علوم التربية والتهذيب
لهذا الغرض، المحافظة على فضائل النفس ضد الانحراف والتطرف مثل الطب، وعلاج
الأرواح في مقابل علاج الأبدان. وكما يعلم الطبيب منافع الأعضاء يعلم عالم
الأرواح منافعَ الأخلاق ومضارَّها. وكما أن الطبيب يتصف بأخلاق الشفقة
والرحمة كذلك المربون فضلاء لضرورة تطابق الفكر والعمل. وكما لا يتخذ
الطبيب الطب للوصول إلى أغراض شخصية كذلك المربِّي الناصح المرشد يقوم
بتوجيه الأفراد نحو خدمة الأوطان والأقوام. هنا يبدو الأفغاني مثل القدماء
في التماثل بين طب الأجسام وطب الأرواح مثل الرازي والفارابي وابن سينا
وإخوان الصفا. ويقوم هذا الطب على العلة الغائية. فليس في الإنسان عضوٌ
يتحرك لغير قصد وغاية. كل حركة يعملها الإنسان لا يعلم غايتها يحكم عليه
بالجهل. القصد هو أساس النظام. فالنظام هو ما انتظم به شملُ عالمٍ متفرق
يصرفه لوجهة ناقصة، والحجر خير من بشر يقعد لغير علة ويحتاج بشرًا مثله.
١٠
والعلم هو طريق التربية والتحول من فضيلة للفرد إلى فضيلة للجماعة.
فالعالم إن كان أعزلَ فهو بعلمه اجتماعيٌّ، والجاهل وإن كان اجتماعيًّا فهو
بجهله أعزل. وهو صادقٌ على مصر وفي هذا الزمان، زمن تحرير الأرقاء وإسارة
الأحرار. وتنهض الأمة ضد الوصايا عليها بإثبات كفاءتها وترقيتها بالعلم
والأخذ بأسبابِ حكمِ ذاتها بذاتها. وهو ليس أمرًا سهلًا. العلم سلاح التحرر
كما أن القوة أداة الاستعمار. وإذا كانت الدول حفاظًا على مستعمراتها تحظر
إدخال الأسلحة حتى لا تستعملَ ضد الاستعمار فإنها تحجر على العالم؛ لأنه
ليس أقلَّ خطرًا من إدخال السلاح إلى المستعمرات. فحياةُ الشرقيِّين بالعلم
الصحيح، وموت لحكم الغرب فيهم وفك الحجر عنهم. والعكس صحيح أيضًا من أجل
يقظة الشرقيِّين وحصولهم على الاستقلال بدأبٍ متواصل، وهمَّة لا تفترُ،
وعزيمة لا تَكِلُّ.
١١
والعلم هو العلم الوطني؛ إذ يمنع الغربيون الشرقيِّين بطرق خفية
ترقيتهم لأنفسهم بطريقة وطنية خاصة بهم، ويُعرقلون مساعيهم، ولا يُسهلون
وسائلَ تهذيب أخلاق مجموعهم بل يقومون بالعكس. وبالتالي لا يمكنونهم من
التوصُّل إلى الحكم الذاتي بأساليب المكر والمغالطة والاستعانة ببعض أهل
البلاد عليهم من الأسقط همة. مدارس الحكومة بها سموم للوطن يمكن إغلاقها
والتعويض عنها بالمدارس الأهلية. مدارس الحكومة لا تَسْلَم من ضررٍ لما
فيها من علوم غير نافعة لا يحتاجها المتعلِّمُ، وفنون لا فائدة منها تترك
التلميذَ عليلَ الجسم والعقل، لا ينظر إلى كتاب، خياليًّا، وهامًا، نفورًا
من العمل، جامدًا فيما تعلَّم، بليدًا فيما يعمل. وتخشى المدارس الحكومية
من المدارس الوطنية وحب الوطن؛ لأنها تحت وصاية الأجانب حتى يظلَّ الطلبة
تحت الوصاية. وكلاهما مرٌّ. أما المدارس الأهلية الوطنية فهي التي تجمع بين
العلم والوطن. فهي دور علم وعمل، ليس فقط داخل القاعات بل أيضًا خارجها
لمزاولة العمل. كلُّ علمٍ بالعقل يتبعه عملٌ بالأعضاء. فيعمل الطالب
بالحدادة والنجارة والبناء مع الرفاق، ويربِّي الحيوان، يحلب الأبقار،
ويصنع الجبن، ويستخلص السمن والزبد مما ينفعه جسديًّا، ويُفيده ماديًّا بعد
التخرُّج. هو رجلُ علمٍ وعمل، لا رجل غطرسة وعجرفة وكسل، كَلٌّ على أهله،
كُثَّر لا ينتفع بهم أحد. ومَن فاتَه سنُّ التعلم من الرجال والكهول
بالدروس يمكن للنوادي الوطنية والمحاضرات العامة أن تقوم بنفس الدور، وكذلك
باختلاط أبناء الطوائف ومعرفة طرق النهوض بالوطن بالخطب والمثال الحسن
والتذكير والتحذير أي بالنشاط الثقافي الوطني العام. والدين عبادات
ومعاملات، العبادات للرب بمعزل عن الناس، لا يعارض غيرَه ولا يعارضه غيرُه،
لكلٍّ وجهة هو مولِّيها، نصارى ومسلمين ويهود، من نفس واحدة. أما المعاملات
فهي للعموم، المساواة في الوطن، والتعاون والتفاضل فيه، والعمل في المدرسة
سويًّا والتخرُّج إخوانًا مع الولاء للوطن والإخلاص له دون حلٍّ لرباط
الوطن أو نسيان عهد الصبا. هم في جسم الوطن كأعضاء الجسد الواحد إذا اشتكى
عضو تداعَى له سائرُ الأعضاء كما هو الحال في الحديث المشهور. سماء واحدة،
وأرض واحدة، ووطن واحد، ولغة واحدة، ومقاصد واحدة. وواضح أن تصور الأفغاني
للعمل هو الزراعة وليس الصناعة التي لم تكن قد ازدهرَت في عصره. كما أن
الزمن قد تغيَّر من الدفاع عن التعليم الأهلي الوطني إلى تحوُّل التعليم
الأهلي إلى خاصٍّ أجنبي في عصر الخصخصة. ولا ينسى الأفغاني من التنويه
بضرورة تربية المرأة من أجل حسن تربية الأطفال والصبيان؛ فالأمم تتعهد
الطفل رضيعًا للكمال، الصحة والعقل، وتُرضعه حبَّ الوطن مع التدرُّج في
العلوم، وإفساح المجال للنور الفطري إبعادًا له عن الكذب وتحبيب العلم إليه
وتمرينه عليه.
١٢
ويعطي الأفغاني عنايةً خاصة لموضوع المرأة؛ فالمرأة شريكة حياة الرجل.
فإذا اتخذت المرأة لفضلها شريكة حياة نعمَت الشركة وطابت الحياة. وإذا ما
اتخذت لمحض الشهوات كانت شركًا للممات. المرأة عون الرجل، من صنع الأم،
فكيف تترك هذه المنزلة؟ وإذا كانت حاجة الكون للرجل مرة فحاجتُه إلى المرأة
كرة. ومع ذلك عاش الأفغاني أعزب. وكلما اشتكى له أحدٌ كثرةَ العيال وقلةَ
المال قال: وأثقلت ظهري بالذي خلف ظهري
ومستشهدًا بقول أبي العلاء:
هذا جناه أبي عليَّ
وما جنيتُ على
أحد
لم يتزوج الأفغاني؛ لأن الزواج يتطلب العدل وهو ما يعجز عنه، والطبيعة
قادرة على التكيُّف. ومَن ترَك شيئًا عاش بدونه. يقوم الأفغاني بواجباته
تجاه السلطان. أما الزواج بالجارية الحسناء فلها أكفاؤها، وإذا أصرَّ
السلطان على ذلك فالأفضل للأفغاني أن يكون خصيًّا ويقطع أعضاء التناسل،
وكأنه عدو المرأة كما يقال على بعض المفكرين المعاصرين. وقد قلَّ من الرجال
مَن يعرف الهناء بغير النساء، وندر منهم مَن لا ينسب شقاءَه إليهن. والأقرب
إلى الصواب أن يقال فيهن ما يقال في الأولاد: وجودهم بلاء وبلاهم بلاء!
١٣
والموضوع الرئيسي الذي يتطرَّق إليه الأفغاني هو موضوع المساواة بين
المرأة والرجل الذي طالما هاجم فيه المستشرقون والمتفرنجون الإسلامَ، بداية
بموضوع السفور. فلا مانعَ من السفور إذا لم يتخذ مطيةً للفجور. والحجاب له
أنصارُه وخصومه، وهو ستارٌ إذا رفع فجأة تظهر شناعة الخلاعة والتبرج
والفجور. أما السفور المعقول التدريجي فلا غبار عليه. وهنا يبدو الأفغاني
انقلابيًّا ثوريًّا في السياسة، تدريجيًّا في التغير الاجتماعي. لذلك لا بد
من تحديد صريح للمعاني المطروقة مثل مساواة المرأة بالرجل والحجاب ورفعه
حقوق المرأة والغاية المرجوة من ذلك حتى لا يتحول إلى هتك الحجاب وهو عند
الأفغاني مثل هتك العرض.
والموضوع كلُّه ناتجٌ من تقليد الغرب من بعض الناشئة في الشرق
والمتفرنجين. فهم الذين يطالبون بمساواة المرأة بالرجل في التكوين وهو
مستحيل. فالمواهب الفطرية لا مجالَ فيها للاكتساب. والعلوم المكتسبة على
نِسَب مختلفة. فهل تستطيع المرأة ذلك؟ ويستشهد الأفغاني بالمتنبي في نقده
للشرقيات المقلدات للغربيات ومدح أخلاق البداوة ونقد أخلاق الحضارة.
حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وفي البداوة
حسن غير مجلوب
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها
مضغ الكلام
ولا صبغ الحواجيب
ولا برزن من الحمام مائلة
أوراكهن
ثقيلات العراقيب
وينتهي الأفغاني إلى أن المساواة بين المرأة مع الرجل ضد الطبيعة؛ إذ
يقوم المجتمع على دعامتَين: المرأة والرجل ولكلٍّ منهما تكوينه الخاص طبقًا
لعلم التشريح. وهذا من حكمة الطبيعة التي أحكمَت الصنع، فتبارك الله أحسن
الخالقين. الرجل للعمل في الخارج والمرأة للعمل في الداخل. وهذا ليس رفعةً
من شأن الرجل أو حطة في شأن المرأة وإذا لم تساوِ الطبيعة بين الرجل
والمرأة بالتكوين فعبثًا نحاول مساواتها بالأقاويل. وعمل واحد تختص وتقوم
به النساء تعجز عنه رجالُ الغبراء. وقوة المرأة بضعفها. وتبلغ المرأة
بضعفها ما لا يبلغه الرجلُ بقوته. الموضوع إذن به سفسطة كبيرة بالمطالبة
بمساواة المرأة بالرجل بالرغم من الفروق الطبيعية. ويستعمل الأفغاني نظريةَ
التطور التي نقدها من قبلُ في «الرد على الدهريِّين» مبينًا أن المرأة
والرجل كانَا في مستوى واحد من التطور ثم سبق الرجل المرأة. وقوته أتَته
تدريجيًّا عبر العصور بعمله في الخارج ومصارعته الحيوانات وعمله في الأرض
والحرب. ويذكر دعاة المساواة التاريخ، تاريخ مساواة المرأة بالرجل أيام
الرومان، ويستلهمون عصرَ شيوع المرأة، وأن الولد لم يكن يعرف أباه بل كان
يُنسَب إلى أمِّه. ولا يمكن الدعوة إلى ذاك اليوم. والتطور يخلق الأنسب
والأنفع والأصح صناعةً وأخلاقًا واجتماعًا. انتقل الإنسان من العصر الحجري
إلى العصر الحديدي لمنفعته، ولا يمكن للتاريخ أن يرجع إلى الوراء. وقد
ولَّد شيوعُ النساء وعدم طهارة الأزواج الزنا والسفاح وما يسببه من أمراض.
الدعوة إلى المساواة ضد حكمة الوجود وثنائية الرجل والمرأة كي يصبحَ في
الكون جنسٌ واحد، رجلًا أو امرأة، وتغيب الأم مربية الرجال. واجب المرأة في
البيت. وأهم واجباتها صناعة الرجل. المرأة هي التي تُهيِّئ الرجل للمجتمع،
وهي أسمى مهمة للمرأة. قوة المرأة في ضعفها، وفضل الرجل في قوته وضعفه أمام
المرأة. والمساواة خروج على الفطرة والطبيعة، غايةُ التطور بقاءُ الأنواع.
ومع ذلك يعتبر الأفغاني أن للهيئة الاجتماعية دعامتَين: الرجل والمرأة،
ولكن الرجل تطوَّر وارتقى، والمرأة جمدَت وتوقَّفَت. ويجعل الرجل مسئولًا
عن ذلك، يقتل مواهبها باسم الدين مرة، وباسم ضعفها الجسماني مرة أخرى، مع
أنهما في البداية كانَا متساويَين في التكوين. الاستثناء الوحيد الذي يعترف
به الأفغاني خروجًا على القاعدة هو عائشة وركوبها الجمل. ولا يعتبر ذلك
فخرًا تتشبَّه به النساء. وقد تنبَّأ به الرسول وأدانه. أما ذهاب النساء
إلى ساحات الحروب لخدمة الجيش فهو مستحسن إن لم يكن هناك زوجٌ قعيد أو والد
ووالدة وأطفال. فالجهاد فرضٌ على كل مسلم ومسلمة. واستثنى منه المعيل،
واشترط موافقة الوالدين؛ فخدمة الوالدين جهاد. فإذا لم يكن للجهاد مانع،
زوج أو ابن أو أقارب كانت خدمتُها في الجيش حسنة.
كُتِب القتلُ والقتالُ علينا
وعلى
الغانياتِ جرُّ الذيولِ
١٤
ولا يُشير الأفغاني إلى تعدُّد الزوجات، ولكنه يرى استحالة عيش النساء
في بيت واحد؛ لأن الفصل في نزاع نساء البيت ينغِّص الحياة. وأن أعدل قضاء
في الدنيا يعجز عن إرضاء متخاصمتَين من النساء على رجل واحد أو شيء. كما
يتعرض لعلاقة الحماة بكنتها. فإذا كانت الأم تسعى وتتصور من وراء زواج
ولدها النعيم فإن زوجته ترى نفسها في الجحيم. ويوصي بعدم سكن الأولاد مع
الآباء. فإن أعقلَ الآباء مَن لا يُساكن أولادَه بعد الزواج، ويستعيض
بالتزاور عن التجاور. وهذه كلُّها آراءٌ لها ما يُشابهها في القرن الماضي
عن الغربيِّين خاصة فشته.
١٥
ويتعرَّض الأفغاني لبعض قضايا التربية الاجتماعية مثل الشباب والقضاة.
فالشباب جسرٌ من جنون لا غنى للعقلاء من المرور عليه، ومن الطبيعي للثائر
أن يجعل الشباب في مقدمة الثوار. فالثورة روحُ الشباب. ويركز الأفغاني على
ضرورة إنصاف القضاة. فإذا لم تُنصف الحكومة القضاة فأحرى بها أن تجعل
الذئاب رعاة؛ لأن إنصاف القاضي واجبٌ قبل إنصاف المتقاضي. وإذا كان القاضي
يتظلم فكيف لا يتألم المظلوم؟ ونظرًا لأهمية القاضي العادل يرى الأفغاني أن
قاضيًا في الجنة وقاضيَين في النار.
١٦
(٣) الفضائل الاجتماعية
وتبدأ الفضائل الاجتماعية بتجاوز الأنانية وحب الذات إلى الغيرية
وإنكار الذات. تظهر الأنانية وحب الذات إذا ما ظهر اعتقاد النفس وكمالها
ونقص الغير، والرضا عن النفس واحتقار الغير. فيضيع الاعتدال، ويختلُّ
التناسب ما دام الخير في الذات والشر في الغير. ويظهر ذلك في علاقة الآباء
بالأبناء وحال المواطنين في مدينة واحدة، وحال الملوك والرعية، كلُّ طرفٍ
يدَّعي أنه على حق، والآخر على باطل. بل إن الحكماء والعقلاء أيضًا وقعوا
في ذلك، وظنَّ كلُّ حكيم أنه على صواب والآخرون على خطأ. فاختل ميزان
النظر. وعادة ما يكون المحبُّ للذات من أرذل الأخلاق وأشنع الخصال، قاسيًا
ظانًّا أنه رحيم، متكبرًا واهمًا، أنه متواضع، يصغِّر عيوبَه ويكبِّر عيوبَ
الآخرين. هذا هو داءُ حبِّ الذات، وهو غشاوةٌ على العقل تمنعه من استطلاع
الحقائق. وطريق الخلاص هو أن ينظر الإنسان إلى نفسه في مرآة غيره وليس في
مرآة ذاته. فالإنسان جميل في مرآة ذاته، قبيح في مرآة غيره، خيرُ الأخلاق
إذن إنكارُ الذات. وأعظم الدلائل على إنكار الذات الأعمال. والإصلاح يبدأ
بالنفس قبل الغير. ومَن عجز عن إصلاح نفسه كيف يكون مصلحًا لغيره؟ الإنسان
مَن وقرَ نفسه، وعرَف حقَّ غيره من جنسه.
١٧
ثم تبدأ الفضائل الاجتماعية بعد تجاوز الأنانية إلى الغيرية. فالهيئات
في الاجتماع، حكومية كانت أو غير حكومية إنما هي خليط من أفراد يقوم على
مراعاة التشاكل والتجانس فيها وإلا فسد الخليط. وعدم التشاكل من أعقد
المشاكل. ولكن بالضغط والتضييق تلتحم الأجزاء المبعثرة. فالأزمة تلد الهمة.
وإذا ما تكوَّنَت الهيئة الاجتماعية سرَت العدوى الاجتماعية أي الترابط
الاجتماعي بين أفرادها؛ فالأجرب يعدي السليم، والمرتكب يعدي المستقيم.
١٨
الفضائل مناطُ الوحدة الاجتماعية. ومجموعها العدل في الأعمال، وهي قوة
الحياة المستكملة في كل عضو، فهي فضائل وسطية عضوية حيوية. وهي فضائل
اجتماعية وسياسية. فالأمة التي تسودها الفضائل تقوى وتنهض؛ لأنها تكون
متحدة مجتمعة. يقوم كلُّ فرد فيها بدوره، وتتمثَّل فضائل العقل والتروي
وانطلاق الفكر بين قيود الأوهام والعفة والسخاء والقناعة والدماثة والوقار
والتواضع وعِظَم الهمة والصبر والحلم والشجاعة والإيثار والنجدة والسماحة
والصدق والوفاء والأمانة وسلامة الصدر من الحقد والحسد، والعفو والرفق،
والمروءة والحمية، وحب العدالة والشفقة. فإذا تحلَّت أمةٌ بها غلبَت. لذلك
قال النبي:
إنما بُعثت لأتمم مكارم
الأخلاق. فإذا تغيَّرَت هذه الفضائل إلى نقائضها من رذائل هلكَت
الأمة
وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ
بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ. فالرذائل تُورث العداوة
والبغضاء، والخلاف والشقاق تقضي على الأمة، وتجعل البأس بينها شديدًا
وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ
وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ. هذه علل الخراب.
وقد ظهرَت في طائفة الدهيرومنك في الهند المعروفين عند الأوروبيِّين بطائفة
باريا
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم. فالفضائل والرذائل ليست
فقط فردية أو اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية، بل هي أيضًا قوانين للتاريخ،
لنهضة الشعوب وسقوطها. فحياةُ كلِّ أمة بيدها. يبدأ التغيرُ منها
إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ. والشرُّ من النفس
وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ
أَيْدِيكُمْ. وتلك مهمة العلماء
وَلْتَكُن
مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ،
فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ
طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا
رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ. ووعدُ الله حقٌّ
وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ
الْمُؤْمِنِينَ. وإن لم يبدأ الأفغاني بآية قرآنية تُغني عن قانون
التاريخ فإنه يضع هذا القانون بالعقل والتجربة. ثم يبدأ ببيان تجليات هذا
القانون العام في الأفراد والمجتمعات والتاريخ. ففي مقاله عن
الأنا يبدأ بتعريف الممكن مع وضع مقدمات تنتهي إلى
إثبات الموضوع، وهو أن السعادة ممكنة التحقيق مثل الصحة للبدن التي تقوم
على الاعتدال والتناسب كما تقوم العلاقات الدولية على المحافظة على الحقوق
المتبادلة بينها.
١٩
وأهم فضيلة اجتماعية هي الاشتراكية. وهي نوعان اشتراكية غربية مادية
تقوم على الصراع، واشتراكية إسلامية روحية تقوم على المحبة والإخاء.
الاشتراكية في الغرب تؤدي إلى الضرر مثلما تؤدي إلى النفع؛ لأنها تقوم على
حاجة الانتقام من جور الحكام وعوامل الحسد في العمال من أصحاب رءوس
الأموال، وكردِّ فعلٍ على حياة البذخ والترف. فكلُّ إفراط يؤدي إلى تفريط.
وينتهي الأمرُ إلى فوضى في الغرب تنتقل إلى الشرق. الشركة شرك. إذا لم
يصطَد الشركاء غيرَهم اصطادوا بعضَهم.
٢٠
أما اشتراكية الإسلام فإنها نابعة من الإسلام. عَمِل بها الخلفاء، وهي
من مقتضيات البداوة، أي أنها محلية وليست وافدةً من الغرب. اشتهر بها حاتم
الطائي في السنوات المجدبة. ذبح فرسَه لإطعام امرأة وأطفالها الجياع.
وتبرَّع طلحة الطلحات بسيفه وفرسه ورمحه وجهَّز ألفَ فارس. تظل الثروة مع
الأفراد ولكن مع حسن استعمالها حتى تُصبح الاشتراكيةُ أمرًا مقبولًا، لا
أنانية ولا أثرة، لا استطالة على الفقير، ولا عدوانَ على الغني. وهي قائمة
على القرآن، مساواة الجميع أمام الله والحمد لله رب العالمين. وقد خاطب
القرآن القادة والغزاة وأرباب القوة مؤكدًا حقَّ الجميع في الثروة وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلهِ
خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ
وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا
عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. فالله والرسول وذو القربى واليتامى
والمساكين وابن السبيل لهم نصيبٌ من المال. كما نقد القرآن اكتنازَ الذهب
والفضة. وعقد الرسولُ الإخاءَ بين المهاجرين والأنصار، وأشركهم في الأموال.
وخير الأمور الوسط. والزكاة من أركان الإسلام بالإضافة إلى الغنائم
والصدقات. وحرم الربا الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا
لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ
مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ
الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ
مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إلى
اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون
* يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ
لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ. وأيضًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا
مُضَاعَفَة وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وحثَّ
الإسلام على الصدقات إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ
فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ
خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ
لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ
قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ
السَّبِيلِ فَرِيضَة مِنَ اللهِ وأيضًا إِنَّ
الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ. والتفاوت في الثروات يجلب
الحسد كما قال زهير.
ومَن يكُ ذا فضلٍ ويبخل بفضلِه
على قومِه
يُستغنَ عنه ويُذمَمِ
وبالإضافة إلى تأصيل الأفغاني للاشتراكية في الإسلام فإنه يؤصلها أيضًا
في البداوة والمساواة الطبيعية التي لا تقوم على الحسد أو الانتقام. ثم جاء
الإسلام فجالس الرسولُ الفقراءَ وشاركهم في الحياة العامة طبقًا للطبيعة
البدوية. وسار أبو بكر على سنة الرسول مع أنه كان تاجرًا غنيًّا ولكنه كان
يعيش عيشة الفقراء. وسار عمر على أثره بالرغم من اتساع الفتوحات وازدياد
الثروات. وراقب سيرَ عماله، معاوية في الشام، وعمرو في مصر، وغيره في
العراق. وحذرهم من سيرة الأكاسرة.
٢١ واضح أن تصور الأفغاني للاشتراكية أنها دينية فقهية، وأنها
أخلاقية تطوعية تقوم على إعطاء الصدقات، وأنها سلمية تنبذ العنف والحقد،
وأنها بدوية محلية تقوم على حياة الفطرة والمشاركة في المجتمعات الأولية
كما فعل کاوتسكي في «المسيحية البدائية». ويظل السؤال: هل يمكن من المبادئ
الأخلاقية العامة تأسيس أيديولوجية اقتصادية متكاملة؟ وهل يمكن من هذه
المبادئ العامة أن تتحول إلى ممارسة فعلية؟
ويجيب الأفغاني نفسه على بعض هذه التساؤلات جوابًا على سؤال أحد
الجالسين عن تكفير مشايخ الإسلام للاشتراكية بأن الاشتراكية وإن قلَّ
نصراؤها اليوم فإنها ستسود العالمَ عندما يعمُّ العلم الصحيح ويشعر البشر
بأنهم إخوة، وأن التفاضل بالأنفع للمجموع وليس بالسلطان السياسي أو المالي
أو العسكر. وإنما يحتاج الأمر إلى الشجاعة والبسالة والجهر بالحق كما قال
المسيح بيتي بيت الصلاة يدعى، وأنتم جعلتموه مغارة
للصوص.
ثم تغيَّر الأمر، وتبدلت الأحوال. وخاطب عمر بن الخطاب واليَه عمرو بن
العاص على مصر بأنه لم يُقطعه مصر له ولقومه، وأنه يحيَا حياةَ الأمراء
بينما يموت باقي المسلمين جوعًا وقحطًا، يبني القصور والدور وغيره في
العراء. وهدَّد معاوية في الشام وحذَّره من غطرسة هرقل وتعاظم الأكاسرة،
وطالبَه بمشاركة الناس في الأموال. وأعطى عمرَ النموذجَ والقدوة، فلبس مثل
باقي المسلمين، وأكل وشرب وسكن مثلهم دون تململ أو تذمُّر من أحد. ولما
جاءت خلافةُ عثمان ثم الأمويون من بعده، تذمَّر الهاشميون خاصة والقرشيون
وفي مقدمتهم أبناء الصديق والفاروق. فقد تغيَّرَت الحياة الروحية في الأمة،
وقرب عثمان ذوي القربي وأرباب الثروة، طبقة فوق طبقة، أمراء وأشراف، في
ثروة وثراء وبذخ. ونشأت الطبقات الاجتماعية. فقام أبو ذر الغفاري وخاطب
معاوية في الشام وأمره برد الأموال إلى الفقراء، ورد معاوية بأنه يستحيل
العودة إلى الوراء، إلى الصديق والفاروق، إنما الصدقات واجبة، والوعظ ضروري
لتخفيف حسد الفقراء للأغنياء. استمرَّ أبو ذر في النصح، وعاود مذكِّرًا
بسيرة السلف الصالح، فأرسل له معاوية ألفَ دينار ليلًا لامتحانه وشرائه
فوزَّعها أبو ذر على الفقراء. فلما أراد معاوية استردادها لأنها أتَت إلى
أبي ذر خطأً أمرَه باستردادها من الفقراء. فلما عَلِم معاويةُ صدْقَ أبي ذر
أرسله إلى الخليفة عثمان في المدينة. ولكنَّ أبا ذر استمر في دفاعه عن
الفقراء، وذكَّره بأحاديث الرسول إذا واصل التمييز بين الناس في العطاء
واستعلاء الأغنياء على الفقراء. ووجبت الهجرة على أبي ذر. فترك المدينة وفي
قول آخر نفاه عثمان إلى الربذة.
وظل الأفغاني يركِّز على القيم الاجتماعية مثل المساواة دفاعًا عن
الفقراء. فالفقر عدو الفضيلة، والثراء نصير الرذيلة. ولا فضيلة لفقير؛ لأن
الصراع من أجل البقاء يأتي أولًا. ولا فضيلة لغني؛ لأن الثراء يؤدي إلى
الانحلال، الغنَى غنَى النفس، والفقر فقرُ الروح. وكم من غنيٍّ محمود
بمظهره فقير مقهور في حقيقة أمره. ومع ذلك فالمال عصبُ الحياة. ووضع الحسب
يستطيل بالقليل من المال على غيره.
٢٢
ويتناول الأفغاني قيمَ الزراعة والصناعة والتجارة؛ فالزرع قيمة. ولولا
الزرع ولولا القرع ما كان سرَف الأغنياء ولا ترَف الأمراء، والصناعة قيمة.
وموقف الزراع والصناع من الحضارة أنفع من موقف الإمارة، أما التجارة فهي
فضيلة واحدة بصرف النظر عن المتاجر فيه. فبائع الدر وبائع الفحم يتساويان
بالاسم ويختلفان بقدر المباع، والتجارة فضيلة إنسانية وإلهية. لذلك
استعملها القرآن لشرح العلاقة بين الإنسان والله للمجتمع التجاري دون نقد
أخلاق التجار كما يفعل ابن خلدون.
٢٣
ثم ينتقل الأفغاني من الفضائل الاجتماعية والاقتصادية إلى الفضائل
السياسية: النخبوية، والسلطة، والعدل، والديمقراطية، والأمة. فالنخبوية
فضيلة. والحق مع الأقلية وليس مع الأكثرية دائمًا أو على الأقل أحيانًا،
والدليل خروجُ الحق عمَّا أَلِفَته الأكثرية، وقدرة الأقلية على تغييره.
واعتناق الأكثرية المألوف أحيانًا لا يُفيد؛ إذ يتحول إلى تقليد بلا برهان.
وقد انتشرت الحقائقُ بأفراد قلائل، وقاومها المجموع، لم يتجرَّأ أحدٌ على
مقاومة جوبتر وانتهَت ديانتُه. وموسى كفر بألوهية فرعون. وعيسى كان معه
نفرٌ قليل من الحواريِّين ضد مجموع اليهود. ومحمد آمن معه نفرٌ قليل وقاومه
الجموع، والملايين اليوم تدين باليهودية وبالمسيحية وبالإسلام. والسبب في
ذلك أن تعاليمهم جاءت موافقة لروح البشرية. هي حق في ذاتها حتى ولو خالفت
المألوف. وقد اعتنق المخالفون لهذه الديانات الثلاث هذه الديانات بعد ذلك
بفضل الصمود للمؤمنين الأوائل. وكانت الدعوة للحرية في فرنسا من الأقلية،
وسالَت من أجلها الدماء. وكذلك كانت دعوى الاشتراكية وإن قلَّ أنصارُها
فإنها ستسودُ العالمَ يوم يعمُّ فيه العلمُ الصحيح وتسود البشريةَ روحُ
الإخاء والمساواة. إنما يحتاج الأمر إلى الشجاعة والبسالة والجهر بالحق كما
قال المسيح
بيتي بيت الصلاة يُدعى، وأنتم جعلتموه
مغارة للصوص. وكسر محمد الأصنام، وأبَى قبول الملك من قريش.
وأصرَّ موسى أمام فرعون على إخراج اليهود من مصر. الأقلية تُعلن، والأكثرية
تستجيب. والساكت عن الحق شيطان أخرس. ولا يوجد في هذا الكون من القول أو
الفعل ما يستدعي الكتمان إلا ما كان في علانيته مضرًّا. الإعلان كمال
للبشر، والكتمان نقص، ولا خير في دولة تعتم عن أمتِها أمورَها.
مَن أحب فليُعلن. والمحبة معنى مطلق، أي حب الخير
والمعرفة للناس. حبُّ الصدق الجهر به، وحب الكذب كتمانه، وحب الخير إعلان
عنه والقبيح فقط هو الذي يتمُّ التستر عليه. لذلك عُرفت المروءة بأنها عدمُ
العمل في السر ما يُستحَى منه في العلانية. ولما كانت الحاجة من حيث هي
حاجة ذلًّا، والذل من حيث هو ذل قبيحًا فإن أقل الناس حوائج أكثرهم جهرًا،
وأكثرهم حوائج أكثرهم كتمانًا. وقد كانت أقصى مطالب ديوجينس وهو في برميله
ألَّا يحولَ أحدٌ بينه وبين الشمس كما طلب من الإسكندر. فالطبيعة ملكُ
الجميع، والشمس تُعلن عن أشعتها جهرًا للجميع.
٢٤
ثم يتناول الأفغاني قضيةَ السلطة، فيميِّز بين السلطتَين الزمنية
والروحية، أي السياسية والدينية ثم يوحد بينهما؛ إذ لا يستغني البشر عن
سلطتين زمنية وروحية، غايتهما واحدة، وجوهرهما واحد، وأصلهما واحد. وإذا
طرأ على أحدهما الخلل يعمل الآخر على إصلاحه. السلطة الزمنية، ملكًا أو
سلطانًا، تستمد قوتها من الأمة لقمع الشر وصيانة الحقوق العامة والخاصة،
وتوفير الراحة للجميع، والسهر على الأمن، وإقامة العدل، ورعاية المنافع
العامة. فإذا ما جهلَت السلطة وعتَت وفسدَت فإنها تتحول إلى تسلُّط، وتُصبح
مشيئة الملوك قانون المملكة. ومن هنا لزمت مقاومة الشعب لاسترداد إرادته
وحريته بعد أن أكره عليها وإلا ظل الشعب كالأنعام السائمة. والسلطة الروحية
تعني كلَّ ما للدين من نفوذ معنوي. وهي قوة أحيانًا أقوى من السلاطين
والشرطة. هي القضاء العادل. تقف بالمرصاد للسلطة الزمنية، تُراقبها
وتُرشدها، وتقتص منها في حالة انتهاك المحرمات وسفك الدماء. فإذا انحرفَت
تمَّت مقاومتُها لإرجاعها إلى الصواب.
٢٥ إذا سار الدين نحو غايته الشريفة حمدَته السلطة الزمنية، وإذا
سارت السلطة الزمنية نحو الغاية المقصودة وهي تحقيق العدل المطلق حمدَتها
السلطة الروحية. فلا تنافر بين السلطتَين إلا إذا خرجَت كلٌّ منهما عن
أصلها وقصدها ومسارها. الدين رادع عن رضى في السر، والسلطان وازع في الجهر
بالقهر، هذا هو الفرق بين الرقابتَين، رقابة كل منهما على الآخر، الدين
سرًّا، والسلطان علنًا، الدين من الداخل، والسلطان من الخارج. الدين صوت
الضمير، والسلطان صوتُ المصلحة العامة والأمن الجماعي. ولا فرق بين الأديان
الثلاثة فيما ينفع المجموع البشري، الخير المطلق ورفع الشر، دون أن يُعلن
الأفغاني أنه لا فرق أيضًا بين سلطة وسلطة. فالوظيفة واحدة، حماية الأمن
وتحقيق المصلحة العامة. ثم يضرب المثل بضرورة السلطتَين وتلازمهما بالجسم
والروح. فكما لا يوجد جسمٌ بلا روح، لا يوجد مجتمع بلا سلطة. ولكن القضية
في الروح. فالروح الإنسانية إما النبوة وإما الحكمة. النبوة منحةٌ إلهية
يختص بها الله مَن يشاء من العباد، والثانية اكتساب بشري بالنظر والفكر.
الأولى لا تُخطئ والثانية معرَّضة للخطأ، الأولى ملزمة الطاعة، والثانية
ملزمة أيضًا عن طريق الأولى والأفضل بشرط عدم مخالفة الشرع. هذا هو جسم
السعادة الإنسانية. وهي نفس ثنائية النبوة والحكمة عند القدماء. يحاول
الأفغاني هنا أن يشقَّ طريقًا بين السلفيِّين الذين يوحدون بين السلطتَين
الدينية والسياسية، والعلمانيين الذين يفرقون بينهما. كلٌّ منهما رقيبٌ على
الآخر. إنما تختلف شكل الرقابة، داخلية في الدين من وازع الضمير، وخارجية
في السياسة. وهي تفرقة أيضًا غير دقيقة؛ فالدين رقيب من الخارج عن طريق
الحسبة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقضاء، والسياسة رقيبٌ من
الداخل عن طريق مبادئ العدل والشورى كأساسَين للملك. كما أن هذا الطريق
الثالث لا ينتهي بالضرورة إلى السلام بين السلطتين، فما العمل إذا لم تُطِع
إحدى السلطتَين نصيحةَ السلطة الأخرى؟ ولمَن تكون الغلبة في حالة الصراع؟
ولمَن يكون الحكم بينهما في حالة الخلاف؟ ويبدو أن الأفغاني لا يتصور
السلطة الدينية سلطة رجال الدين بل مجرد وازع أخلاقي داخلي. فلا توجد إلا
سلطةٌ واحدة فعلية هي السلطة السياسية؛ فالإيمان واليقين ليس معناهما عبادة
رؤساء الدين. لذلك كثيرًا ما ينقد الأفغاني رجال الدين ويعتبرهم مسئولين عن
انهيار الدولة وفساد السلطة السياسية. فإذا ما أمكن تحرير السلطة السياسية
من سيطرة السلطة الدينية يلزم أيضًا تحرير السلطة السياسية من رجال الدولة
وبطانة الملك. وكما أمكن تحرير الدين من رجال الدين كذلك يمكن تحرير
السياسة من رجال السياسة، من دسائس البلاط وجماعات القهر السياسي داخل
الدولة، من الوزراء أو المستشارين أو الشرطة والجيش أو الأجانب. ويبدأ
الأفغاني بوضع قانون عقلي تجريبي عام، مثل
كيف يجب
أن تكونوا، وآية قرآنية تصديقًا لهذا القانون تأويلًا
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَة
مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ
بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ
أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْقِلُونَ. وأحيانًا يضع الآية القرآنية أولًا ثم يُثني بالقانون
التاريخي تنزيلًا. ثم يشرح الأفغاني القانون والآية بأن البلاد تُصان بحرس
الملك والبروج والقلاع والجيوش والأسلحة. ولكنها لا تعمل بذاتها إلا من
خلال البشر والرجال من ذوي التدبير والحزم والدراية، يقومون بشئون المملكة،
ويوطدون الأمن، ويقيمون العدل، ويطبقون الشريعة، ويراقبون الممالك
الأجنبية، ومن ثَم يكون السؤال: كيف للحاكم أن يحصل على بطانة للمملكة من
ذوي الرأي السديد، كيف له بعقلاء رحماء، أُباة أصفياء، لهم الشفقة والرحمة
والحمية والنعرة على الملك والرعية من الأمة، على الفطرة، يرتبطون معًا
برابطة الجنس أو الدين، فلا ينتقد مصريٌّ سوريًّا أو سوريٌّ مصريًّا
لانتمائهما معًا بعروبة واحدة؟ أما الأجانب الذين لا يرتبطون بهاتين
الرابطتين الجنس أو الدين، فهم كالأجراء في المملكة، لا يهمهم إلا استيفاء
الأجر، ولا يبالون بعد ذلك إذا انهدم الملك أو قام. هذا إذا صدقوا في
الأعمال، يؤدون للدولة قدر ما يأخذون منها. لا يتشرف الأجنبي بشرف الأمة،
ولا يمسُّه شيء مما يمسها لأنه منفصل عنها. يعود إلى منبته إذا ما أصابها
السوء، ويخدم غيرها. لا يحزن على خير فقدته، ولا يفرح لشر تجنبته، على فرض
عدم وجود دوافع أخرى لديهم مثل الحقد والخديعة والتآمر. هذا حال الأجانب في
الممالك الإسلامية، يعتمدون على الغش والخيانة. ويُثبت التاريخ أن الدولة
التي تعتمد على الأجنبي لا تبقى. ودخول العنصر الأجنبي في الدولة إيذانٌ
بخرابها. ويأسف الأفغاني على أمراء الشرق خاصة أمراء المسلمين الذين
سلَّموا أمورهم إلى الأجانب يحمونهم، ويوالون الغرباء ويثقون بهم، مستشهدًا
بآيتَين
هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا
يُحِبُّونَكُمْ،
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ
تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا هذه سنة
الله في الكون.
٢٦ وما يقال على الدولة يقال أيضًا على الجيش. فإن قبول الدخلاء
والمتطوعة، أي المرتزقة في الجيش مفسدة للنظام ومن عوامل الانهزام.
٢٧
والعدل أساس الملك. وهو من أشرف الصفات وأسمى الفضائل. يحفظ المجتمع
الإنساني، وعليه تقوم الممالك ويتأسس العمران. وهو وسط بين الجور والظلم من
ناحية والخرق والتسيُّب من ناحية أخرى. ويلجأ الأفغاني هذه المرة إلى قانون
التاريخ استقراء وليس إلى الآية القرآنية استنباطًا. فالتاريخ يشهد على أن
دول المؤابيِّين والرومان والآشوريين والمصريين والتتار وحُكَّامهم كانوا
على نوعين: الأول فاتح لا يأبه إلا بالغنائم والقتل والغزو، إعصار ينتهي.
والثاني يحكم بالعدل فيدوم الحكم ويبقى أثرُه مثل كسرى أنوشروان الذي كان
عادلًا بالفطرة ومثل الفاروق الذي كتب إلى عمرو بن العاص
أَكسرَى أعدل منا؟ وأمره بهدم حائط مسجد بعد أن
أخذه عنوة من يهودي وبغير رضاه بناء على حبِّ العدل لذاته. في حين أن أحد
أجداد كسرى وهو أبرويز أحبَّ فتاةً فرفع الظلم عن قريتها، ليس حبًّا في
العدل بل حبًّا للفتاة. فانقضى العدل بانقضاء الغرض. وقد عدل المسلمون
الفاتحون مع الرهبان والولدان والشيوخ وبناء على وصايا الصديق والفاروق
والخلفاء الأمويِّين والعباسيِّين، بلا غرض أو غرور بل حبًّا للعدل في
ذاته. أما سلاطین آل عثمان فلقد فتحوا البلاد بدافع الغرور بما لديهم من
قوة وبأس، وما اعتقدوه رحمة وعدلًا. كان العدل عرضيًّا لا جوهريًّا. لذلك
سمح آل عثمان للأجانب كمترجمين بالتواجد في الدولة حتى تحكموا في البلاد
واستطالوا على العباد، وصار الوطن محكومًا ذليلًا للأجنبي. إذا قتل
اليوناني العثماني أنقذه القنصل كما كان معروفًا في المحاكم المختلطة في
مصر إبَّان الاحتلال الإنجليزي، اعتبر الإنجليز أنفسَهم من طينة غير طينة
الآدميِّين، ولا يجرءون على مثل ذلك مع باقي الأوروبيِّين مثل البلجيك أو
السويسريِّين والدانماركيِّين. هناك إذن فرقٌ بين عدلٍ يأتيه الفاتح عن
علمٍ وحبٍّ بإجراء العدل والأخذ به وبين ما يأتيه من غرور وإتيان العدل
لبواعث من خارجه. وأقرب موارد العدل القياس على النفس، وقبول للغير ما
يقبله الإنسان لنفسه. بالعدل تتحقق المساواة والوفاق والوئام، وبالأثرة
تتحقق الأنانية والنفرة والخصام. وكان الأفغاني يقسم بالعدل،
وعزة الحق، وسر العدل.
٢٨
ويقرن الأفغاني العدل بالقوة. فخيرُ ما يحتاجه الشرق من الملوك القوي
العادل. ولا خيرَ في العادل الضعيف كما أنه لا خيرَ في القوي الظالم. وهو
الموقف الفقهي القديم في الجمع بين العدل والقوة. والجبن أقبح عيوب الملوك؛
لأن عيبَ الكبير كبير، ويحتاج الملك الجبان للصعلوك الشجاع؛ فالشجاعة قوة،
والجبن ضعف، وعظمة الملك لا تكون بالتيجان بل بالقوة والعدل. ولكن أكثر
أمراء الشرق إذا أُلقيَ أحدُهم في أضيق جبٍّ من الاستعباد وحُفظَت له
ألقابه الضخمة مجردة حسبها عرضها السموات والأرض، لأنه أصبح ألعوبة في أيدي
الأجنبي. ومع ذلك لا يكون الملك القائم على العدل والقوة مظهرَ رهبة من
الناس. فمن رهب الملوك بغير جريرة فهو الصعلوك. ومهابة تصدر عن كرسي الحاكم
لا عن عدله وفضائله أقرب للسخرية منها إلى الاحترام.
٢٩
والحكم العادل القوي هو الحكم الديمقراطي. والتحول من التسلط إلى
الديمقراطية سنةٌ تاريخية وسنة إلهية، لا فرق بين قوانين التاريخ والآيات
القرآنية. الحكم للعقل والعلم. وإذا ما تحول إلى جهل يظهر الحكم المتسلط.
والتفرد بالسلطة وسوق الأمم على هوى الفرد يُزيل العالمَ ويحوله إلى خراب.
والأمة التي لا تُستشار في مصالحها وليس لها حلٌّ ولا عقد في إرادتها تكون
خاضعةً لحاكم واحد، وإرادته قانون، ومشيئته نظام. لا ينضبط لها سيرٌ، ولا
تثبت للرجال، وتتأرجح بين السعادة والشقاء، بين العلم والجهل، بين الغنى
والفقر، وبين العز والذل. فإن كان الحاكمُ حازمَ الرأي، رفيع الهمة، قويم
الطبع، عدل السياسة صلحَت الأمة. وإن كان سيِّئَ الطبع، سافل الهمة، خسيس
النفس، فسدت الأمة. فساد الأمة بفساد حاكمها إذا كان الحكم فرديًّا. لذلك
وجبَت استشارةُ أهل الرأي. هنا يقترب الأفغاني من نظريته الشهيرة في
المستبد العادل، الذي يجمع بين العدل والقوة وإن ضحَّى بالشكل الديمقراطي.
فقد لا يحكم قوم من غير قاهر من أهله وكأن الاستبداد طبيعي في الحكام. وقد
يعبر الأفغاني هنا عن عصر محمد علي وبسمارك وقيصر روسيا وعصر الميكادو في
اليابان وربما عن نظرية الاستبداد الشرقي عند مونتسكيو. ولكنه يسخر في
النهاية من الجبروتية والفرعونية التي تُساق بسياسة بقروتية؛ فالفرعون
الجبار لا يسوق شعبَه إلا بسياسة الأبقار. ويستشهد الأفغاني بتاريخ الغرب
وصراعه من أجل الديمقراطية؛ فبالرغم من تجزئة الغرب واستقلال عناصره بميزات
قومية إلا أن الغربيِّين تساوَوا نسبيًّا بينهم بالفضائل وأهمها العلم
بالواجبات والحقوق، ما لهم وما عليهم، فانتفى منهم التفرد بالسلطة وسوق
الأمة على هوى السلطان، وسينتهي الحكم المطلق في التاريخ تدريجيًّا طبقًا
لمقتضيات الفطرة كما حدث في الغرب. إذ تحكمه الشورى، وصارت كلُّ أمة في
مأمن من أن تغزوَها الدول المجاورة، ومتى ساد العلم في أمة فإن أول ما
تناهضه هو هذا الشكل الفردي في الحكم وتعمل على التخلص منه. هذه سنة الله
في الكون
وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ
تَبْدِيلًا. هنا تصدق الآية القرآنية قانون التاريخ، ويكون القانون
تحقيقًا لمناطها كما يقول الأصوليون. لذلك اشتمل القرآن على تدبير المالك
وأصول الحكم الشورية ووظائف الملوك، والإشارات إلى مقدمات العلوم والفنون الحديثة.
٣٠
وعلى هذا النحو يحتاج الملك إلى أمة أكثر مما تحتاج الأمة إلى ملك. فقد
رأينا شعبًا يعيش بدون ملك، ولكن ما رأينا ملكًا يعيش بدون شعب. ومع ذلك
فسؤدد الأمة معقودٌ بقادتها طالما وُجد الاثنان؛ الشعب والملك. لذلك تحتجب
الحقائق عن الملوك بقدرِ تحجُّبِهم من الأمة. الملك هو العالم بأحوال شعبه
وليس الذي يسكن في قصره بمعزل عن الناس، والصراحة هي أساس العلاقة بين
الحاكم والمحكوم منعًا لازدواجية الخطاب والسلوك بينهما. يقول الحاكم ما لا
يفعل، ويؤيد المحكوم وهو لا يرضى. والأمة التي تطعن حاكمها سرًّا وتعبده
جهرًا فإنها لا تستحق الحياة. والأمة بأفرادها. والشمم بالتجرد عن النفع
الذاتي وطلبه في النفع العام. فالفرد للجماعة والجماعة للفرد. وما مات أحد
في حبِّ أمة إلا وأحبَّته. ومَن أحبَّ الحياة فإنه يموت في سبيل حياة أمته.
ومَن طلب الموت في سبيل حياة الوطن إما أن يموت بطلًا شهيدًا وإما أن يعيش
سيدًا عزيزًا. ولا أمةَ بدون أخلاق، ولا أخلاقَ بدون عقيدة، ولا عقيدةَ
بغير فهم. وخيرُ موازين الأمم أخلاقُها.
٣١