الأنا والآخر
(١) الأصالة والتقليد
وقد يكون التقليد أيضًا للقدماء والأسلاف وهو الأقل شيوعًا عند الأفغاني؛ فتقليد الغرب أخطر من تقليد القديم الذي يمكن محاربته بضرورة الاجتهاد، ومن الطبيعي أن يقلِّد المسلمون آثارهم القديمة، آثار العرب والعجم المدفونة عند القدماء، الآثار العلمية والعملية، آثار الفتوحات والنهضة والعمران. ومع ذلك فالمسلم، عربيًّا كان أم أعجميًّا، إنما يعجب بماضيه وتراث الأسلاف، وهو في أشد الغفلة عن حاضره ومستقبله وكيف يجب أن يكون.
(٢) الإسلام والنصرانية
ويتجلَّى الصراع بين الأنا والآخر في الإسلام والنصرانية، أو الشرق والغرب، أو التحرر والاستعمار، أو السقوط والنهضة، ويبدأ الأفغاني بآية قرآنية إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ من أجل النظر في التاريخ، والإجابة على سؤال شكيب أرسلان تلميذه: لماذا تخلَّف المسلمون وتقدَّم غيرهم؟ ويبدأ بتقريرِ واقعٍ حسيٍّ بديهيٍّ، أن الله خلق الإنسانَ عالمًا صناعيًّا، ويسَّر له سبلَ العمل، وهداه إلى الإبداع والاختراع، وقدَّر له الرزق من صنع يدَيه، يَفلح الأرض ويرعَى الحيوان، ويخيط الملابس، ويبني المساكن تحقيقًا لفكره وإبداعه. ولو لم يعمل ويجتهد لعاش عالةً على غيره يستجدي العون. وهو في فكره وعمله في حاجة إلى مَن يُرشده ويُعلمه وهو الدين. فالدين مرشدٌ للحياة. وتتنازع في الإنسان صفتان متناقضتان: الشجاعة والجبن، الجزع والصبر، الكرم والبخل، القسوة واللين، العفة والشره، الكمال والنقص. لذلك احتاج إلى التربية منذ طفولته الأولى لتنشئة الإنسان على الفضائل دون الرذائل. وتبدأ في الإنسان ثلاثة بواعث: الأول يرفعه نحو الأسرار الإلهية وبالتالي اكتشاف الدين، والثاني نحو الخواص الطبيعية وبالتالي اكتشاف العلم، والثالث نحو الحقائق الإنسانية وبالتالي اكتشاف العلوم الإنسانية. ويعتمد في إشباع هذه البواعث على كلِّ ما اختزن الآباء والأمهات والأقوام والمربون. أما التكوين البدني فلا شأن له بالاستعدادات الذهنية إلا قوة أو ضعفًا. الاستعدادات موجودة بالطبع، ويختلف الناس فيها قوة وضعفًا، فطرة واكتسابًا. قد يتفوق فيها السابقون على اللاحقين، وقد يتفوق فيها اللاحقون على السابقين. ويظل للروح سلطانٌ على البدن والذهن كما يقضي بذلك العقلاء.
وقامت المسيحية على المسالمة والمياسرة في كل شيء، ورفع القصاص، وطرح الملك والسلطة، ونَبْذ الدنيا وبهرجها، وأوصَت بطاعة ملوك الدنيا وترك ما لقيصر لقيصر وما لله لله، والابتعاد عن التنازع والأحقاد والأهواء كما هو الحال في الوصايا على الجبل. هذا على مستوى النظر، وهي مبادئ صحيحة في كل دين. أما على مستوى العمل فقد قام المسيحيون بعكس ذلك، التقاتل على الدنيا، والمفاخرة والمباهاة، ورغد العيش، والصراع بين الممالك، والتغلُّب على الأخطار. يُبدعون في فنون الحرب، ويستعملونها ضد بعضهم البعض وضد الغير، فانقلب المثالُ إلى ضده. وتحوَّل المسيحيون إلى وثنيِّين، وبدلًا من تطبيق محبة الجار طبقوا شريعة الغاب. وقام الإسلام على طلبِ الغلبةِ والشوكة والفتح والعزة، ورفضِ كلِّ قانون يخالف شريعته، ونبذ كل سلطة لا تقوم على أساسه، فهم أهل قتال وحرب، وعلم وقوة، وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ. لذلك حرَّمت الشريعة المراهنة إلا في السباق والرماية أي في الفنون العسكرية. وهي مبادئ صحيحة للإسلام ولكل دين يبغي العزة لقومه في الدنيا والنجاة في الآخرة، أما على مستوى العمل فإنهم مستضعفون متخلفون مستعمرون أذلاء، فاقَتهم الأممُ الأخرى في الفنون العسكرية وأصبحوا مقلدين لها. عاشوا تحت سلطة مخالفيهم، ورضخوا لهم. لقد اخترع أهل النصرانية مدافعَ الكروب والميتراليوز وبندقية مارتين، وأحكموا الحصون، وأقاموا البواخر قبل المسلمين. وهنا تكمن المأساة، تحوَّل النصارى إلى مسلمين فتقدموا، وتحوَّل المسلمون إلى نصارى فتأخروا. كل فريق عمل عكس ما توحي به تعاليم دينه، فتقدم النصارى، وتخلف المسلمون.
(٣) الشرق والغرب
الشرق والغرب أحد مظاهر ثنائيات الأنا والآخر على مستوى المواجهة وكما بدَت في الاستعمار الحديث. ويرسم الأفغاني صورتَين للشرقي والغربي ويحدِّد معالمهما وخصائصهما التي تجعل الغربيَّ يستعمر الشرقي، والشرقي يقبل استعمار الغربي. ويأخذ الإنجليزي نموذجًا للغربي. فالإنجليزي قليلُ الذكاء عظيمُ الثبات، كثيرُ الطمع والجشع، عنودٌ صبور متكبر، على عكس ما هو شائع من ذكاء العربي. وواضح أن هذه الصفات إرادية أكثر منها ذهنية، رومانية أكثر منها يونانية. ويأخذ العربي نموذجًا للشرقي. فالعربي أو الشرقي على عكس الإنجليزي كثيرُ الذكاء، عديمُ الثبات، قنوعٌ جزوع، قليل الصبر متواضع. فواضح أن صفات الشرقي هي العكس، صفات ذهنية، وعيبه ضعف الإرادة وجزعه وعدم ثباته وصبره ونقص طموحه. فكان من الطبيعي أن يستعمر الغربيُّ الشرقيَّ بهذه الصفات المتباينة. فالاستعمار إرادة بلا عقل. كما يثبت الإنجليزي على الخطأ إذا تسرَّع وقاله أو باشره، والشرقي لا يثبت على الصواب ولا على طلبه. فيفوز الإنجليزي على العربي بفضيلة الثبات، ويخسر العربي أو الشرقي كلَّ حقٍّ لرذيلة التلوُّن والتردد وقلة الثبات وعدم الصبر. استعمر الغربيُّ الشرقيَّ لثبات الغربي وتردُّد الشرقي وهي صفة أيضًا من صفات الإرادة إيجابًا وسلبًا، والأفغاني يعيش في عصر نيتشه، وتُوفي قبله بثلاثة أعوام. وما أكثر ما ورد في القرآن من ذكر للصبر اصْبِرُوا وَصَابِرُوا، وَالَّذِينَ صَبَرُوا، وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا، وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. والأمة العربية خاصة والمسلمون عامة أحوج ما تكون إلى الصبر والثبات. يستهويها الوعدُ الكاذب وترضى به ولا تصبر على الوعد الصادق، وتخسر في الحالتين؛ فالأفغاني لا يشخص الداء ولكنه يشير إلى الدواء. وربما تغيَّر الأمر الآن بعدما أصبح الصبرُ داءً لا دواء.
والمصريون خاصة والشرقيون عامة في لقائهم مع الإنجليز أو الغرب مثل رجل مُثرٍ ترك من الأموال والأملاك وخلفه ورثةٌ سفهاء مبذرون. لذلك قضَت الشريعة بالحجْر على الوارث. وهذا الوصي هو الغرب. وفرق بين حجْر الشريعة الذي يمكن أن يرفع وبين وصاية الغرب الباقية إلى الأبد فتتحول إلى استعمار وتملُّك واستعباد. ويتخذ الغرب ذريعة حفظ حقوق السلطان أو إخماد فتنة ضد الأمير أو إنقاذ نصوص الفرامين أي صكوك الدائنين أو حماية حقوق المسيحيِّين أو الأقليات أو حقوق الأجانب وامتيازاتهم أو دفاعًا عن حرية الشعوب المقهورة أو تعليم أصول الاستقلال أو إعطاء الشعب حقوقَه تدريجيًّا من الحكم الذاتي أو إغناء الشعب الفقير بالإشراف على موارد ثروته. ويصدق الشرقي هذه الدعوى كما قال الشاعر.
ولا يتم مطلب الاستقلال إلا بترقية النفس بالعلم الصحيح، والوقوف على مواطن الضعف، ومعرفة الواجبات، وكيفية تحقيق الهدف، واقتصاص الضعيف من القوي، واتفاق الكلمة، وجمع الأهواء. نهض الغرب بالعلم والعمل، وانحطَّ الشرق بالجهل والكسل. الداء دفين في جسم الشرق يجب معرفتُه قبل طالب الدواء. والدواء هو العزة كما قال الشاعر:
وهو دواء أخذه الغربيون فحقق لهم العظمة والاستعلاء. ووجده الشرقيون مرًّا فطرحوه جانبًا كما قال الشاعر:
والأديب في الشرق يموت حيًّا ويحيَا ميتًا، بينما الأدباء في حياتهم أفقر الفقراء فإذا هم بعد الموت يصيرون بالرثاء وحفلات التأبين أغنى الأغنياء. فلا يلتفت إلى عظمائه إلا بعد مماتهم.
هذه الهمة هي التي خلقَت مجدَ الأقدمين في العراق والشام والأندلس ضد روح اليأس والقنوط. لقد حاول الغربُ إضعافَ لغةِ الشرقيِّين والتدرُّج بقتل التعليم القومي، وتشجيع احتقار اللسان القومي، وإيهامه بعجزه عن الإبداع الأوروبي حتى ينفرَ الشرقي من لغته وآدابه ويقع في الرطانة الأعجمية واستجداء المناصب من الغربيِّين. ويمكن مواجهةُ ذلك بتعليم وطني، تكون بدايته الوطن، ووسيلته الوطن، وغايته الوطن.
ولهذا التقابل بين الشرق والغرب طَمِع الغرب في الشرق. وامتدَّت مطامعُ الغرب إلى عموم دول الشرق. وأصبحَت ممالكُ الشرق وأهله مهددةً بأن يكون مصيرُها مثلَ مصير مصر والاحتلال، والاحتلال سبب الفوضى وارتكاب المنكرات والتعدِّي والسرقات. فالشراك منصوبة والسقوط قريبٌ إلا إذا نهضَت الأمم الشرقية ووحَّدَت كلمتَها ونشطت عقولُها، وعمل أولو العزم، وحفظت أسباب الملك، ومقومات الحرية والاستقلال. وشر أدواء الشرقيين اختلافهم على الاتحاد، واتحادهم على الاختلاف. وبعد تقسيم الدولة العثمانية إلى عشر خديويات، لكلٍّ منها استقلالُها الذاتي في نظام لا مركزي، تطالب إيران وأفغانستان والهند الآن بالاعتماد على السلطنة حماية لها من مطامع الغرب وحتى يعودَ الشرقُ للشرقيين. كان هدفُ الأفغاني إذن إيقاظَ المسلمين والشرقيين بالحجج والبراهين وإظهار فظائع حكمهم ليبيِّن لهم أسبابَ الاستعباد والذل والمهانة لمن لم يسقط بعدُ من ممالك الشرق في براثن الاستعمار أو ليؤجلَ سقوطَه ويلمَّ شمْلَه. ولكن انهيار ممالك الشرق كان لا يمكن إيقافه وهو في الانحدار لبعدِه عن الدين، والمسكنات لا تُغني عن المرض والموت، وموت الأموات خيرٌ من ميت الأحياء، وكأن الأفغانيَّ هنا مع حتمية التاريخ في السقوط والنهضة.
وبسبب هذا الطمع، وهو الباعث الأخلاقي على نشأة الاستعمار، وسَّع الأوربيون ممالكهم، وتفنَّنوا في ذلك بالحرب والقتال والغزو أو بالدهاء والحكمة واللين والخديعة. وقد أدى كلاهما إلى الاستعمار، وتحويل ممالك الشرق إلى مستعمرات، وحكَّامه إلى مستعمرين. ولفظ «الاستعمار» من الأضداد فإنه يعني الإعمار والتعمير حسب الاشتقاق، ولكنه في الواقع يعني التخريب والاسترقاق والاستعباد، ولا تُستعمر إلا البلاد الغنية في ثرواتها ومعادنها وتربتها لجهل أهلها وخمولهم. ولا تنفع المقاومة الضئيلة أمام المعدات الحديثة. وقد يدخل الاستعمار بلعبة حربية، انتصارًا لأمير أو تثبيتًا لملك أو قمعًا لثورة وبدعوى الصداقة وحب الشعب ورقيه، الاستعمار تسلُّط دول وشعوب قوية على دول وشعوب ضعيفة وجاهلة. فالقوة والعلم أسباب حركة الشعوب والتاريخ إلى مناطق الضعف والجهل. فهو قانون تاریخي ثابت. والدول تخضع لقانون الحياة، القيام والسقوط، النهضة والانهيار، وهي قوانين الحياة والموت. الضعيفُ يخشى من القويِّ ويرهبه، والقوي يستذل الضعيف ويستعبده. استعمر الإنجليز الأمريكيِّين، فقام الأمريكيون بثورة ضد الإنجليز، وتحرروا من الاستعمار دون اللجوء إلى الشكوى. وقاد استقلالَهم جورج واشنطن طبقًا لقول الشاعر:
ثم ظهرَت الدعوة المهدية في السودان. وسارعَت إنجلترا بالتدخل في مصر كطريق للهند. وسالت الدماء على سواحل البحر الأحمر. ونفرَت القلوب من الإنجليز. وبدأ الخوف في المغرب الإسلامي وطرابلس الغرب والشرق الإسلامي. فجزيرة العرب باب الهند. وأرسلَت إنجلترا جوردون باشا إلى السودان لتفريق كلمة المحاربين فشتَّتَهم ظلمًا، وجلب قساوسة بروتستانت من السويد لنشر المسيحية بين المسلمين لإخماد الثورة، وأراد منْحَ المهديِّ لقبَ أمير كردفان. ولكنه أخفق في سعيه. فذهبَت قوةٌ إنجليزية بقيادة الجنرال جراهام إلى سواحل البحر الأحمر لاسترجاع شرف بيكر وهس من الضباط الإنجليز الذين هزمهم أنصارُ المهدي. وغلبوا ثلاثة آلاف من العراة السودانيِّين، وقتَل منهم ثمانمائة بدوي ومع ذلك لم تجبن القبائل وظلت تحارب وتقاوم. وقد فتك المهديُّ بعشرة آلاف جندي بريطاني مرة، ومرة أخرى بألفين وخمسمائة، وكلُّهم تحت مشاهير قواد جيش إنجلترا. فلا يفتُّ في عزمه انهزام بعض المنتسبين إليه. تخيَّلَت إنجلترا أنها نجحَت وهنَّأَتها الدول على انتصارها في معركة وكأنها نابليون الأول أو غليوم الثاني. وليس في أفكار غوردون أن يخمد الثورة ولكنها قد تهدأ قليلًا بفضل العثمانيين والمصريين المتعاطفين مع المهدي.
ومع ذلك يبدو الأفغاني أكثرَ تعاطفًا مع روسيا كما كان عبد الناصر فيما بعد، وأكثر عداوة للاستعمار الغربي ممثلًا في إنجلترا كما كان عبد الناصر معاديًا للاستعمار الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. فبريطانيا تفتح البلاد وتُوقع بين أهلها البغضاء، وتتدخَّل في أمور الشرق، وتستعمر الهند ومصر لاستعباد أهليهما. الإنجليز في ذاتهم أمة من أرقى الأمم تعرف العدل في الداخل، ولكنها تمارس الظلم في الخارج. الإنسان له حقُّ الحياة. وهو الإنجليزي، ولغيره من البشر الموت، ليس في الوجود إلا الله وحق الإنجليزي، الطمع دافعه. وكل بقعة غنية في العالم له. لذلك لا يصدر عنهم في الخارج إلا الظلم. ووسيلتهم المكر والخديعة. ومن السفه مطالبةُ الشرقيِّين الإنجليز بالعدل أو الإنصاف؛ لأن معنى العدل هو التخلِّي عن البلاد وهو ما لن تقبله إنجلترا. يكشف المعيار المزدوج لإنجلترا العدل في الداخل، والظلم في الخارج، التشدُّق بالعدل كمبدأٍ عام ثم تخصُّ نفسها بالوصاية على النوع الإنساني.
ويستمر الأفغاني في هذا الوصف التفصيلي المعروف في مصر أيضًا في عصر إسماعيل وتكبيله بالديون ثم شراء أسهم قناة السويس وخلعه ووضع سعيد ثم توفيق مكانه حتى احتلال مصر، مركزًا على شبه القارة الهندية خاصة في الشمال. فعندما وقعَت الحرب بين الأفغانيِّين والبنجابيِّين خاف الإنجليز من تسلُّط الأفغان. فتدخلوا للصلح بينهم. وسحروا الأفغانيِّين بلين القول حتى تركوا لهم بيشاور وما يليها، وأجلَى الأفغان بنجاب. وبعد ذلك بعشر سنوات زحف الإنجليز على بنجاب وافتتحوها بأنفسهم، واستولوا على بيشاور، وأدرك الأفغان الحيلةَ بعد فوات الأوان. وقد حدث أيضًا أن خلع الإنجليز في الهند أميرًا رأوا فيه البصيرة والحزم، وأقاموا بدلًا منه ابنَه، وجعلوا أنفسهم أوصياء عليه. واستولوا على خزائنه، وأداروا مملكته، واستولوا على عسكره، ولم يبقَ له إلا الاسم. وتمَّ لهم ذلك تحت راية العدالة والإصلاح واستقرار النظام، والمحبة والإخلاص. وإذا اشتكى الملك إلى لندن تركوه حتى يجوع. وأمراء الشرق تُلهيهم الألقاب والأسماء والألفاظ حتى ولو كانت مجردةً من أية حقوق يلتذُّ بها، مثل: نائب، راجا، خدیوي، سلطان. وفي نفس الوقت يستولي الإنجليز على كل الوظائف السامية. ويوزعون بعضهم على الطوائف لتقريب بعضها على البعض الآخر، مثل الفرس أولًا الذين على دين زرادشت، وهم المجوس، ثم الوثنيون وأخيرًا المسلمون. فليس للمسلمين حظوظٌ في الوظائف إلا ما يتركه المجوسي والوثني، وفي نفس الوقت يدَّعي الإنجليز أنهم أولياء المسلمين، وينفون علماء المسلمين الذين يؤمنون بآيات الجهاد في القرآن الكريم.
تحوَّلَت الهند إلى خراب بفضل الإنجليز بعد نهبها وتقطيعها. وأهان الإنجليز الهنود، يركلونهم بالعصيِّ لأنهم ليسوا من البشر. وتسلط الإنجليز في الأماكن العالية مع أن البراهما الذي فتح الهند قادمًا من إيران لم يذلَّ الهنود مع أنهم كانوا يعتقدون أنهم من سلالة الآلهة، وأشركوا الهنود معهم. وفتح المسلمون الهند، وعاملوا الوثنيِّين مثل معاملة المسلمين حتى أوقع الإنجليز بينهم الشقاق، يتهمون المسلمين بالتعصُّب مع أن في حكومة المسلمين سنة وشيعة ووثنيِّين وفي حكومات الإنجليز لا يوجد هندي في وظيفة شريفة، ولكن النعمة تجلب النقمة. ونعمة الهند جلبَت نقمة الإنجليز لا على ما يحيط بالهند؛ لأن الإنجليز يعتبرونه من خلال ما يجب تأمينه حفاظًا على الهند. أتَت النقمة على العثمانيِّين ومصر. فقد استولَت إنجلترا من العثمانيِّين على قبرص بحجة المحافظة على ممتلكات إنجلترا في شرق المتوسط، وربما كانت نفس الحجة لاحتلال مصر وقناة السويس باب الهند والسودان مصوع وسواكن وعدن وباب المندب وجبل طارق، وكلها أبوابٌ للهند وأفغانستان وإيران. وقد حاول الإنجليز نفسَ التحايل على أفغانستان فلم تُفلح فأتَت بجيش قوامه ستون ألف جندي لاحتلاله وهم في أعلى درجات التسليح ولكن هزمهم الأفغان، فعاد الإنجليز إلى الحيلة. أما بلاد العجم فقد تم تقسيمها إلى مناطق نفوذ بين إنجلترا وروسيا اقتصاديًّا، ملاطفة الأفغان مرة والقسوة على إيران، وملاطفة إيران مرة للقسوة على الأفغان، ضربًا للأخ بأخيه، والعدو كاسبٌ في كلتا الحالتين، توحيد الأعداء، وتفريق الأصدقاء. ولم يأتِ الأفغاني الهند ليُخيفَ بريطانيا أو لإحداث شغب عليها ولكن خوف بريطانيا من عالم أعزل يُثبت ضعفَها وعدمَ أمنِها من حكمها. إنما مهمة الأفغاني استنهاضُ الهنود ويقظة الشرق في مواجهة الاستعمار.
وهذا ما حقَّقه غاندي بعد ذلك بالساتياجراها، تحويل الملايين من الهنود إلى قوة بشرية في مواجهة الاستعمار الإنجليزي. وهو ما استأنفه غاندي وسعد زغلول وعبد الناصر ونهرو وعرابي والمهدي من قبل وليس كما يحدث الآن من تفتيت للسودان وعزله عن مصر، واتجاه مصر غربًا.