القَريَة في أمثالهَا
القرى أهراء المدن، فمنها تَستمِد القوت، من حنطة، وخضار، وفواكه وألبان، ولحوم وخمور، فكأنها معمل، دواليبه الرجال. وكما لا تقف المعامل إلَّا هنيهات، كذلك يظل الفلَّاح في حركة دائمة، فحياته زرع وقلع، وحلب ضرع، صيفه استغلال، إنْ جادت عليه الطبيعة بالأمطار في أوانها. وإنْ جاءت قبل الوقت المناسب أو بعده قعد حسيرًا كئيبًا، يعلل نفسه بحكمة الأمثال التي علَّمته إيَّاها التجاريب، وأَمْلَتْهَا عليه الأيام فيردد: «إنْ فاتك عام استبشر بغيره»، فالقرويُّ صبور، جلود، لا يقنط ولا ييأس، ولا يكاد يسقط حتى يقوم.
لا أدري ماذا يحلُّ بسكان المدن من حكام وعلماء، ومن صناعيين وتجار وعمال، إذا وقف هذا البائس عن العمل، أو قنط ويئس، ولم يحرث أرضه ويُرَبِّ نعاجه؟!
أيأكلون البضائع التي تعج بها مخازنهم وحوانيتهم؟! وهل يطعمهم الدولاب خبزًا وخضارًا ولحمًا؟ ثم من يستهلك منتوجاتهم، وينفِّق بضاعتهم؟! أليس القروي هو المستهلِك والمنتِج في وقت معًا؟! لقد تخيَّل الشاعر الفرنسي سولي برودوم هذه الحالة، ووصفها في إحدى قصائده، فرأى الموت على مقرُبة منه.
فلو لم تسخِّر الطبيعة أبناءها كلًّا لعمل، وتجعل أسلوب حياته رائقًا في عينيه، لما كان ابن القرية يرضى بعزلته وخشونة عيشه، فإذا دخلت القرية نهارًا فقلَّما تجد في بيوتها غير الشيوخ العاجزين، والنساء اللواتي لا يستطعن عملًا، أو اللواتي يهيِّئن الطعام للرجال الكادحين في الحقول، حتى إذا دنت ساعة الغداء، حملن سلال الطعام في يد، وأباريق الماء في يد، وهرولن إلى الحقول حيث تنتظر الرجال الزاد.
إنَّ أيام القروي مملوءة عملًا في جميع الفصول، وهو لا يلجأ إلى بيته نهارًا إلا إذا دهمه المطر شتاءً، وكواه الحر صيفًا، فلكل فصل من فصول السنة عمل لا بدَّ من أن يُتمَّه في حينه؛ لأن المثل يقول له: «الفلاحة يد.» فإذا تقاعس أو تماهل فاته الرزق، والرزق في نظره قسمة ونصيب، ولكنَّ العمل واجب؛ فالله قال: «قُمْ حتى أقومَ معك.» فإذا تباطأ أو قصَّر كان هو المقصِّر، وصحَّ فيه المثل: «اللِّي من ايده الله يزيده.»
«الحركة فيها البركة»؛ لذا تراهم لا يستقرُّون، فإذا تركوا الحقل للاستراحة فلا بدَّ من عمل ما حول البيت، فالزمان يخلص، والعمل لا ينتهي، والتعب وسخ.»
ليس كل أهل القرى يحرثون وينكشون، بل هناك فئة تستأجر عمالًا، فيكون عملها مراقبتهم لكي يحسنوا العمل ولا يضيِّعوا الوقت. وكما يتمتَّع العمال المدنيُّون بالموسيقى الاصطناعية التي ينطق بها المعدن، كذلك لهؤلاء موسيقى طبيعية تُرفِّه عنهم، فهنا حسُّون يغنِّي، وشحرور يغرِّد، وحجل يتكلَّم، وهناك راعٍ ينفخ في شبَّابته فيلطِّف من شقاء الفلَّاح، ويهون عليه مصيبته، فتصير «نصف مصيبة».
النهار — كما قلنا — للعمل الدائم، وكيفما التفتَ العابر تقع عينه إمَّا على حطَّاب يقطع الحطب، ويحمله إلى بيته ليدَّخره للشتاء، كما يدَّخر مئونته تمامًا؛ لأن المثل يقول له: «في كانون كِنَّ، ومن المولود للمعمود يقف الماء عامود»، وإما على آخر يلمُّ تينه ليدَّخره للشتاء، فإذا كانت «المئونة في الصيف على العود، فأيلول طرفه بالماء مبلول.» فليستعد له، «فالشتاء ضيق ولو كان فرجًا.»
وقد ترى مكاريًا يسوق بغله وحماره، وهو يغنِّي ليخفف من مشاق الطريق، ويبلغ المكان المقصود، فإذا «جاء الليل جاء معه الويل.»
إذا كنت رأيتني — وكما ستراني — أُكثر من ذِكر الأمثال، فلا تنسَ أنَّ ثقافة القرية في أمثالها، فالمثل هو أدب الشعب وعنوان ثقافته، والدليل على عقلية الأمة الخام، وأخلاقها الأولية، ونتيجة اختباراتها في الحياة. إنَّ الأمثال القروية أحكام محكمة الوضع في جمل وجيزة يعرفها القروي الأمِّي، كما يعرف المحامي المتضلِّع مواد الحقوق الأصلية، فهو يحدثك دائمًا بالأمثال، ولا بدع في ذلك؛ فالمثل هو الثقافة البشرية الأصيلة. وكما يوجد فلسفة عامة يعرفها المكاري والمعَّاز والأكَّار، فيشترك فيها العقل البشري على اختلاف طبقاته، كذلك يوجد ثقافة شعبية تجمعها هذه الأمثال، فهي — كما قلنا — أشبه بالمواد الكلِّية في الحقوق المدنية من حيث إيجازها وبلاغتها وما ينطوي تحتها من معانٍ. فكُتب حقوق القروي تحت لسانه، وهو لا يحتاج إلى مراجعة المجلات والدساتير ليصدر أحكامه؛ فهذه الأمثال أحكام تتناول جميع الشئون الحياتية، وهي تجمع المحاسن والأضداد، والكفر والإلحاد، وفي الجملة، الشيء وضده في كل باب ومطلب.
المثل — في نظري — هو رفيق الأمية عبر العصور، وستظل هذه الأمثال حيَّة خالدة، إذا مات منها واحد قام عشرات. وهي تتغير وتتبدل بتبدل أساليب العيش، وتتطور بتطوُّر الحياة، ولا تحرم الإنسانية عقولًا ثاقبة ترسل الأمثال وتضربها في كل مناسبة.
وبهذا التبدُّل فهي تحافظ على بقائها؛ لأنها تنبع من جميع طبقات الشعب، ولذلك أراها ملائمة لعقلية الشعوب أكثر من الشعر، بل هي أصدق من الشعر. أمَّا هذا التناقض الذي نراه فيها، فهو عندي طبيعيٌّ جدًّا؛ لأن المَثل يماشي الحياة التي لا تسير على نمط واحد، وفي سياق واحد.
وقد حرص الناس على أن يقولوا في كل غرض مثلًا. فللزراعة، وهي تهمُّهم كثيرًا، أمثال لا تُعدُّ، نذكر منها قولهم: «غيِّر بِذارك ولو من عند جارك.» و«بعِّد أختي عنِّي وخذ غلَّتها مني.» هذا ما نطق به الزارع والدارس.
ولهم في الطب أمثال أيضًا منها قولهم: «البذرة التي لا تعرف فيها، بالنار داويها.»
وكذلك يقولون في الاقتصاد: «على قدر بساطك مد رجليك.» ولهم في السياسة مثل يوهمك أنهم يكرهون السياسة مع أنهم غارقون فيها إلى آذانهم، قالوا: «الداخل بالسياسة مثل الداخل بتنكة الكناسة.»
والأمثال منها ما هو وليد الاختبار، ومنها ما هو وليد الوجدان والعواطف، ومنها ما هو وليد التمرُّد والحرمان. فهذا القروي الذي وصفته لك كادًّا جاهدًا نفسه، لا تنسَ أن فيه روحًا عاتية، يفكِّر كما يفكر حكَّامه، وإذا أُكره وأُثير، استحالت فأسه ومنجله ومسحاته ورفشه ومنخس ثيرانه عتادًا حربية، يضحِّي ببنيه وثيرانه وكل ما يملك إذا ما استفزَّه البغي والظلم.
والفلَّاح — على بساطته — هو الذي يسقط الحكام، ويقوِّض العروش حين تستحيل منجل حصاده سيفًا، وعباءته درعًا وترسًا، يهاجم الموت وهو يردِّد المثل القائل له: «مت ابن … ولا تعش حزينًا.»
فهو يقول لك حين يكون راضيًا عن حكامه، أو ساخطًا ولا تواتيه فرصة الفتك: «لا سلطة إلا من الله، وحاكمك وربك.» كما يستعين بالدهاء فيقول: «اليد التي لا تَقدر أن تعضَّها بوسها وادع عليها بالكسر.» وعندما تأتي الساعة الملائمة يندفع كالنهر الجارف وعلى لسانه: «عيشة بالذل أنا ما أريدها.» حتى إذا ما ظفر بذاك الطاغية الذي كان يقول فيه: «لا سلطة إلا من الله»، يقول له بعد أن يسقط عن كرسيه أو يقتله: «على الباغي تدور الدوائر، ولا يحصد الإنسان إلا ما زرع.»
ثم يتنفَّش بعد هذا الفوز على ظالمه ويقول: «قالوا لعنتر: من عنترك؟ قال: ما لقيت حدا ردَّني.» نحن رددناه؛ لأن «الوعاء الذي لا يمتلي يكون معيوبًا.»
أعتقد أن لبنان أغنى من غيره بالأمثال؛ وذاك لتشابك المدنيات فيه، بتواليها عليه، وبقدر ما تتشابك الحياة وتتعقد شئونها، يهبُّ المثل من مكمنه ليعبر عنها، ويبقى رمزًا إليها. إن القروي سياسيٌّ مطبوع، ولذلك قلَّما ترى قرية ليست منقسمة حزبين أو أحزابًا. ولعل القروي، إذا ترك المحراث وقعد يستريح، يتحدث مع رفيقه عن السياسة العالمية على قدر ما يدرك منها، ثم يتطرَّق إلى المحلية منها. وهناك يجلِّي في ذلك المضمار، فهو ينتصر لرجل، وربما كان لا يعرفه، ولعل تحزُّبه له يكون نكاية بجاره أو بابن عمه أو أخيه، وكما يقول مثله: «من أخذ أمِّي صار عمِّي»، يقول أيضًا: «أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب.» ولكن لا، فكثيرًا ما نرى القروي ينتصر للغريب ويعادي حتى أخاه ليحقق القول: «البغض بين القرايب، والحسد بين الجيران.»
وهذه الحزبيَّة القروية كثيرًا ما سُفكت دماء وزَهقت أرواح بسببها؛ فالقروي عاتٍ جبار، إذا استُفزَّ صغُر الموت في عينيه وقتل خصمه كما يقتل الحيَّة. وللثأر عندهم مكانة عليا؛ ولهذا تزول الأحقاد بينهم في تلك الساعة وينتصرون لبعضهم ويقولون: «ابن عمك حمَّال دمك.» حتى إذا ما مرَّت تلك الفترة عادوا إلى عنعناتهم وتنافرهم وتباغضهم.
وحب الزعامة والرئاسة متأصل في القرية؛ ولذلك قسَّم أبناؤها الجماعةَ درجات: فلان يأخذ القهوة قبل فلان، وزيد يجلس فوق يد خالد، وإذا أخلَّ أحد بهذا الترتيب، كانت العاقبة غير محمودة، وقد تؤدي إلى قتل من تجاوز حدَّه ولم يقف عنده.
أما العيشة في القرية فمشتركة، فمن عنده يَهدي إلى الذي ليس عنده، وقد تكون عند فقير فاكهة ليست عند أبناء قريته، فهو لا يُحجم عن أن يُهديهم شيئًا من ثمارها فيأكلون متمثِّلين: «سنة مباركة ورزق جديد.»
وأبغض شخصيَّة في القرية هي شخصية البخيل الشحيح، وفيها يَضربون الأمثال: «البخل كشَّاف العيوب وقاطع المحبة من القلوب»، و«البخيل بيموت عليل»، «البخيل بياكل من كيسه، والكريم بياكل من كيس غيره.» كما يقولون في الكريم: «الكرم مغطِّي كل عيب»، و«هين مالك ولا تهين حالك.»
وأحب الناس إليهم من كان جوادًا، فالكريم المضياف: «كَرْمٌ على درب، وبيته مفتوح»؛ وذلك لأن من عاداتهم أن المارَّ يأكل عنبًا وتينًا من كل كرْمٍ يمر عليه، بشرط أن لا يأخذ معه شيئًا، وإن أخذ أُهين، وإن كبَّر رأسه ضُرب.
إنَّ الضيافة هي شعار القروي، ومن العار عليه ألا يقوم بواجب الضيف. قد تَسْتَخِفُّ بالقروي حين تراه وعليه ثوبُ العمل المُهلهل، فيكاد يكون: «ما عليه من الخام ريحه.» ولكنه إذا لبس ثوب الاستقبال وأدخلك بيته البسيط النظيف، وقدَّم لك طعامه المُعد أحسَنَ إعداد ظننت أنك عند رجل لا صلة بينه وبين الحقول والمواشي. وإذا كان الضيف كبيرًا ذبحوا له خروفًا أو جديًا، وإلا فدجاجة. وإن كان ممن لا يؤبَه له قَروه من حواضر البيت: الجُبن واللبن والبيض، وكانت حلاوته التين. أما الذي يهرب من وجه الضيف فمثلهم يقول فيه: «الكلب لا يعرف بابه»، وإذا كان غنيًّا بخيلًا قالوا فيه: «كلب محمَّل قروش.»
ومِن أمثالهم: «الضيف له الكرامة»، و«ضيف المسا ما له عشا»؛ أي يقدم له من حيث كان، ويقام بواجبه على حقه في الغد؛ لأن الضيف: «أسير المحل»، فلا يبارح المضافة إلا مأذونًا:
كما قالوا: «الضيف المتعشِّي ثقلته على الأرض.» وإذا كان الضيف ثقيل الدم أو وقحًا قالوا فيه: «ضيف وحامل سيف.»
أما الرجل الذي لا يُرجى خيره ولا يُتَّقى شرُّه، فهذا عندهم لا منزلة له وفيه يقول مثلهم: «فلان لا يهش ولا ينش، وفشكة كر، لا بينفع ولا بيضر.» ولما كانوا — في ذلك الزمان — لا يعرفون صبغة اليود وغيرها من المضمِّدات قالوا في البخيل أيضًا: «فلان لا يبول على أصبع مجروح.»
ومن قيمهم الأخلاقية المثلى عِرفان الجميل؛ ولذلك قالوا في الذي يسيء إلى من أحسن إليه: «كل شيء تزرعه وتقلعه إلا ابن آدم، تزرعه فيقلعك.»
أما المحافظة على العِرض فرأس مكارم الأخلاق عندهم، قد يقتل الرجل أمه أو أخته. وقد يتحمَّس شباب القرية فيقتلون واحدة أساءت السلوك؛ حفظًا لكرامة الضيعة، لئلا يقال: في القرية الفلانية بنت أو امرأة عينها شاردة؛ ولهذا لا يسمحون للبنت بالاختلاء بمن يميل إلى تزوجها. وفي ذلك قال مَثَلُهم: «اربط إيدك مليح تستريح.» والبنت ينصحها مَثَلُهم بقوله: «عشيقك لا تأخذيه ومطلقك لا تردِّيه.» وإذا ماتت لهم بنت قالوا: «ماتت حرَّة ووفَّرت صرَّة.»
أمَّا العِلْم — في القرية — فمنتشر جدًّا، وهم قديمو العهد به، فحَد كل معبد مدرسةٌ صغيرة تُعلِّم القراءة والكتابة حتى يَندر أنْ تَرى أُميِّين في القرية اللبنانية، وقد أُضيفَ إليها حديثًا مدارس حكومية، وديورة كثيرة استحالت مدارس عالية نشرت الثقافة منذ مئات السنين.