جُلَّنار
إنَّ ديوان «جلنار» مطبوع أجمل طبع، ومصدر كديوان أسعد سابا بمقدمة كتبها زعيم الرمزية الشاعر سعيد عقل، فأثبت لنا أنَّ لغتنا العامية، إذا كانت تصلح أداة للشعر العامي، فهي عاجزة كل العجز عن تأدية الفكر، وهي إنْ أدته فإنما تؤدِّيه بما يضحك الثكلى فوق نعش وحيدها.
اسمع ما يقول: «… كان كل شي بالطبيعا عميوعد بنجمي جديدي، ما بعرف، ما بعرف أنا كنت متأكد انو راح يخلق ميشال طراد، التصوير كان من خمسين سني بلش لعبتو. داوود القرم مش شي عادي، والفلسفي ما كان بقا إلَّا تطل، ومتل ما اليوم نحنا بلهفي وعينين مجروحا — سلامتها يا حبيبي — ناطرين تبليشة العلم، مأكد واحد مثل فؤاد البستاني عندو لفتي شاملي ع تاريخ الفكر، ولأنو ع قد هالمعرفي بيقدر يحب ما كان مستغرب إنو يحسب للنجوم الطالعا.»
ألا تقول معي حين تقرأ ديوان «جلنار» ومقدمته: إننا حين ننتقل من مقدمة سعيد عقل العاميَّة إلى زجل ميشال طراد نكون كمن ينتقل من قطعة حرش فيها السنديان والبطم والقندول والعلِّيق والطيُّون، إلى حديقة حديثة أُحكم ترتيبها وتنظيمها، وهي حافلة بالخضرة الدائمة والعطر الأبدي؟
فصاحبنا سعيد، بدلًا من أنْ يقدم ميشال طراد قدَّم سعيد عقل وحلمه بمارتوما جديد … وجعل من الأستاذ فؤاد أفرام البستاني، أبا معشر الفلكي الذي «يحسب للنجوم الطالعا.»
إنَّ النجوم متى طلعت لا تحتاج إلى من يحسب لطلوعها، أما قلت لك: إنَّ اللغة العاميَّة لا تؤدِّي الفكرة تأدية أنيقة؟ قلت وأكرر القول: أنا خائف جدًّا على سعيد عقل الشاعر، من سعيد عقل المتفلسف، وسعيد عقل الزجَّال، وسعيد عقل الشاعر الفرنسي.
إنها ثلاث بطِّيخات لا بطِّيختان، اللهم نجِّ سعيد عقل من سعيد عقل!
أما تلميذي ميشال طراد فشاعر فنَّان، والفن عادةً يكون ظاهر التكلُّف، ولكن طبيعة ميشال طراد، وتأنقه يمحوان آثار تكلفه، فتخال أنَّ ما يقوله قد جاءه عفو الطبع، مع أنه يفتش عن الكلمة شهرًا وشهرين، ويظل يركض مشمِّرًا خلفها.
وبعد، فماذا في ديوان «جلنار» من عصارة قلب ميشال طراد وخلاصة شبابه؟
الجواب: كل شيء! ولا عيب في شعره إلا أنه لا يستطيع قراءته على حقها كل من يحسن القراءة، فهناك أبيات «قولبتها» مرارًا في حنكي حتى استقامت، ولكني أعييت عن بعضها فتركتها وما «كسرت كعوبها أو تستقيما»، كما قال الشاعر.
هذا هو الإجمال، أما التفصيل فإليك به: في مطلع الديوان يعتذر الشاعر إلى ربِّه بأسلوب «أفرامي»؛ لأن اسم «جلنار» يسبق إلى فم ميشال قبل اسم الله، ولا شك في أنَّ الله الغفور الرحيم سيغفر لميشال كما غفر لمار أفرام.
وشاعرنا يعتقد — كبعض أصحابنا — أنَّ بين الزهرة والنحلة والفراشة حبًّا جمًّا، وفي ذلك قال قصيدة رائعة جدًّا بعنوان «نغمشي» يزيِّنها هذا الحوار البديع:
وعند ميشال ظَرف يكاد لا يُدرك، تلمسه في مطلع قصيدة «تشكيلة الفسطان»، حيث يقول بلسان صاحبه:
وفي قصيدة «بنت جارتنا» وصف حال دقيق جدًّا، وفي قصيدة «صبيع» تصوير جميل، وميشال كغيره من شعراء الرمزية يحب العيون الخضر. أمَّا أنا فلا أفهم هذه العيون الحربائية التي يهيم فيها شعراء اليوم، يظهر أنَّ الحسن «موضة»، ولهذا لم نفكر نحن قط بعيون خضر.
وننتقل من غرام النحل والزهر إلى غرام الزنبق، فعشق الورد والبلبل، وهذه مناجاتهما:
وعلى ذكر «فيَّقتني» تذكرت حكاية تُروى عندنا عن بنت حلال كسدت بضاعتها، كان اسمها وردية على ذكر الورد. وكان شاب اسمه يوسف يقول لها وهو ماشٍ كلما مرَّ بباب بيتها: بتاخديني يا وردية!
فتشهق وردية وتجيبه: «لا تفيِّقني يا يوسف!»
حقًّا إنَّ أحلام هؤلاء الشعراء، فاقت أحلام الرومنطيقيِّين، وتصوُّراتهم، فاقت تصوُّرات الأديبة مَيَّ في آخر أيامها.
وهكذا يمضي ميشال في قصصه الزجلي البديع، ومناجاته الرائعة وتصوُّراته المستطابة كقوله في وصف حلوة الحلوين:
وقصيدة «رح حلفك بالغصن يا عصفور»، تعدُّ في مقدمة الشعر الوجداني المعاصر حكاية وسياقًا، وحلاوة تعبير، وإني لأخال ميشال من أقطاب الصوفيين المعتقدين بوحدة الوجود، حين أقرأ قوله يخاطب الحبيبة:
ونسير في دنيا ميشال طراد حتى نقف عند قصيدة «قنديل أحمر»، لم يعجبني هذا العنوان؛ لأن فحوى القصيدة يدلُّنا على أنَّ صاحبته لا تستأهله … وزاد استيائي أنَّ اللازمة لم يستقم لي علكها بعد ستة أشهر، وها أنا أعرضها على ميشال:
إنَّ الاختيار من ديوان كهذا صعب جدًّا؛ لأن هؤلاء الشعراء حريصون على تنقية شعرهم من الزوان والشيلم، وليسوا كشعراء الفصحى الذين يجمعون دواوينهم بعفشها ونفشها. ومن أجمل روائعه قصيدة «مش فايقا»، ولعل القارئ يخاطر بثمن نسخة فيقرأها وهو رابح، وهناك قصيدة عنوانها «يمكن وقع دملج» لم أقرأ قصيدة مثلها نعومة، وأمَّا نحلات مار عبدا فلا أتعجب إذا هاجموها!
وهكذا يظل القارئ ينتقل في الديوان من حسن إلى أحسن حتى كدت أقول: إنَّ ديوان «جلنار» كعرس قانا الجليل، الذي قدمت في آخره أجود الخمر. ولكن هذا لا يعفي تلميذنا الطاهر من النقد، وإنْ لم يكن لاذعًا مثل نحلات مار عبدا المشمر.
إذا سمح لي تلميذي أنْ أبدي رأيي في الزجل قلت: إنه حين خاطب العصفور الذي حلَّفه بالغصن، قال:
أليس الأقرب إلى العامية أنْ يقول:
العوام يقولون: منقار، لا منقاد.
ثم قوله في قصيدة:
أَنسِيَ ميشال أن اللغة العاميَّة عدوَّة الهمزة؟ وهناك هِنَات أخرى مثل نظراته إلى الشعراء الذين تعلَّم شعرهم فقال في بيت:
وقوله في قصيدة أخرى:
يذكرني بزورق ابن المعتز:
ثم لماذا قال: زورق، ولم يقل: قارب؟ وكقوله حين أراد أن يختصر: الدني بعمر السوسني وكاس ومجوز وضحكة مرا … فكانت أربعته من طراز غير أربعة أبي نواس.
أما تصرُّفه في بعض اللفظات ليستقيم الوزن كقوله: «سسان» في سوسان، وغيرها مثل: الضيعين والمجنين والدللين وصبيع، فهذا يفقد القول بعض روعته، إنَّ الكلمة تفقد هكذا كثيرًا من خواصها، ويجب أنْ تأخذ راحتها وتمدُّ رجليها.
وأخيرًا، ليت شاعرنا ختم ديوانه الضاحك المتهلل بقصيدة «الحب زوادي» لا بقصيدة «حزن»!
حاشية: إني أرى قرابة كبيرة بين «جلنار» و«رندلي»، قرابة لا يحللها بطريرك؛ بل يقتضي لها بابا؛ لأنها أكثر من درجة رابعة … فالشال والقمر والأشياء الأخرى، وأنت وأنا وحبقه وشي سلة قناني، صوت صارخ يؤيد ما أقول.
لا يعنيني أنْ أُصفِّي هذا الحساب، ولعل أبا معشر الفلكي الذي قال عنه سعيد في المقدمة: «إنه يحسب للنجوم الطالعا» يعرف أية نجمة طلعت قبل.