اللهجة العامية اللبنانية
كنت — ولا أزال، وسأظل — عدوَّ الاثنين: الداعي إلى إحلال اللهجة العاميَّة محل اللغة الفصحى، والقائل بكتابة اللغة العربية بحروف لاتينية.
كِلا الأخوين أضرُّ من أخيه، أيجهل هؤلاء الدعاة أنَّ لكل جيل من الناس لغتين؟ لغة يَجري بها القلم، وهي مادة الكتاب، والكتاب سِجِل المدنيَّة الخالد، ولغة تدور على الألسنة، وبها تتفاهم الأمة المختلفة الأقاليم؟ أذكر ولا أنسى أبدًا أنَّ واحدًا من بني عمي تزوج أميركية وجاء بها إلينا، فحاول أحد طلاب المدارس أنْ يحدِّثها باللسان الإنكليزي، فلم يفهم عنها ولا فهمت عنه، إلا: «يِسْ وأورَيْتْ، وغودْ مورني.»
وزارني، منذ أعوام، مراكشيَّان فما تفاهمنا إلا بالفصحى، وأذكر مرة أخرى أن أحد المهوَّسين باللهجة، قرأ لي محاضرة كتبها بلهجتنا العامية، متوقعًا مني ثناءً طويلًا عريضًا، فقلت له هذه الكلمة: خطابك جميل، إلا أنه يحتاج إلى ترجمة، فاحمرَّ وجهه.
وبعد، فقد تَكُون لهجة لبنان العامية أنقى اللهجات، وأقربها إلى الفصحى لانكماش اللبنانيين وتقلُّصهم في جبالهم الوعرة، غير المرغوب باستيطانها. هذا ما كان، أمَّا ما سيكون فمن يدري؟ إن سهولة المواصلات، ومطامع الشركات، والمهاجرة مِن … وإلى، قد تؤدي إلى إفساد لهجتنا، والله أعلم.
إذا سمعت لبنانيًّا يقول للخادم خذمتشي، فاحكم حالًا أنه غير جبليٍّ، فعلى ألسنة اللبنانيين تدور تعابير قرشية النسب لا تُحْصى، وإليك بعض ما يحضرني منها: «قطعنا له ثيابًا»، «من كل فجٍّ عميق»، «أساور من ذهب» … «لولا كلمة سبقت»، «اسم الله عليه»، «لا تقع السماء على الأرض»، «ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم»، «سبق عليه القول.»
إنَّ هذه التعابير من كلامه تعالى، ولساننا يجري بها حتى الساعة. فاللبناني لا يعرف مضغ الكلام، وقلَّما رأى في ضيعته الأعاجم، وإنْ مرَّ بها واحد فَكَمرِّ السحاب. اجتمعتُ في أخريات هذا الصيف بمحمد الأمير، أمير بني ربيعة، فقال لي: إنَّ لهجة لبنانكم أقرب اللهجات إلى لهجتنا، وإننا نفهم عنكم أكثر مما نفهم عن سواكم.
نعم، إنَّ ابتعاد اللبناني وانفراده، حَمَلاه على أخذ مسمياته من أفعالها، فقال: فلاح، وفاعل، وأطلق على القَدِّ — الذي تُشدُّ به الحلقة إلى النير — اسمَ «الشرع»، تأملْ ما أجملَ وأدلَّ هذا الاسم على ما يَعدِل به الفلاح بين ثوريه، فلا يُحمِّل واحدًا منهما فوق طاقته! وهو يسمِّي الأداة التي ينكز بها الفدَّان «مسَّاس» لأنه يمسُّ بها مسًّا، ففي رأس المسَّاس نَصْلٌ كنصْلِ الرُّمح، والمسَّاس رُمْح الفلاح، وساحة طعانه حقله. أمَّا الآلة التي يضرب بها ضربًا فيسميها «صاموطة»، وكأنه اشتقها من السمت، ومعناه الخط الذي يريد أن يرسمه.
لم يدَّعِ قدماؤنا — حتى المتأخرون منهم — هذا النهج في مسمياتهم، فقالوا: «أبو الركب» في حمى الضنك. أمَّا اليوم، فأخذ بعضنا يقول: كورب، ومكورب، من كلمة كريب؛ أي مصاب بالرشح. كان القدماء، إذا تعذرت عليهم التسمية، لجئوا إلى المجاز، طابعين على غِرار جدودهم، يسمون الشيء باسم جزء منه، فقالوا: «لستيك» لنوع من الأحذية.
ومن هذا الطراز قولهم لمن رأوه في بحرانٍ وسهوٍ: «مسطول»، و«قاعد مثل السطل» «لا يهش ولا ينش.» ويقولون للخفيف الرأس: «مشتول»، وعلى هذا الغرار قالوا للقصبتين المضمومتين: «عُنَيِّق»؛ لأنَّ عنقهم ينتفخ عند النفخ للغناء بهما، أو يسمونهما «قصب» باسم جنسهما، كما يقولون للمريض: «ساخن» من السخونة. ومن تسميتهم الحسنة قولهم: «كف ورق»، لخمس طلاحِ ويلفظونها «طراحي». ويقولون: «حص توم» وفي الحص لُغويًّا معنى الكثرة. ويسمون أحد أجزائه «سن توم» لما بينه وبين السن من تشابه. ويعجبني منهم نهجهم في الأسماء والألقاب والكُنى نهج العرب، فلقَّبوا واحدًا «الصبح» وهو أكمه، وسموا آخر «العيُّوق» وهو يكاد يكون مسخًا، وكنُّوا رجلًا «أعشى» ﺑ «أبو ضو» كما قال العرب: «أبو بصير». وأرى أيضًا في تسمياتهم ذوقًا مرهفًا حين يسمُّون النونة والفحصة «غمَّازة»؛ وهي نقرة تبدو في الخدَّين عند الابتسام وكأنها تغمز. ويعجبني أكثر من ذلك هربهم من الحروف الثقيلة كالذال، مثلًا، فإما أنْ يلفظوها دالًا أو يحذفوها بالكلية، فيقولون للماهر في مهنته: «أصطا» بدلًا من أستاذ، وللساذج: «سادا» رادين هذين الحرفين إلى أصلهما الفارسي.
قال أحد المتمشرقين: إنَّ أهل لبنان يلفظون الذال دالًا، فصدَق، ولكنه مثَّل على ذلك بإذا، فضلَّ كعادة زملائه، فليس هناك لبنانيٌّ يقول: إدا.
إنَّ العوام، وخصوصًا اللبنانيين، أعداء كل حرف ثقيل، فأكثرهم يلفظ القاف همزة، كقولهم: «اسكت بأى» وهم يحذفون الهمزة حذفًا كاد أن يكون إجماليًّا فيقولون: «جا، وجايي، وجينا»، وإذا سمعت لبنانيًّا يعكس همزة جاء ويقول: «إجا»، فاعلم أنه غير جبليٍّ أصيل.
ومن خصائص اللهجة اللبنانية النحت والقلب والإبدال، ولنَقل: الاختزال واللزُّ إن صحَّ التعبير. فيقولون: «أيْوَهْ»، في أي والله، و«إسَّا ولِسَّا»، في الساعة وللساعة، و«هلَّق» في هذا الوقت، و«بدِّي»، بدلًا من بودي، و«أيْشُو»، في أي شيء هو. وفي الشوف يقولون: «شو» بدلًا من أيش. أما من يقول: «شونو» فمتحذلق. إنَّ اللهجات في لبنان تختلف باختلاف الأقاليم اختلافًا جزئيًّا، ومن اختلاف اللهجات نعرف الأقاليم، ومن اختزالهم قولهم: «تعاتا ناكول»؛ أي تعال حتى نأكل. و«هَوْ» بدلًا من هؤلاء، كقول الخادمة: «بدي كَنس هَوْ»؛ أي بودِّي أن أكنس هؤلاء. وكقولهم: «أينو»، في أين هو، و«هَيْك» في هكذا، و«لَيْك» في إليك، ويلحقون بها الهاء فيقولون: «لَيْكُو»؛ أي إليكه، و«لَيكا»؛ أي إليكها، و«لَيكُنْ»؛ أي إليكم وإليكهن، وعلى نسقها تجري «مَعْلَيْكْ»؛ أي لا عليك.
أمَّا الضم المشبع في عين المضارع وغيرها فمردُّه إلى اللغة السريانية التي طلَّقوها منذ قرنين أو أقل، وهذا الضم أشيَع ما يكون في شمالي لبنان. وها نحن نصفِّي حساب السريانية دفعة واحدة. يقول لك اللبناني الشمالي، وسيَّان في ذلك المسلم الطرابلسي، والمسيحي الأهدني: طُرابْلِسْ، صُابُون، ويقول: نُحْنُا. أي نحن، فكأنهم يردُّونها إلى أصلها السرياني إحنا، مستبدلين النون بالهمزة عدوتهم، وبعضهم يلفظها على حقها السرياني: إحنو. ويقولون: هَيدِي؛ أي هذي هي، فكأنها من هُودِي السريانية، وعندما يقولون: هَيد فهي ترخيم هُودِي السريانية. ويقولون: هاي؛ أي تلك، فكأنها هُي السريانية. ويناديك أحدهم: هو، بدلًا من ها العربية، فكأنه يردها إلى هُو السريانية. وتحويل الذال دالًا هو من نوع رد الألفاظ إلى سريانيتها، فيقولون: حِدَا في حذاء، وحدوة في حذوة، ويحولون أيضًا الضاد دالًا فيقولون: ركد في ركض، وأحيانًا يلطفون فليفظون الصنارة: سنارة. وبعكس ذلك يقولون: قصمة في قسمة. أمَّا الابتداء بالسكون في كسروان والشمال، فأثرٌ سريانيٌّ، يقولون: حْديد، حْليب، سْليم. وقولهم: إيدين في يدين، وإيد في يد، سريانيٌّ أيضًا. وكذلك قالوا: أبهاتنا في آبائنا، وبسببها تندَّروا على الكهنة فسموهم أب هات. وكذلك يَلفِظون الكرسي: كُورسي بالضم العنيف؛ لأن سريانيها كورسيو. وكثرة النون في اللهجة اللبنانية مصدرها سرياني، فقالوا: هنِّي بدلًا من هم. ويقولون: ضربتن قتلتن، وكيفن أهل البيت، بدلًا من كيف هم، فميم الجمع العربي نون في السريانية.
يقول لك الشمالي: إلُّو بدلًا من إلا، وهي آلو السريانية، ويقول بعضهم: أيْمَاتْ، وأيْمْتَانْ، وأيْمَتَى، وهي بلا شكٍّ من آمات السريانية بمعنى متى الاستفهامية. وأظن، لا بل أجزم، مخالفًا الباحثين جميعًا، أن لفظة «كَمَانْ» العامية بمعنى أيضًا هي أُكْمَنْ السريانية، حذفت منها الهمزة، وقول المكاري اللبناني لدابته: هِش، هو من هُوشُو السريانية، وهي بمعنى الآن، وكذلك قولنا: برَّا وجوَّا فهما لفظتان سريانيتان.
ولا يزال الشمالي حتى اليوم يلفظ: لا، بالضم كما هي في السريانية. وكذلك يلفظون: يُهْ، بمعنى إيهْ. ويلفظون: ما بينام بضم النون. ويقول لك: مروق أي مرَّ، ونطمور؛ أي نطمر، وهما سريانيتان.
أما وقد شبعنا من هؤلاء، فلنعد إلى الهمزة؛ إنَّ عداوتها حَمَلتِ اللبناني على استعمال الصيغة السريانية فقال: بلاع وزراع في ابلع وازرع، وهما سريانيتان، وقاسوا عليهما الأفعال العربية فقالوا: دفاع وقطاع، في ادفع واقطع. ويقولون: منعطوف عليه، وهو مضارع سرياني بلفظه ومعناه. ومن نوع هذا الضم المشبع قولهم: ضروب، في اضرب، وكذلك يلفظون: نُاطور بضم النون؛ لأن أصلها السرياني ناطورو. وتقابل عداوتهم للهمزة صداقتهم للنون فيقولون: مرين في مريم، وانتلا بدلًا من امتلا، وعلى قاعدة العرب يلفظون النون ميمًا إذا تقدمت الباء الساكنة فيقولون: شو هو ذمبي؛ أي ذنبي، وإذا تحرَّكت هذه النون لا تلفظ ميمًا.
إنَّ هدف العامة هو الخفة، فألين الحروف أحبها إليهم. وقد أدرك العرب ذلك فجعلوا النون الناعمة لجمع الجنس اللطيف، أمَّا احتجاج سيداتنا وطلبهن، أنْ يخاطبن بالميم، ففي غير محله، فليدعن الميم لأصحابها وحسبهن النون.
وقد أدت عداوة العوام للهمزة إلى استعمال الباء بدلًا منها فقالوا: بدرس، بنام، بلعب. أمَّا قولهم: عمبنام فهي اختزال عمال بنام. ويقولون: منضرب عند التقاء الباء والنون. وهم يستعملون الميم أحيانًا بدلًا من «ال» فيقولون مبارح، ومبارحا في البارح والبارحة. وبعضهم يقول: منيح في مليح. وفي بعض نواحي لبنان يفكُّون إدغام منَّا فيقولون: مننا.
وكما يختلف معنى اللفظة الواحدة عند قبيلتين عربيتين كذلك حصل عندنا، فمعنى عيَّط في فلسطين بكى وانتحب، أما عندنا فمعناها صاح وعربد. وكذلك بسط فإن معناها في العراق يختلف عن معناها عندنا.
والهاء عدوة العوام الثانية فيقولون: عطيتو بدلًا من أعطيته. وكذلك الميم في مواضع، فيقولون: أنتو بدلًا من أنتم. وقد يقلبون الهمزة ياء ليخزوا عجرفتها وتصدرها الأبجدية فيقولون نكاية لها: خد هدا يما هدا. ويقولون: لمَّن بتجي، حبًّا بنونهم الموروثة. وحبًّا بالضم الموروث أيضًا يقولون: هون وهونيك في هنا وهناك. ويقولون: لهو فلان؛ أي لهجة فلان، وأظنهم اشتقوها من اللهاة هربًا من ضخامة الجيم. ولفظ الثاء تاء كثير عند عامتنا، يقول لك المعَّاز: عندي تنيَّه، وتنيان ويوم التنين، في ثنية وثنيان والإثنين. ويلفظون الظاء ضادًا، فيقولون: ضلِّ على رأيك؛ أي ظل، ولكن هذا لا يطرد كما يطرد في الذال والثاء. ويفضلون مرق على مرَّ فيقولون: دَوْبو مَرَق؛ أي دأبه مرَّ. والبعض يقولون: مهنتس بدلًا من مهندس. وهم يحذفون ما يستثقلون، فيقولون: زيرة بدلًا من جزيرة. وللخفة، يلفظون التاء المربوطة ألفًا، فيقولون: صورا، وغندورا. وأحيانًا يثقِّلون فيقولون: ماضام ومضالية، في مدام ومدالية، ويقلبون هذه التاء ياء، فيقولون: شوكي أي شوكة، وحينًا يقلبونها ألفًا، فيقولون: من أيَّا جها جيت.
وهناك قلب آخر في مثل قولهم: «جوز، ريلا، إجر» في زوج وليره ورجل. وقد يزيدون حرفًا للتكبير فيقولون: رجال، ويصغِّرون فيقولون: يا خيي ويا خيتي، في يا أخي ويا أُخَيتيي، ومن تحريفهم قولهم: ضم أو تم أو ضل عندنا؛ أي ابق. ومن اختزالهم للاستفهام عن الثمن قولهم: بقدِّيش؟ أي بقدر أي شيء، ومثلها لاش وماش وبلاش، أي ما شيء ولا شيء وبلا شيء.
وأغرب ما سمعت هذا التحريف: سمس، ظرص زوز؛ أي شمس وجرس وزوج. كما يقولون: يا ريتو بدلًا من يا ليته، ويحرِّفون كلمة فم فتصير تم، ويقولون: سد تمك أو بوزك، وبوز سريانية مستعربة. وكذلك يقولون: مهبول ومبهول وبهله. ومن تليينهم قولهم: بِدِي يحكي؛ أي بدأ يحكي. ومن إدغامهم ولزِّهم وصرِّهم ما يفعلونه باسم الموصول فيقولون: إلِّي ضرب، ثم تصير ال فيقولون: مين إلضرب، وهذه المين والمان سريانية. وهم يكتفون أحيانًا بالهاء فقط عن هذا فيقولون: بتروح تقول لفلان يجي لعندي، ويتركون الباء فتصبح الجملة دعائية كقولنا: الله يحفظك، وتذكر الباء فتصير خبرية كقولنا: الله بيحفظك.
ويستعمل عوامنا كالعرب كلمات لا معنى لها فيقولون: كان بان، أو كان مان، وخبز مبز، كما قال العرب: حسن بسن، وحيَّاك الله وبيَّاك.
وهناك من ينقل حركة الحرف الموقوف عليه إلى ما قبله فيقول: كنت عند بكِر، وتختلف حركات بعض الكلمات باختلاف الأقاليم والقرى، فمنهم من يفتح، ومنهم من يكسر، ومنهم من يضم، فيقول بعض البيروتيين: فهمت علاي، ويقول غيرهم: فهمت عليَّ.
وقد دخل مؤخرًا بعض ألفاظ فرنسية وإنكليزية لا داعي إلى ذكرها كما دخل قديمًا ألفاظ مثل كندره، وبوط، وسكربينه، أما مشَّايه فاشتقُّوها من المشي. ومن شاء أن يتعرف جيدًا إلى اللهجة اللبنانية، فليقرأ جرائد الزجل التي تكتب باللهجة اللبنانية الأصيلة مثل مرقد العنزة، وليصغِ كل يوم إلى ما يذاع من المحطات المختلفة.