الطَّوْر الرُّومانطِيقي الرَّمْزي
أحسب أنَّ هذا الشعر العامِّي قد أصبح محسوبًا على تاريخ الأدب، وإذا لم يحتلَّ الصدر في ديوان العرب فهو قد احتل زاوية من زواياه، ولفت إليه الأنظار حتى تمنَّى شعراء الفصحى أنْ يكون لهم مثل عاطفته وصوره، وموسيقاه المنسجمة، وألفاظه الناعمة التي صقلها الاستعمال، فالشاعر من هؤلاء هو ابن الزمان والمكان، وهذا ما طلبه ويطلبه النقَّاد من الشاعر والكاتب.
سأل الفرزدق أحد الرواة، ولعله شيخهم عمرو بن العلاء: من أشعر أنا أم ذلك الكلب جرير؟
فأجابه: أنت عند العلماء، وهو عند العوام، فارتاح الفرزدق لحكمه، ولما بلغ هذا القول جريرًا ضرب فخذيه بكفيه، وصاح: غلبته والله، فليس في الألف من الناس عالم واحد.
وقال الأخطل في هذا المعنى: قلت بيتًا لم يقل مثله شاعرٌ قبلي، فما دار على لسان أحد، ونقضه جرير فلم تبقَ سقاة إلَّا روت ما قال.
أظن أنَّ هذا السبب هو الذي يقدم اليوم الشعر العامِّي على الشعر الفصيح عند الجمهور. حضرت مأتم شاعر ليس فينا مَن هو أشد منه إخلاصًا للغتنا العربية، فرثوه بنثر بليغ وشعر يستحق أنْ نسمعه، فما تحركت الجماهير ولا ماجت الرءوس كالحصاد إلا حين وقف شعراء العوام، وكلَّموهم بالألفاظ الدائرة على ألسنتهم. ليس هذا فقط هو سبب الاستحسان، بل هناك صور قلَّما نجدها في شعرنا الفصيح، وإذا وجدت فهي لا تظفر بالكلمات التي تبرزها وتلوِّنها؛ لأَن أكثر شعرائنا ليسوا من فقهاء اللغة، وهَبْ أنهم كانوا، فماذا ينفع الفقه من لا يدرك ما تقوله له؟
وإني لأَظن أنَّ هذه الحالة هي التي نشرت بيننا هذه البدع الحديثة: بدعة الحرف اللاتيني، وبدعة الخروج على أصول اللغة، وبدعة اللغة العامية، واللغة العامية التي يدعون إليها أي غرض تؤدِّي في ميادين الفكر؟ إنها لا تصلح إلا لهذا الزجل، ومتى تخطت تخومه بدت هزيلة ضعيفة.
لا أصدر هذا الحكم عليها بدون فذلكة ولا حيثيَّات، فحسبك أنْ تقرأ مقدمتي ديوانَي: «جلنار» لميشال طراد، و«من قلبي» لأسعد سابا، لتذعن لحكمي فلا تعترض ولا تستأنف … كلتا المقدمتين للشاعر سعيد عقل، ومن شاء أنْ يعرف تفاهتهما فما عليه إلا أنْ يقرأ مقدمتَي قصيدته «المجدلية»، ومسرحيَّته «قدموس».
إنَّ سعيد عقل شاعر من الطراز الأول، ولكنَّه يريد أنْ يكون زجَّالًا وشاعرًا فرنسيًّا، وأنا خائف عليه من هاتين النكبتين.
قال سعيد في ختام مقدمته لديوان أسعد سابا: «هنِّي — أي شعراء الزجل — اليوم شعرا الشرق»، ولعلَّ سعيدًا لا يكفيه أنْ يكون من هو، فحاول أنْ يكون من شعراء الشرق فانبرى لمجاراتهم في ميدانهم!
إني أنصحه، لوجه الله، ألا يقدم على هذا العمل، فإنه دون شكٍّ يقصِّر عنهم. أما بان هزاله في مقدمتيه؟ إنَّ ميشال طراد وأسعد سابا لا تَطُلُّ عليهما اللفظة الفصيحة، وسعيد عقل لا تأتيه الكلمة العامية إلا بعد اصطدامها بأختها الفصيحة، وهذا سر الزجل اللبناني الذي هو بضاعة للاستهلاك لا للتصدير.
عجيب أمرنا كيف نتحدث عن «الإشعاع» ولا نعمل له، إنَّ الإشعاع الفكري يتطلَّب زيتًا يصبُّ دائمًا في السراج، وليس هو راديوم مدام كوري، فإذا تُرك الفانوس انطفأ. كنَّا نمتن على غيرنا يوم كانوا يشكُّون خنجرًا ونشكُّ نحن دواة وقلمًا، كان ذلك يوم كان تيوفيل الرهاوي وغيره قابضين على ناصية العلم. وبكلمة مختصرة: إنَّ لبنان الفينيقي والسرياني كان لبنان إشعاع، فالفينيقيون كانوا صناعًا وتجارًا مهاجرين، والمهاجرة مدرسة كبرى، والسريان كانوا يحذقون لغة غير لغتهم الأم فنقلوا وعرَّبوا وألَّفوا، وظهرت هذه الخاصة في بقاياهم فعملوا مثلهم. أمَّا اليوم، فضوء سراجنا ينوس، كم أتألم حين أسمع كلمة «إشعاع» وألتفتُ حولي فلا أرى إلَّا من يحاولون جرَّنا إلى الوراء، طالبين منَّا أنْ نتخلَّى عن ميراثنا وتركتنا الضخمة في لغة العرب، لتنحصر في لغة عامية لا تفهم على حقها إلا في بلدٍ معيَّن.
ودعاة الحرف اللاتيني ماذا نقول فيهم؟ إنهم يطلبون التسهيل ليقعوا في أشد الصعوبات، فمن منا ومنهم يحسن ضبط الكلمات حتى يكتبها بالحرف اللاتيني، ومخارج الحروف ماذا نفعل بها؟ إنَّ للحروف الساكنة موسيقى يعتدُّ بها، فاللغات الغربيَّة تعتمد في موسيقاها الشعريَّة على الحروف الصوتية، أما نحن — لو تنبَّه شعراؤنا— فعندنا حروف شتَّى من مخرج واحد، فكأنها وضعت لينتقي منها الشاعر ما يلائم موضوعه ومقامه.
قد يقول قائل: إذا كنت تغار على الفصحى — كما تقول — فلماذا هذا الاهتمام بالشعر اللبناني العاميِّ؟
الجواب يا سيدي أنَّ في كل فترات تاريخ الأدب كان يظهر مثل هذا الشعر ويُستحلى ويُستملح، كما أنَّ بين الشعر الأول الفصيح والزجل أقرب النسب، فلم يكن امرؤ القيس أَعلم من طراد، ولا النابغة أوسع ثقافة من أسعد سابا. كان يقال ذلك الشعر قبل علم العروض، كما يقال هذا الشعر اليوم، وميزانه الأذن والذوق، كما تطور ذلك تطوَّر هذا حتى صار إلى ما صار إليه اليوم. وإذا أعطينا الزجل حقه فلا يعني أننا نريد أنْ نجعل من اللهجة اللبنانية لغة قائمة برأسها، يكفينا من الزجل أنْ يكون لونًا محليًّا نباهي به كما نباهي بالتفاح مثلًا، فهو ثمرة فكرية لذيذة جدًّا. وإذا كنت أنا المتضلِّع من عامية لبنان تعصى عليَّ بعض كلمات، فما عسى العراقي والحجازي والمصري واﻟ… واﻟ… أنْ يفهم منه؟
إننا نحن اللبنانيين، وخصوصًا الجبليين، نتذوَّق هذا الشعر تذوقًا كاملًا، ونطرب له كما يطرب البدوي — أمس واليوم — للشعر الجاهلي؛ لأَنه يحسُّه أكثر منَّا؛ ولأَنه يصوِّر له أشياء لا تزال تقع عليها عينه. وبعد، فإني أرى شعرنا العامي يمشي عند بعض شعرائنا نحو الفصحى وهذا قتل له، فخير للشاعر العامِّي أنْ يلم ألفاظه من الشارع لا من الكتب، عملًا بالكلمة المأثورة: لكل مقام مقال. وأنا لم أختر هذين الشاعرين: ميشال طراد وأسعد سابا؛ إلا لأَنهما غارقان إلى آذانهما في اللهجة العامية؛ ولأَن شعرهما يمثلهما أصدق تمثيل؛ ولأنهما مدرسة جديدة.