المدرسة
كنا نقيم في بيتٍ كبير بشارع الملك الناصر رقم ٢٤، وكان البيت هو البيت الثاني لداخل الشارع من جهة شارع نوبار، أما البيت الأول فقد كان مدرسة أولية متسعة الأرجاء، أصبحت الآن عمارة ضخمة. أما بيتنا فقد كان يطالعك منه أول ما يطالعك فناء متسع الأرجاء تحفُّ به حديقة جميلة من الجانبين، والفضل في جمال الحديقة يرجع إلى عناية عم أحمد بخيت بالحديقة وإشرافه الأمين الحاسم على الجنايني الذي كان يزورها عدة مرات في الأسبوع على طريقة رعاة الجناين في القاهرة. وبعد الحديقة يبقى لنا مكان كبير نلعب فيه مختلف اللعب، ولو أننا كثيرًا ما ننتقل إلى لعب الكرة في الشارع، وقد كان الشارع صغيرًا، ولكن المرور كان في القاهرة جميعها خفيفًا، فقلما كنا نقطع اللعب في الشارع لمرور سيارة أو عربة ذات خيل.
يحد حديقة البيت جدار من الناحية اليمنى يفصل بين البيت والمدرسة، وأما على الجانب الأيسر فسلاملك متصل بالبيت مباشرة، فهو أشبه بجناح منه بسلاملك له سلم خاص، وكان أبي يستعمله عادةً ليخلص منه إلى البيت، أما أول باب في الجناح فكان يفضي إلى حجرة تتوسط حجرتين؛ الواقعة على يسار الداخل هي حجرة الاستقبال، واليمنى هي حجرة مكتب أبي، وكان كثير الاستعمال لها، ولها باب يؤدي إلى الشرفة المتصلة بسلم الصعود، ولها باب آخر يؤدي إلى صالة كبيرة كانت تستعمل حجرة طعام، وحجرة الطعام فيها أبواب ثلاثة أخرى؛ أحدها للقادم من شُرفة السلم، والثاني على يمين الداخل من الشرفة يؤدي إلى حجرة جلوس أخرى، أما الباب الثالث المواجه لباب الشرفة فيؤدي إلى صالة أخرى بها باب غرفة في أقصى يسارها كانت لا تخلو من ضيف يُقيم فيها إقامة كاملة قد يكون أحد أقربائنا، أو أحد المقربين لأبي من غزالة أو من غيرها. والعجيب أن بيتنا لم يخلُ قط من هذا النوع من الضيوف سواء كان هذا في البيت، أو في بيتنا الآخر الذي انتقلنا إليه في العباسية في أول يناير سنة ١٩٣٩م، وفي وسط هذه الصالة باب آخر يؤدي إلى السلم الصاعد إلى أعلى، ولم يكن سلمًا فخمًا، وإنما كان من الحجر العادي.
وفي فناء البيت وفي مواجهة الداخل إليه بابان؛ أحدهما كان يصل إلى سلم رخامي، وهو المخصص للحريم، وكانت والدتي وزائراتها يدخلن منه دائمًا. أما الباب الآخر فقد كان يؤدي إلى البدروم، وكان متسع الأرجاء بصورة عجيبة؛ حتى إن عمي محمود أخا أبي أقام فيه مصنع صابون جعل رائحته كلها تعبق بالصابون، وكان الخدم وعائلاتهم وأبناؤهم يقيمون جميعًا في هذا البدروم، وكان به المطبخ أيضًا.
حين ارتأى أبي أنه ينبغي لي أن أذهب إلى المدرسة اختار المدرسة الأولية الملاصقة لبيتنا، وفي أول يوم ذهبت إليها صحبني محمد أبو عثمان، وهو نوع عجيب من الخدم أطال الله عمره؛ فقد كان يقوم بكل الأعمال، وكان في نفس الوقت لا يعمل شيئًا، كان يطبخ إذا غاب أخو زوجته محمد عبوَّة الطباخ، والواو مشددة في تخفيف. وكان يسوق إذا غاب رجب السائق، وكان يساعد عم أحمد في ري الحديقة وفي التخديم على الضيوف، وكان يذهب لشراء الأشياء، وكان يلاعبني ويحكي لي الحكايات التي كنت مغرمًا بها غرامًا جائحًا. وكنت حريصًا ألا أفارقه من أجل هذه الحكايات، ولما رأت والدتي أنني أصبحت حجته التي يعتذر بها عن عدم العمل أحضرت من البلد إبراهيم ليرافقني، ولإبراهيم هذا قصة طويلة معي لم تنتهِ بعد حتى اليوم؛ فهو الآن طباخ عندي يتقاضى مرتبه، ولا يأتي إلا عندما يحلو له.
ذهبت إلى المدرسة في أول يوم، وأنا لا أدري ماذا تخبئ لي المدرسة؛ فقد كنت أظن أنني سأذهب إليها مع محمد أبو عثمان بعض الوقت، ثم نعود سويًّا دون أن نفترق، ولكنني فوجئت بمحمد يسلمني الحقيبة عند باب المدرسة، ويهم بالعودة إلى المنزل. وما إن استقر هذا في نفسي حتى صرخت صرخة احتجاج عريضة مصرًّا أن يظل محمد معي، وأقبل المدرسون والناظر وواجهتهم المشكلة. وأمر الناظر مضطرًّا أن يدخل محمد معي إلى المدرسة، ودخل المدرسة. وحين ذهبت إلى الفصل أصررت أن يصحبني إليه، وصحبني ولم أفهم شيئًا من الدرس؛ فقد كان نظري كله منصبًّا على محمد الواقف على باب الفصل داخل الفصل.
قبِل الناظر هذا الاستثناء يومًا ويومًا، ثم أمر محمد أن ينصرف، وبكيت وصرخت، فلم يأبه أحد ببكائي، ورأيت آخر الأمر أن أرضخ للأمر الواقع، وخفَّف الوحدة عليَّ أن أبي ووالدتي كانا يطلان عليَّ من حجرة الطعام بالدور الأعلى، ويلوحان لي فرحين أنني أصبحت تلميذًا في المدرسة.
أذكر أنني لم أستمر طويلًا بهذه المدرسة، فنُقلت إلى مدرسة المنيرة بروضة الأطفال بها، وفي هذه المدرسة بدأت مشوار الدراسة الذي سار فيه من قبلي وتسير فيه البشرية حتى الآن، والذي أحسب أنها لن تنتهي من السير فيه.
وربما كان الطريف أنني منذ سنواتٍ قريبة دُعيت من ناظر إحدى المدارس الابتدائية لأجلس في ندوة مع التلاميذ، وذهبت إلى المدرسة في العنوان الذي أُنبِئت به، وكم فوجئت وكم فرحت حين وجدت نفسي ضيف ندوة في المدرسة التي كنت تلميذًا فيها بروضة الأطفال.
لم أعد في حاجة لإبراهيم الذي جاء من غزالة لصحبتي، فدخل هو إلى المطبخ ليتعلم الطهي، ولكنه لم ينسَ أنه جاء من أجلي؛ فكان يلازمني بعد انتهاء عمله هو في المطبخ وعملي أنا في المدرسة.
وعرف الطريق إلى سينما الأهلي، وعرفت الحلقات التي كانت تقدمها السينما لتومكس وإخوانه من رعاة البقر، وهمس في أذني أن نذهب معًا أثناء نوم أبي. وكان أبي يرغبني أن أنام معه في القيلولة، فكنت دائمًا أتسحب وأنزل إلى الملعب، ويعلم الله أنه كان يحس بي ويتظاهر بالنوم. وقد أورثني هذا كرهي لنومة القيلولة، حتى أرغمتني عليها السنون، فأصبحت أدمنها بعد كراهية، ولا أتحمل العمل بعد الظهر إلا إذا أخذت نصيبًا مهما يكن ضئيلًا من النوم.
ذهبت مع إبراهيم إلى سينما الأهلي، ولكن كان العائق الأكبر يتمثل في حصولي على قرش صاغ ثمن التذكرة الثانية في الدرجة الثالثة في الصالة؛ فقد كان مصروفي قرشًا في اليوم، وكنت في سائر أيام الأسبوع أنفقه في «كنتين» المدرسة، أو في أي مصروفٍ آخر. أما في يوم الخميس فقد كنت أبقي على القرش، لا أنفق منه مليمًا، ثم أروح أفكر في الوسيلة التي أستنبت بها قرشًا آخر لنشتري التذكرتين، ولم يكن الأمر يسيرًا، ولكنني كنت أوفَّق دائمًا وأحصل على القرش.
أفادتني دراستي مع الحاج أحمد القرعيش في مدرسة الروضة حتى رأت المدرسة في آخر العام أن تنقلني إلى السنة الثالثة مباشرةً دون أن أمر بالسنة الثانية.
وذهبت بعد ذلك إلى مدرسة المنيرة الابتدائية، وكان ناظرها فهمي بك الكيلاني، وكان من أعظم الناس الذين عرفتهم، وبدأت في هذه السن هوايتي لقراءة القصص، وكانت هناك مجموعات من قصص الأطفال، مثل «قصتي» وغيرها، ولكن حدث في هذه السنوات أن بدأ الأستاذ كامل كيلاني يكتب مكتبته للأطفال، وكان صديقًا مقرَّبًا إلى أبي غاية القُرب، وقد كان من كبار أدباء عصره، وكان من أحفظ الناس للشعر القديم كله منذ الجاهلية إلى العصر الحديث.
وبدأ يُهدي إلى أبي كتبه، ولم يكن يعطيه كتابًا واحدًا أو اثنين، وإنما كان يهديه عدة كتب قد تصل إلى ثمانية أو عشرة، وكنت أدخل إلى حجرتي وأغلق الباب بالمفتاح، ولا أخرج حتى أنتهي من كل الكتب التي أهداها الأستاذ الكيلاني إلى أبي. ومن هذه الكتب عرفت حكايات ألف ليلة وليلة كلها، وعرفت روايات شكسبير مبسطة، وعرفت روبن صن كروزو وحي بن يقظان، وحين كنت في العاشرة كنت أقرأ توفيق الحكيم وطه حسين والمازني، ووجدت نفسي بعد ذلك أقرأ الأدب الكبير كله في سهولة لا مثيل لها.
وكان أبي معجبًا بشوقي غاية الإعجاب فقرأت رواياته، وأذكر أنني وأنا أنتظر نتيجة الشهادة الابتدائية قرأت مجنون ليلى ثلاث عشرة مرة متتالية.
وكنت سريع الحفظ لدرجة أنه حدث مرة وأنا في السنة الثانية الابتدائية أن كتب أستاذنا الفاضل العظيم الوقور محمود الشيباني قصيدة من عشرة أبيات على السبورة، والتفت إلينا وسأل: «من يقرأ هذه الأبيات؟»
فرفعت أصبعي، فأشار إليَّ أن أقف لأقرأ الأبيات، فإذا بي أستدير إلى الحائط، وأولي السبورة ظهري، وألقي الأبيات جميعًا، وإذا بالفصل يصفق دون أن يأمره بذلك الأستاذ الشيباني، وحين انتهى التصفيق قال الأستاذ الشيباني: «ماذا أقول لك يا بني، ابن الوز عوام.»
وقد فعلت ما فعلت، وأنا أحسب أنني أصنع شيئًا طبيعيًّا لا غرابة فيه، حتى لقد فوجئت بتصفيق الفصل وإعجاب الأستاذ، وقد كان مطلع هذه القصيدة:
وأذكر أن أبي في هذه الأيام كان دائم الاجتماعات في مكتبه بالبيت بأشخاصٍ لا أعرفهم، وإنما عرفت أنهم يعدون لإقامة ذكرى وفاة حافظ إبراهيم، وعرفت أن الاحتفال بهذه الذكرى سيستمر لمدة ثلاثة أيام بدار الأوبرا المصرية، وحدث أن دخلت إلى مكتب أبي وهو في اجتماع من هذه الاجتماعات، فقال لي مداعبًا: «أنشد لنا شيئًا من محفوظاتك في المدرسة.»
فأنشدت هذه القصيدة، وما إن فرغت منها حتى قال أحد الجالسين: «رفع الله رأسك يا بني كما رفعت رأسي.» وإذا به الأستاذ محمد الهراوي مؤلف القصيدة.
وأذكر أنني حضرت الحفلات الثلاث التي أُقيمت بدار الأوبرا، وما زلت أذكر المازني وهو يترك المنبر إلى مقدمة المسرح، ويقول: «أشهد الله والحق أنني والعقاد قد حاولنا أن نهدم شوقي وحافظ؛ لننال منهما، ولنقف على أنقاضهما، فلم ننل إلا من الحق ومن أنفسنا.»
وفي نهاية الأيام الثلاثة كان محمد محمود باشا حاضرًا في المقصورة التالية لمقصورة الملك بدار الأوبرا، وما إن انتهت الحفلة حتى قامت مظاهرة ضخمة تهتف باسم محمد محمود باشا، وترفعه إلى الأعناق، وكان رئيس الوزارة في ذلك الحين هو النحاس باشا.
وقد أدركت بعد ذلك أن هذه المظاهرة كانت جزءًا من تدبير سياسي محكم أدى إلى سقوط وزارة النحاس باشا، وتولَّى محمد باشا محمود رياسة الوزارة، وكانت أول وزارة تشترك فيها الهيئة السعدية برئاسة أحمد ماهر باشا. ومع أن أبي كان سكرتير عام حزب الأحرار الدستوريين، إلا أنه لم يشترك في الوزارة عند تأليفها. وقد حدث أمر يستحق أن يُروى في أثناء وجود هذه الوزارة، فقد تولى أبي تنظيم الترشيحات لمجلس النواب بوصفه سكرتير عام الحزب الحاكم، فكان ينسق بين الأحرار الدستوريين وبين السعديين. وحدث أن طلبه حسن صبري باشا، وكان في ذلك الحين وزيرًا في الوزارة ومقربًا جدًّا عند الإنجليز، وطلب حسن صبري من أبي أن يرشح اسمًا ذكره في إحدى الدوائر، ولكن أبي اعتذر عن عدم ترشيحه؛ لأن الدائرة التي ذكرها حسن صبري كان مرشحًا بها أحد السعديين، وكان متقدمًا إليها حر دستوري من تلقاء نفسه، فوضعها لا يسمح بأن ترشح فيها الوزارة أحدًا، فإذا حسن صبري يقول لأبي: «أتناقشني؟»
فكان من الطبيعي أن يضع أبي سماعة التليفون في وجهه، وينهي المكالمة.
وحدث بعد ذلك أن خلا منصب وزير الزراعة، وكان مجلس الوزراء مجتمعًا برئاسة محمد محمود، فإذا به ينظر إلى ساعته، ويقول للوزراء: «سأضطر أن أُنهي الجلسة؛ لأني على موعد مع الملك لأوقع مرسوم وزير الزراعة.»
وسأله الوزراء عمن اختاره للوزارة، فقال لهم: «لقد اخترت للوزارة جوهرة فريدة.»
قالوا: «من؟»
قال: «دسوقي أباظة.»
فرحبوا جميعًا، وإذا حسن صبري يقول: «إذا دخل دسوقي أباظة الوزارة من هذا الباب، سأخرج أنا من هذا الباب.»
ولم يدخل أبي الوزارة مع محمد محمود قط.
ولم يكن عجيبًا ألا يختار حسن صبري أبي للوزارة، ولكن العجيب أن أبي ظل طوال فترة وزارة حسن صبري يمتدح حسن صبري لنا نحن أبناءه وأهل بيته، ولم يعارضه قط في البرلمان. فأنا لم أرَ في حياتي شخصًا يفصل بين المشاعر الشخصية والرأي والمصلحة العامة مثل أبي. وتشاء الأيام أن يجني حسن صبري باشا على أبي حيًّا وميتًا؛ فقد حدث أن رشَّح حزب الأحرار أبي لرئاسة مجلس النواب عن الأحرار الدستوريين في حين رشحت الهيئة السعدية أحمد باشا ماهر، وكان الحزبان قد اختلفا، وخرجت الهيئة السعدية من الوزارة، ولم يُحَل مجلس النواب مع ذلك. وكان الخلاف بين الحزبين سببه ما ارتآه أحمد باشا ماهر في ذلك الوقت من وجوب دخول مصر الحرب في ذلك الحين، حتى يكون ذلك مبررًا لها أن تطالب بالاستقلال بعد نهاية الحرب، ورأى حزب الأحرار — وكان محقًّا يومذاك — أن النصر ليس مؤكدًا للحلفاء، وأنه يجب أن تجنب الحكومة مصر ويلات الحرب، وخاصةً أن الإنجليز لا أمان لهم، وليس من الحتم أن يستجيبوا لمطالب مصر، حتى إذا انتصروا. وكان هذا الاختلاف في عام ١٩٤١م. وكان من المرجح جدًّا أن يتغلب أبي على أحمد ماهر باشا في معركة رئاسة مجلس النواب، ولهذا لم ندهش كثيرًا حين كنا جالسين في حجرة مكتب أبي بالعباسية، وإذا بنا نجد الباب يُفتح فجأةً ونرى شخصًا أنيقًا واقفًا في لحظة وسط الحجرة، وكأنه نبت من الأرض، وهو يقول بصوت جهوري غاية في الأدب: «دولة رئيس الوزراء.»
وكانت سرعة ميشيل سويرس تشريفاتي رئيس الوزراء لم تُتِح لأحدٍ منا أن يقف ليرحب به، فكنا جميعًا جلوسًا وظللنا جلوسًا نستوعب المفاجأة إلا أبي الذي مرن على هذه المواقف لطول ممارسته لها؛ فقد قام من فوره وقصد إلى البهو الخارجي، واستقبل حسن باشا صبري، وسمعنا أبي يقول: «أهلا دولة الرئيس.»
وسمعنا أيضًا حسن باشا صبري يقول: «أهلًا برئيسنا العظيم.»
ودخلا معًا إلى حجرة الاستقبال الكبيرة الملاصقة لحجرة المكتب، وفرغنا نحن إلى ميشيل سويرس نرحب به، ولم يكن أحد من الجالسين يعرفه.
كانت هذه الزيارة في الليلة السابقة مباشرة على انتخابات الرئاسة في مجلس النواب، ولكن الأقدار لم تشأ لهذه الانتخابات أن تتم في موعدها؛ لسبب لم يحدث في تاريخ مصر؛ فقد شاء الله في علياء سمائه أن يختار عبده حسن صبري رئيس مجلس وزراء مصر، وهو يلقي خطبة العرش التي تسبق الانتخابات، ويؤلف الوزارة حسين سري، وكان رشوان محفوظ وهو من كبار أعيان الصعيد ومن الوزراء السابقين للأحرار الدستوريين يطمع أن يدخل الوزارة، ولكن حسين سري لم يختره، فإذا به يغضب من الحزب، وينسلخ مع خمسة عشر عضوًا عن انتخاب مرشح الحزب في رئاسة المجلس مع حبه الصادق لأبي، وهكذا لا يصل أبي إلى رئاسة مجلس النواب بسبب حسن صبري، وإن كان في هذه المرة سببًا صنعته السماء لحكمة يعلمها الواحد العليم، وكان حسن صبري أداة لا اختيار لها.
وفي تعديل وزاري أصبح أبي وزيرًا لوزارة الشئون الاجتماعية في وزارة حسين سري، وكان هذا في ٢٦ يوليو عام ١٩٤١م.
ومن الطريف الذي أذكره في هذه الأيام أن النادي الأهلي بالزقازيق أعلن أنه سيقيم حفل تكريم لأبي بمناسبة توليه الوزارة، وقبيل اليوم المحدد للتكريم استقالت الوزارة، ولم يكن قد مر على تولي أبي منصبه شهر واحد، ولكن حدث أن سعى الساعون لإعادة التفاهم بين حزب الأحرار الدستوريين والحزب السعدي، ونجح المسعى، وكان لا بدَّ أن يشترك الحزب السعدي في الوزارة. وكان الأحرار الدستوريون ممثلين في الوزارة بسبعة وزراء، كان لا بد أن يصبحوا أربعة ليجد السعديون وزارات لممثليهم في الوزارة، وظلت الوزارة تُؤلَّف إلى اليوم المحدد لإقامة حفلة التكريم في الزقازيق.
ولم يذهب أبي إلى حفلة التكريم، وكيف كان يمكن أن يذهب وهو لا يعرف إن كان سيظل وزيرًا أم سيخرج مع الخارجين.
ولم أذهب أنا أيضًا إلى الحفلة طبعًا، وذهبت إلى كازينو أوبرا، وأذكر أنني طلبت جيلاتي وأصابني بتسمم.
وقبل أن تبدأ بوادر التسمم كان أبي نائمًا، ودق جرس التليفون بالدور الأعلى من منزلنا وأجبت أنا وطالعَ أذني صوت حاد: «معالي الوزير موجود؟»
قلت: «هو نائم، من يريده؟»
قال: «أدخل له التليفون إذا سمحت، دولة رئيس الوزراء يريده.»
وعاد أبي إلى الوزارة، ولكنه لم يحضر حفل التكريم الذي أُقيم له في الزقازيق؛ فقد أبى المحتفلون إلا أن يستمروا في التكريم بقي أبي في الوزارة أم لم.
هذه الوزارة بقيت حتى وقعت أحداث ٤ فبراير سنة ١٩٤٢م، وبطبيعة الحال كان أبي على علم بكل ما وقع في ذلك اليوم المشئوم، وفي يوم ٥ فبراير كنت أركب مع أبي سيارته الخاصة بعد أن صرف سيارة الوزارة، ولم تكن آثار ٤ فبراير قد ظهرت بعد، ولا يعرف أحد أي أثر سيكون لها على الشعب والرأي العام كما إن أحدًا بطبيعة الحال لم يكن يدري بماذا سيدافع النحاس باشا عن هذا الذي حدث. وعن تلك الوصمة العريضة في جبين الوفد الذي اكتسب اسمه لمعارضة الإنجليز وإخراجهم من مصر.
وكنت في سني الخضراء في ذلك الوقت أتصور أن الدفاع مستحيل، وأن النحاس باشا وأنصاره لن يجدوا ما يقولونه لتبرير خيانتهم لثقة الشعب، وسألت أبي في سذاجة: «ماذا سيقول النحاس باشا للشعب؟»
وفي عبقرية السياسي المحنك الخبير بأخلاق الوفد وخداعه للحق، قال أبي دون ريث تفكير: «سيقول أنقذنا العرش، وحمينا البلاد من الفتنة، وحافظنا على سيادة الوطن وكرامته.»
وكأنما كان النحاس باشا معنا في السيارة، فقد فوجئت بأحاديثه لا تخرج عما قاله أبي في شيء، وفوجئت بأنصاره يصدقونه، وذهلت لهم وهم يرفعون «مايلز لمبسون» السفير البريطاني بطل الاعتداء المشين على أكتافهم يهتفون له، ويهللون ويصرخون بحياته.
لقد كانوا يهتفون لمن أتاح لهم الحكم يستغلونه ويمرحون في هناءته ومكاسبه، ولتذهب مصر، وليذهب رمز مصر، ولتذهب كرامتها إلى أي جحيمٍ تشاء.
وفي ظل هذا الحكم بدأ النحاس باشا اعتقالاته، وحدثت الفُرقة والخصومة بينه وبين مكرم باشا عبيد، وظهر الكتاب الأسود، وكانت عندنا منه كميات كبيرة. وقدَّم أبي في مجلس النواب استجوابًا عن الاعتقالات، وأعتقد أن دخول أبي إلى المجلس قصة لا بد أن تُروى؛ فقد قرَّر حزب الأحرار أن ينتدب أبي وأحمد باشا عبد الغفار لمفاوضة النحاس باشا، وليتعرفا منه كيف ستُدار الانتخابات، وذهبا إليه، فقال لهما: «للحزب أن يدخل إلى الانتخابات، ولكن يُمنع المرشحون من الكلام عن حادثة ٤ فبراير، كما يُمنعون من مهاجمة الإنجليز، كما يُمنعون من مهاجمة السيدة حرمي. ولهم بعد ذلك أن يقولوا ما يشاءون في دعايتهم الانتخابية.»
وإذا بأحمد باشا عبد الغفار يصيح برئيس الوزارة: «ماذا يمكن أن نقول لمرشح الوفد بعد ذلك؟ أنقول له وشي أحلى من وشك أم نقول له أبويا أحسن من أبوك؟!»
وانصرف أبي وأحمد باشا، وسمعنا أن النحاس باشا قصَّ على الهيئة الوفدية أمر هذا اللقاء قائلًا لهم: «جاءني معالي الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظة والولد أحمد عبد الغفار.»
وكان أبي في ذلك الحين لا يحمل رتبة الباشوية، بينما كان أحمد باشا يحمل الرتبة، ولكن النحاس باشا استبدل بها لقب ولد.
امتنع الحزب عن دخول الانتخابات، وارتأى أبي باتفاق مع الحزب أن يرشح في دائرته عمي عبد الله فكري أباظة الذي كان سكرتيرًا عامًّا لوزارة التجارة في ذلك الحين، ثم وكيلًا. ودخل عمي الانتخابات مستقلًّا ونجح، وكان الدستور ينص على أن النائب الموظف عليه أن يختار بين الوظيفة والنيابة في مدة أقصاها ثلاثة شهور. واختار عمي عبد الله الوظيفة في المدة المحددة، وأعلن عن خلو الدائرة، وتقدم أبي للترشيح ورشح الوفد مرشحه الذي كان يرشحه دائمًا في دائرتنا، وكانت الانتخابات معركة حربية طاحنة صنع فيها الوفد كل ما يستطيع لإسقاط أبي حتى إذا يئس فكَّر أن يستولي على الصناديق ويغيرها، فإذا بشباب الأسرة الأباظية يبيتون فوق الصناديق وعلى رءوسهم السلاح، وقضى عمي عبد الله فكري ليلته في بيتٍ ملاصق لمقر الفرز، ومن أحداث هذه الانتخابات ضُرب فكري أباظة باشا الكاتب الأشهر، وفُتحت يده بجرحٍ كبير ظلت آثاره باقية حتى اختاره الله إلى جواره.
ونجح أبي في الانتخابات وتقدم باستجواب عن المعتقلات، وفي يوم نظر الاستجواب اعتقلت حكومة النحاس باشا مكرم باشا عبيد. ووقف أبي في المجلس، وقال إن الحكومة تتحدى الشعب ومجلس النواب، وتعتقل مكرم باشا في نفس اليوم المحدد لنظر الاستجواب الخاص بالمعتقلات، وأنا أعلن هنا أننا متضامنون مع مكرم باشا في كل ما فعل أو قال، وللحكومة أن تعتقلنا نحن أيضًا؛ لأننا شركاء مع مكرم، ولتفعل بنا القوة الغاشمة ما تشاء.
وأذكر أنني في ذلك اليوم كنت في البيت أتلقى درسًا خاصًّا في اللغة الإنجليزية على يد أستاذي الذي كان متوليًا الإشراف على دراستي في كل العلوم الأستاذ لويس مرقص الذي أصبح فيما بعد الدكتور لويس مرقص، وأصبح رئيس قسم اللغة الإنجليزية في الجامعة، ودخل أبي إلينا، وروى لنا ما كان من أمر جلسة مجلس النواب، ثم نادى أحمد بخيت وأمره أن ينقل نُسخ الكتاب الأسود والمنشورات الأخرى إلى بيت ابن عمه الأصغر الضابط عمر أباظة، ويتركها عند السيدة الجليلة والدته، وكان مجاورًا لبيتنا في العباسية. ونفَّذ أحمد بخيت الأمر بحذافيره، ولم يبقَ في بيتنا ورقة يمكن أن يجعلوا منها حجةً ولو واهية للقبض على أبي.
وحدث ما توقَّعه أبي، وتم تفتيش بيتنا بعد الساعة الثانية صباحًا من نفس اليوم، ولم يتركوا ركنًا إلا أعملوا فيه أيديهم، حتى حقيبة أختي الصغرى التي أصبحت جدة الآن. فتشوها واستيقظت الطفلة التي لم تكن تتجاوز الخامسة من عمرها، ولكن العجيب أن أختي حين استيقظت ورأتهم يعبثون بحقيبتها نظرت إلى أبي وراحت تقهقه بالضحك، وتقول لأبي: «بابا دول بيفتشوا شنطتي، بص!»
وضحك أبي وسرَّى عنها.
ولكن ينبغي لي أن أشهد أن أبي قال لرئيس حملة التفتيش في حسم: «لكم أن تفتشوا ما تشاءون، ولكنكم لن تدخلوا الحجرة التي بها السيدات في البيت. فإذا فرغتم من تفتيش حجرة انتقل إليها السيدات وتقومون أنتم بتفتيش الحجرة التي كن يشغلنها.» وقبل الضابط رئيس الحملة، حفاظًا على كرامة البيت، فإذا قارنا هذا بما كان يجري بعد ذلك اعتداء على الحرمات لوجدنا أن حكم الطغاة في العهد الديمقراطي لم يتخلَّ عن إنسانيته وعن تقديره لكرامة البيوت.