الكتب
فقبل ذلك اتصلت أسبابي بالشاعر الكبير والد زوجتي عزيز باشا، وقد يعجب القارئ من قولي اتصلت أسبابي، وكأنني لم أكن أعرفه، والقارئ محق إذا عجب. لقد كانت صلتي به وثيقة منذ وُلدت بطبيعة الحال، ولكن هناك فرق أن يعرفني كابن لأبي وبين أن يعرفني كواحد من هواة الأدب، والأسرة الأباظية كثيرة العدد، وهكذا لا يمكن أن تكون صلة البيوت بعضها ببعض على درجةٍ واحدة، ولكن صلة بيتنا ببيت عمي عزيز باشا كانت من أوثق الصلات، فزوجته وأمي كانتا صديقتَين لصيقتَين، وكانت صلة عمي عزيز بأبي صلة أخ أصغر بأخٍ أكبر يحبه ويقدِّره غاية التقدير. وربما كان من الطريف أن أنقل هنا قصيدة كتبها عزيز باشا، وهو بعدُ طالبٌ بكلية الحقوق عام ١٩٢٤م يُهنئ فيها أبي بمناسبة زواجه من والدتي وهي في نفس الوقت ابنة عم أبي. ولم يكن يقع في حسبان عزيز أباظة أن هذا الزواج سيثمر من سيصبح فيما بعد زوجًا لصُغرى ابنتَيه. يقول عزيز أباظة الطالب بكلية الحقوق:
وقد ظلت هذه العلاقة عائلية، وكنا نحن الأبناء نتسامع بشعر عمنا عزيز، ولكن لم يكن له عمل شعري متكامل، وكان تصورنا أنه مجرد هاوٍ يقول الشعر في المناسبات العائلية الظريفة يُحيِّي بها أقاربه، حتى فجعه الدهر، وفجعنا جميعًا بوفاة السيدة زوجته التي عاشت ما عاشت من عمر شعاعًا من نور وحب على كل أقربائها. ما اختلفت يومًا مع أحد، ولم نسمع عنها نحن الذين في عُمر أبنائها إلا المديح والثناء، ومثلنا نحن الأطفال يسمع ما لا يسمعه الكبار، فالسيدات لا يتحرجن أن يذكرن غيرهن بصراحةٍ أمامنا، وأُشهد الله ما رأيت من هذه السيدة إلا سماحة في اللقاء، وإشراقًا في التحية وترحيبًا في الاستقبال. وما سمعت عنها من سيدة في الأسرة إلا ما يجعلها في مرتبةٍ رفيعةٍ من الإنسانية، فكأنما كانت بينهن مَلاكًا لا يصنع إلا النور، ولا يشيع إلا الرضا والإيناس والطمأنينة.
وتفجَّر ينبوع الشعر في إهداء زوجها الشاعر الأصيل الذي كان قبل وفاتها لا يجد ما يقول فيه، وشاء القدر أن يكون الألم المرير والفجيعة القاصمة وشجرته التي اجتاحها القدر هي التفجير لموهبته الشامخة، فكان ديوانه الأول أنَّات حائرة الذي أصعده شهابًا في سماء الشعر العربي دون أيِّ تمهيد عند من لا يعرفونه، ثم كان بعد ذلك عزيز أباظة ثاني اثنين في ميدان المسرح الشعري، وآخر العمالقة في جيل شوقي وحافظ ومطران.
حدث أن قرأت له محاضرة يقول فيها: «والنصائح هي أثقل الطيبات على النفوس.» وأعجبتني العبارة واستعملتها في مقالةٍ لي نُشرت بجريدة الثقافة وقرأها عمي عزيز، وكأنما عجب أن يقول فتًى يافع في عمر ابنته ما قاله هو، وفوجئت به يطلبني في البيت يُبدي إعجابه بالمقالة، فقلت له: «إن أهم ما فيها العبارة التي اقتبستها منك.» وتعجب أن أكون قد حصلت على المحاضرة، فقلت له: «إنها طُبعت، وجاءني منها نسخة.» وبدأت بيني وبين عمي عزيز علاقة أدبية هي علاقة شاب بأبيه وعلاقة معجب بعملاق. وكان عمي عزيز مديرًا لأسيوط ذلك الحين، فكنت أنا أقوم بالإشراف على طبع رواياته في القاهرة كما قمت بتصحيح اللغة العربية للممثلين في مسرحياته، ومع الأيام كانت العلاقة تتوطد، زادها قوة حب عارم نشأ في قلبي لابنته عفاف.
نوع عجيب من الحب؛ فهو جارف عنيف مندفع متدفق وهو في نفس الوقت بعيد عن اللوعة والأسى والخوف والسهر والوجد، وأحسب أن قليلًا من الناس نعموا بهذا الحب. وإني واثق أن الندرة من الناس نعموا بما نعمت به من أعقاب هذا الحب الذي أصبح زواجًا، وأصبح الزوجان فيه فردًا لا اثنين. كلٌّ منا يسعد للآخر أكثر آلاف المرات مما يسعد لنفسه، وكانت ابنتي ونور عيني وإشراقة نفسي ابنتي أمينة، وكان ابني ونور أيامي وشعاع طريقي دسوقي.
وفي يوم سافر عمي عزيز إلى الخارج، وعهد إليَّ أن أضبط الشكل على قواعد النحو مع المخرج العظيم فتُّوح نشاطي الذي كان بسبيله إلى إخراج رواية غروب الأندلس. وتوثَّقت صلتي منذ ذلك اليوم بالأستاذ فتوح نشاطي. وكنت في ذلك الحين قد بدأت أكتب تمثيلياتي الإذاعية بناءً على دعوة من الأستاذ علي الراعي؛ فقد لقيته في ترام العباسية، وعرفت منه أنه سيسافر بعد بضعة شهور إلى لندن ليحصل على الدكتوراه، وأبدى الأستاذ الراعي الذي أصبح فيما بعد الدكتور علي الراعي إعجابه بالمقالات التي يقرؤها لي في الثقافة والرسالة وخصَّ بإعجابه لغة الحوار؛ مما حدا به أن يدعوني أن أكتب تمثيليات إذاعية، وأُشهد الله أنني لولا هذه الدعوة من الدكتور الراعي ما فكرت مطلقًا في كتابة تمثيليات للإذاعة.
وكنت حين اتصلت أسبابي بالأستاذ فتوح قد كتبت عدة تمثيليات مما جعله يعرض عليَّ أن أشترك في كتابة مسرحية عن الصداقة التاريخية بين المعتمد بن عباد الأندلسي ووزيره ابن عمار، وطلب إلَّي أن أقرأ تاريخ الأندلس للعلامة دوزي، وكان الأستاذ كامل كيلاني قد ترجمه إلى العربية.
وقرأت الكتاب وكتبنا المسرحية معًا، ولكنني أنا وضعت عيني على شخصية ابن عمار كنموذج درامي قلَّ أن يتكرر.
أما مصير المسرحية فقضى عليه الأستاذ يوسف وهبي برفضه لها رفضًا قاطعًا، وأنا الآن وقد بعُد العهد بيني وبينها لا أدري هل رفضها لأنها تستحق الرفض أم لأسبابٍ أخرى؟
ولم تمضِ إلا شهور قليلة، حتى فجعني الدهر بموت أبي، وكانت ضربة قاصمة بالنسبة لي؛ فلم يكن مجرد أب أو مثل أعلى أو شخصية أسطورية أو حياة كاملة بالنسبة لي، وإنما كان هذا جميعًا وأكثر.
وفي نفس الفترة فُجعت بوفاة طفلي الأول وهو جنين، وأصبحت حياتي ظلامًا قاتمًا.
وكنت في ذلك الحين أعمل بالمحاماة، ولكنه كان عملًا غير منتظم. فالمحاماة في ظل الحكم القاهر الشمولي لا حياة لها.
وكنت أحب أن أبدأ حياتي بوظيفة، وقد حصلت على شهادة الحقوق، وأنا زوج، وطلبت إلى أبي أن يوصي بي صديقه اللصيق د. حافظ عفيفي باشا الذي كان رئيس مجلس إدارة بنك مصر، فقال في حسم: «أتنتظر مني أن أرفع سماعة التليفون، وأطلب من أي شخص أن يُعيِّن لي ابني؟»
وصمت، وأدركت كيف لرجلٍ عاش عمره مقصد الرجاء للناس أن يرجو هو الناس من أجل ابنه الذي هو ابنه، وهكذا لم أشغل وظيفة جديرة بهذا الاسم إلا بعد ذلك بربع قرن، حين اختارني الزعيم الخالد أنور السادات رئيسًا لمجلس إدارة مجلة الإذاعة والتليفزيون.
وهكذا كانت سنة ١٩٥٣م سنة من أعظم السنوات بلاءً بالنسبة لي، وأي بلاءٍ يمكن أن يحيط بإنسان أكثر من أن يفقد أعظم إنسان في حياته وأحب إنسان إليه.
وهو من قبلُ ومن بعدُ أبوه. ويفقد في نفس الفترة أول طفل قبل موعد ولادته بأيام، ولا يجد ما يُنسيه بلواه، وقد تعددت أشكال بلواه. فهو في نفس الوقت ليس له عمل ثابت يستطيع وهو يؤديه أن ينسى شيئًا مما يتكدس في حناياه من أحزان.
في هذه الأيام بدأت كتابة رواية ابن عمار، وكان كل أملي وأنا أكتبها أن أجد لها ناشرًا. وحين انتهيت منها توجهت إلى الأستاذ عادل الغضبان المشرف على النشر في دار المعارف، وكنت أعرفه من قبل. وكان يقرأ ما أكتبه في الجرائد؛ فقد كنت في ذلك الحين أكتب في جريدة المصري بصورة منتظمة؛ فقد كان لي عمود أسبوعي في الصفحة الأخيرة بعنوان «أضواء». وكان صديقي عبد الرحمن فهمي رئيس القسم الرياضي بجريدة الجمهورية الآن زميلًا لي في كلية الحقوق، وكان آل أبي الفتح أخواله، وهكذا أصبح لي عمود ثابت في جريدة المصري، وكنت أكتب بشكل غير منتظم في كثيرٍ من المجلات في ذلك الحين، وهكذا وجد الأستاذ الشاعر عادل الغضبان أن اسمي لن يكون غريبًا على القارئ إذا هو نشر الكتاب، ففعل.
كنت قد تعرفت بأستاذنا العظيم توفيق الحكيم في عام ٥٠، وسأروي لك كيف تم ذلك. حين ظهر كتابي «ابن عمار» أهديته إليه، فأُعجب به كل الإعجاب، وقال إنه يصلح سينما، وقال إنه كان يفرك الصفحة الأخيرة بأمل أن يجد صفحة أخرى. وملأني الزهو بهذا الرأي. وطبعًا أهديت نُسخًا من الكتاب للأصدقاء في جميع الجرائد والمجلات، وقد كانوا كثيرين وعجبت أن أحدًا منهم لم يذكر شيئًا عن الكتاب على الإطلاق، وكنت أجلس مع أستاذنا الحكيم في جروبي سليمان باشا، وشكوت له إهمال النقاد هذا، فقال: «إن الشهرة تأتي إليك إذا ذهبت إلى بار في أحد الكباريهات، واتفقت مع راقصة إما أن تصفعك قلمًا أو تصفعها قلمًا تصبح مشهورًا في لحظة. أما طريق الكتب هذا فطريق وعر وغير مضمون على الإطلاق.» فضحكت فأنا لم أجلس في حياتي إلى بار، ولا ذهبت عمري إلى كباريه. كما أنني لست أسعى إلى الشهرة ولا تعنيني، وإنما كنت أريد أن أكتب، وأحس أن هناك من يقرأ لي، وأقبل الصيف وكنت أجالس أستاذنا الحكيم في مقهى بترو وحدث أن ذهبت إلى المقهى مبكرًا بعض الشيء، فوجدت توفيق بك وحده. وما إن قعدت حتى التفت إليَّ وقال: «مبروك يا سيدي.»
وأحسست رنة عجيبة في صوته.
فقلت: «علامَ؟»
فقال: «قرروا كتابك على طلبة الإعدادية هذا العام.»
وكدت أطير من الفرح وسألته وأنا أحاول أن أخفي فرحي: «أين قرأت هذا؟»
فأعطاني جريدة الأخبار، فوجدت الخبر مكتوبًا في ركن أخي الأستاذ أنيس منصور، وتفضل الذي كتب الخبر، فوضع بعده علامة تعجب. وكأنما لم يكفِ الصحافة إهمالها بشأن الكتاب، وإنما راحت أيضًا تتعجب أن وزارة المعارف قررته على طلبتها في الإعدادية. وكم كان الأستاذ توفيق الحكيم خفيف الظل وظريفًا، وهو يقول في عفوية: «شوف ولاد الكلب ياخدوا كتابك ويسيبوا كتابي.»
وبتقرير كتابي «ابن عمار» تشجع أن ينشر لي روايتي «هارب من الأيام»، وقد نلت عليها جائزة الدولة التشجيعية في أول إنشائها، وكان لهذه الرواية قصة مع عميد الأجيال الدكتور طه حسين، وإني راويها لك إن شاء الله في مكانها الذي ستفرضه هي علي.