لعب الطاولة
ليس لي شغف بالألعاب، فإن حياتي كلها لعب: فما حاجتي إلى لعبة معينة على الخصوص. ولكن لي إخواناً ألقاهم في حيث ألفوا أن يكونوا — أي في القهوات — وليس من العدل أن أكرههم على أن يلقوني في حيث أحب أنا وأوثر ولأن ينتقل واحد إلى جمع أيسر من أن ينتقل جمع إلى واحد. ولست أعرف عملاً لرواد القهوات إلا أن ينظروا إلى المارة وهم مقبلون ومدبرون فإذا اتفق أن كانت الصفوف الأمامية مزدحمة ولا محل لطالب الجلوس إلا في الداخل، فماذا يمكن أن يكون علمه إلا قراءة الصحف — إذا كان وحده — أو تدخين «الشيشة» — أو كما تسمى أيضاً «الأرجيلة» و«النرجيلة» — ولعب الطاولة أو الشطرنج أو «الدومينو» فأما الشطرنج فيحتاج إلى عقل يكده اللاعب، وهو لم يجيء إلى القهوة ليتعب بل ليتسلى. وأما «الدومينو» فآفتها الحساب، فلم يبق إلى الطاولة يفتحها الصديقان ويقبلان عليها ليخرجا به امن الصمت الثقيل، وليختصرا الوقت الذي يريانه أطول من أن يحتمل وإن كانت شكواهما — كغيرهما — أن العمر في هذه الدنيا قصير، أو ليتقيا الحديث في أمر نافع أو جدي.
ولم أجد إلى الآن لاعباً للطاولة أستريح إلى منازلته وأفيد متعة من ملاعبته، فهذا واحد لا يحلو له أن يروي قصة حياته إلا وهو يلعب! وتكون قد حمست وكبر أملك في الفوز، فتضطر أن تضطجع وتصغي، أي أن تدع حماستك تفتر ودمك يبرد. وليته مع ذلك يقص حكايته ويفرغ منها فإن البلاء أنه يقطع الحديث ويقول لك: «دوري يا سيدي. شيش بيس.. خذ» ويلقي إليك حجراً «مضروباً» أو يضعه لك في كفك تأكيداً لاغتباطه بسوء حظك فتتمنى لو وسعك أن تقذف بالحجر.. فلا أنت سمعت القصة، ولا أنت مضيت في اللعب بالروح التي كانت مستولية عليك. وليس هذا لعباً وإنما هو.. هو.. لا أدري ماذا أسميه، أو كيف أصفه، فقل أنت فيه ما تشاء!
وثان لا يلاعبك إلا برهان، وهذا ضرب من القمار لا أطيقه، وقد حاول كثيرون من إخواني أن يعلموني لعب الورق فأخفقوا — أو أخفقت أنا على الأصح — وماذا عندي مما يمكن أن أقامر به غير حياتي؟ وأقول لصاحبي (هذا قمار فالعب بغير رهان) فيقول: (قمار؟ استغفر الله. هذه تسلية. زيادة تصلح بها روح اللعب، فيصبح أحمى وأمتع فأصر وأقول (كلا. إذا أردت اللعب فليكن بغير رهان) فلا ينهزم ويقول (قرش واحد!) فأقول: (ولا مليم) فيهز رأسه آسفاً ويقبل.
ونشرع في اللعب ويتفق أن يؤاتيه الحظ فيضيق علي الخناق ويعظم أمله في النصر فيميل على الطاولة ويقول «ما رأيك؟ هذا الدور لي أم لك؟» فأدير عيني في مواضع الحجارة فلا أرى داعياً لليأس فأقول «إني أرجو أن يكون الدور لي» فيقول «حسن.. تراهن؟» فأقول محتجاً «رجعنا؟ لا يا سيدي» فيقول «إذا كنت واثقاً من الفوز، فماذا يمنعك أن تراهن؟» فأقول «لست واثقاً.. ثم إن الأمر عندي مرجعه إلى كراهتي للقمار، لا للخوف من الخسارة «فيتنهد آسفاً على الفرصة التي أضعتها عليه ببلادتي وجمودي.
وثالث لا يترك الأمر للحظ كما هو الواجب في لعبة كهذه بل «يقرص كما يقولون — أي يسوي» «الزهر» واحداً فوق الآخر ثم يلقيهما برفق وتؤدة لتجيء الأعداد أو الأرقام التي يطلبها وهذا شيء لا يليق لأن مؤداه أن ملاعبك قد وثق من الفوز بالغة ما بلغت قدرتك ومهارتك وبراعتك في اللعب ولا أدري أية متعة يستفيدها المرء من «القرص» إلا إذا كانت المتعة هي التنغيص عليك.
وأعوذ بالله من لاعب لا يزال يحوجك إلى النهوض عن كرسيك لتبحث عن «الزهر» الذي قذف به لا تدري أين وتمضي دقائق في البحث والتحديق وأنت منحن — تحت الكراسي وبين أرجل الناس الذين لا تعرفهم. وكثيراً ما يتفق أن يكون «الزهر» الضائع في طية البنطلون. وليس بالنادر ألا تجده لا انت ولا صاحبك فتصفق ليجيئك عامل القهوة «بزهر» جديد. وقد يكون العامل سمجاً أو قليل العقل فيروح يبحث أولاً، وتنقضي دقائق أخرى وأنت تتبعه بعينك. ثم يجيء «الزهر» الجديد فيتناوله صاحبك — لأن هذا دوره — ويقلبه في كفيه ويقول «لا. هذا كبير.» أو لا هذا صغير «فيضيق صدرك وتقول» يا أخي العب. كله زهر وتستأنفان اللعب فتزهق روحك لأن صاحبك ممن يأبون إلا أن يقدروا كل احتمال، ويحسبوا كل حساب، ويحتاطوا لكل أمر، كأنما صار مصير العالم رهناً بهذه اللعبة، فينفد صبرك وتقول له «يا أخي العب» فيقول «حلمك يا سيدي.. بقى إن سحبنا هذا «القشاط»؟ من يدري؟ ربما ضربنا وعطلنا. طيب.. وإذا خرجنا فماذا يكون؟ والله هذا أحسن. أقول لك.. ننتظر ولا نخرج.. نسد عليه هنا.. لا والله.. الخروج أحسن.. لكن يمكن يساعده الحظ فماذا يكون العمل؟» وهكذا إلى غير نهاية.
وشر من هذا الذي يعقب على كل لعبة منك بالاستحسان أو الاستهجان ولا ينفك يقول لك «كان أولى أن تصنع كيت وكيت» فتقول «ومالك أنت؟ أنا المسئول عن لعبي وأنا الذي يخسر لا أنت» فيقول «لا يا سيدي، المسألة هي أن اللعب مع غير الحاذق لا لذة فيه».
وقد لا يكتفي بالتعليق والتعقيب، بل يحاول أن يلعب لك لعبك، ويردك عما تريد، أو ما تهم به، من تنقيل الحجارة على الوجه الذي يبدو لك، وينقلها هو لك على هواه وأولى بمثل هذا أن يلاعب نفسه، ولكن لذته هي أن يفرض عليك إرادته، مدعياً أن هذا هو ما يقضي به الفن، وأن الغيرة على الفن لا تسمح له بالتساهل، ويتركك تخلط وتغلط وتخالف الأصول.
وآه لو وقعت مع واحد من المبتدئين لا يزال يعد — ويشير أيضاً — بإصبعه في كل لعبة. وآه وآه وآه — ثلاث آهات طويلة يمتد بها النفس إلى الليلة التالية من المغالط الذي يدعي أن الرقم خمسة وأربعة، على حين رأيته بعينيك ثلاثة وستة. ويزعم أنه جاء بالحجر من هنا وهو قد جاء به من آخر الدنيا، وتراه «أكل» أربعة، فتنظر إليه عاتباً فيبتسم، ولا يتلعثم، ويرفع بين إصبعيه حجراً ويقول لك «والله ما أكلت إلا واحداً فقط» فلا تستطيع أن تقول له إنه كاذب ويعييك أن تدرك الباعث على هذه السرقة في لعبة يراد بها التسلية وتزجية الوقت ليس إلا.
وأحيانا يحلو لصاحبك أن يمازحك. ولكن أي مزاح فيتلف لك أعصابك ويطير عقلك. لأنه يزيغ بصرك بكثرة عبثه «الظريف» ويا ويلك ممن يغضبه أن يرى نفسه مشفياً على الهزيمة فيعيث بيديه في الحجارة ويفسد نظامها وترتيبها، ويغلق الطاولة في وجهك، ثم يلويك ظهره أو جنبه، ويضع رجلاً على رجل — أعني ساقاً على ساق — وهو لا يبرطم بما لا يسرك أن تسمع، وقد ينهض ويتركك بلا كلام أو سلام.
ومن بلاء الطاولة أنها تجمع عليك الناس، ويندر أن يكونوا ممن تعرف، فتراهم قد التفوا بكما — والبعض جالس والبعض واقف ينظرون ولا يسكتون ليهون احتمالهم، بل يستجيدون أو لعبك يستضعفونه، بصوت مسموع، وقد يراهنون عليكما كأنما أنتما جوادان في ميدان السباق.
فتسمع أحدهم يقول «أنا أحط على هذا (ويشير إليك فما يعرف اسمك) ريالاً. تجي يا ألفريد؟».
فتسمع ألفريد يقول «يكفي نصف ريال …».
فيلتفت الأول إلى غيره ويقول «تجي يا جاك؟»
فيمط جاك بوزه ويقول: «لا ما يستاهل».
فتعلم أنك لا تساوي مليماً في رأي جاك، وأنك من الجياد التي لا تستحق المخاطرة عليها بمال ولو قل.
ومن المستحيل أن يستطيع أحد أن يصف لعب الطاولة، وكيف كسب دوراً أو خسره «ولكن بعضهم يتكلف ذلك ويحاوله ويقول لك كلاماً لا يمكن أن تفهم منه شيئاً، أو تعرف له مدلولاً. وأمثال هذا ليس من سوى الإلحاح في المقاطعة، واللجاجة في إسكاتهم يما أقول أنا. يبدأ الواحد منهم وصفه الذي لا يصف شيئاً فأشعر — سلفاً — أن رأسي تحطم فأقول «اسمع.. حدث أمس شيء غريب».
فيقول «وبعد ذلك ضربته وهربت وسددت عليه..».
فأقاطعه وأقول «كنت راكباً الترام رقم ٧٠ (وليس ثم ترام بهذا الرقم، ولكن هذا لا يهم لأن المراد هو أن أتكلم بأي كلام والسلام) فجاءت فتاة صغيرة لا شك أنها من تلميذات المدارس فقد كانت تحمل حقيبة..».
وأسكت لآخذ نفس، فيغتنم الفرصة ويقول «ثم يا سيدي بدأت الأكل.. أكلت.. أكلت..» فأعود إلى المقاطعة وأقول «وكان الترام مزدحماً فوقفت لها لتجلس في مكاني.. الأدب واجب أليس كذلك».
فيقول «وظللت آكل حتى..».
فأسرع فأقول «فشكرتني برقة، الحقيقة إنها فتاة مؤدبة. هنا حدث شيء عجيب فقد وقف الترام في محطة اختيارية من غير أن يطلب أحد من الركاب ولا من الواقفين على الرصيف».
ويشعر هو أن لا فائدة في محاولة التغلب علي فيضطجع وينظر إلي شزراً، ويخرج سيجارة ويشعلها، ويروح يدخن غير ملتفت إليّ، أو عابئ بي، ولكني لا أدعه يهملني مخافة أن يستأنف الوصف الذي قطعته عليه، فأقول «سامع؟ حدث شيء أغرب. سار الترام بسرعة ومررنا بمحطات كثيرة لم نقف عليها لا بل وقعنا فيها كلها، وأخيراً وصلنا إلى الموسكي.. أعني المغربلين.. بعد ربع ساعة من قيامنا.. أليس هذا جميلاً؟ ما قولك؟ ألا تقول شيئاً؟
فيقول «شيء بديع جداً».
فأقول «أشكرك.. ليلتك سعيدة».
فيقول وهو معبس «سعيدة».
وأنهض منصرفاً وقد نجوت من الوصف.
كلا. لن ألاعب أحداً الطاولة. وإذا شاء إخواني أن ألقاهم فليكن في مكان لا طاولة فيه..