هل كانت أسعد لحظة
من الصعب أن يقول المرء إن هذا اليوم، أو هذا الحادث، كان أسعد يوم أو حادث في حياته، لأن الشعور بالرضى، والسكينة، والاغتباط — وذلك غاية ما يحق للمرء أن يطمع فيه — ليس رهناً بما يتفق أن يقع للإنسان، ليس إلا، بل كذلك بنوع تلقينا له، وبحالة العقل، والنفس، والإرادة، فالمسألة في الحقيقة نفيسة. وما من شيء بمجرده يعد خيراً أو شراً في ذاته، وإنما يكون كذلك بأن يدخل في نسيج حياتنا العقلية، وبأن يأخذ لون مزاجنا ونزعتنا، وبأن تطبعه الإرادة بطابعها.
وكثيراً ما تكون ذكرى الشيء أبعث منه على الرضى أو السخط، لأنك حين تلقى ما تلقى، تشغل به، ولكنك بعد ذلك تكون في فسحة من أمرك، فتستطيع أن تحضر إلى نفسك، ما كان على مهل، وأن توحي إليها أيضاً، أو تعمق هذا الشعور، إذ ذاك. مثال ذلك أن يشتد بك الظمأ، والوجد بالماء، حتى إذا وجدت الماء كرعت منه كرعة روية، ولا هم لك إلا إطفاء الحرقة، ثم تتذكر بعد ذلك بقليل أو كثير كيف جف لسانك، وعصب ريقك، وكيف كانت لهفتك على قطرات، وكيف كان الشراب البارد في فمك، وكيف تشهدت، ورضيت، وحمدت الله!
وأنا ذاكر في هذه الكلمة حادثاً لا يزال مائلاً حاضراً، بعد أن مضى أكثر من أربعين عاماً، وكنت يومئذ طفلاً في العاشرة أو الحادية عشرة، وكانت عادتنا أن نقضي إجازة المدرسة — في الصيف — في بيت جدي لأمي في حي الإمام الليث بن سعد، وعلى مقربة من «عين الصيرة».. وكان جارنا له بنا صلة قرابة، وكان أنيقاً رقيق الحاشية، وفي سعة من الرزق، وكانت امرأته كريمة، وكان لها «فنوغراف» من الطراز القديم — وكان جديداً يومئذ — فكنت أذهب إلى بيتها، وأجلس أمام البوق كما يجلس في الصورة «الكلب» يسمع صوت سيدة! فأسمع غناء عبد الحامولي، وعثمان، والشيخ يوسف المنيلاوي وغيرهم.
ودعانى جارنا هذا يوما إليه، وقال إنه سيأخذنى معه إلى رحلة قصيرة إلى بلدته، وأمرنى أن أستأذن أمى، فأذنت، ولفت لى «جلابية» فى ورقة.
وأوجز فأقول إننا ذهبنا إلى البلدة — وهي في مركز طنطا — وتغدينا عند العمدة، وألح الرجل أن نقضي الليلة عنده، وأصر الشيخ الشاب الذي صاحبته أن يعود إلى طنطا، فعدنا بعد العشاء بقليل، والعمدة والخفراء معنا وحولنا، وكان الشيخ يمتطي جواداً، وأنا على ظهر حمار هزيل. واعترضنا قناة ضيقة، فتخطاها قريبنا بسهولة، وما كاد يفعل حتى أصابه طلقان، فأردياه على المكان.
وأوجز مرة أخرى فأقول إن التحقيق لم يسفر عن شيء سوى أن الفاعل مجهول! ولكن قريبنا القتيل كان ابن شيخ جليل من المتصوفة، فتناولت الصحف الموضوع — جريدة الظاهر تهاجم، وجريدة المؤيد تدافع. وعاد البوليس يجد في البحث، والعمدة معه، فضبطت بندقيتان مطمورتان في مكان الحادثة، ووجد اسم أحد الأعيان محفوراً عليهما، فاستؤنف التحقيق، وقدم هذا العين واثنان من رجاله إلى المحاكمة.
وذهبنا جميعاً إلى طنطا — الشيخ الصوفي الجليل وآله ومريدوه، وأنا معهم ونزلنا في بيت (الليثية) وهو قريب من المسجد الأحمدي، وهو بيت كان له شأن غريب في ذلك الزمان. فقد أوقفه صاحبه (الليثية) أي المتصوفة من أتباع الشيخ الليثي — نسبة إلى الإمام الليث بن سعد — فإذا احتفل بمولد السيد أحمد البدوي، فتح البيت على مصراعيه لليثية ولكل طارق.. يتلون القرآن، ويقيمون الأذكار، ويقرأون الأوراد — وقد حفظت من ذلك كثيراً — ويأكلون وينامون، والخير كثير، ولا يعلم أحد من أين يجيء، والبركة في المحبين والمريدين.
وذهبنا إلى المحكمة، وتخلف الشيخ الكبير في مقهى قريب من البيت، وكانت الدائرة برئاسة قاسم أمين بك، وكان يتولى الدفاع إبراهيم الهلباوي بك، وكان وكيل المدعي بالحق المدني أحمد عبد اللطيف بك، وكانت هذه أول مرة أرى فيها هؤلاء الثلاثة الفحول.
وصدر الحكم بالأشغال الشاقة على العين ورجليه، وبألف جنيه. ونهض قاسم بك وزميلاه، وإذا بأحد الرجلين يضرب عمامة العين ويصيح: (كده خربت بيتنا؟) فابتسم قاسم بك!
وقفزت من النافذة؛ فقد كان الزحام شديداً، وذهبت أعدو إلى الشيخ لأبلغه وأهنئه، ويظهر أنه كان يتوقع ما كان، فقد أعد طشوتاً أذاب فيها السكر مع الماورد، وجاء صاحب المقهى بالأكواب من كل صنف وحجم، وتوليت أنا أن أسقي الناس هذا السكر، وكنت أصيح بكل عابر وأدعوه أن يشرب. وكلما فرغ طشت جئت بغيره!
ومازلت أذكر فرحتي يومئذ. ولو أن أحداً سألني وأنا واقف على رصيف المقهى أملأ الأكواب وأقدمها إلى الناس، ولا أكاد أستقر على قدمي، عن سبب فرحي، لكان الأرجح أن أعيا بالجواب. ولكني أعلم الآن أنها كانت فرحة امتزج فيها الحزن على القتيل، بالاغتباط بإمضاء حكم العدل في الجناة، وباشتفاء النفس بفضل القضاء بعد طول اليأس قبل الاهتداء إلى القتلة.
فهي ذكرى — كما ترى — لا يخلو السرور بها من عرق من الأسى والأسف، ولعل كل شعوري بالسعادة كذلك — مزيج من عناصر شتى بعضها أقوى من بعض!
والله، وغيري، أعلم.