الإيحاء والسرقة الأدبية
أبدأ بسؤالي عن الإيحاء ما هو؟..
وسأحاول تبسيط الجواب واجتناب العبارات العلمية التي لا تساغ. فلا يؤاخذني العلماء الأجلاء فإني لست منهم وكلامي ليس موجهاً إليهم فإن بهم غنى عنه. وأقول بإيجاز السؤال إن كل حركة مبعثها الإرادة وإن الإرادة تؤدي إلى بذل الإنسان لجهود يشعر بها ويدرك مداها، والغاية منها، أو لا يشعر ولا يدرك، فإذا كان الباعث على هذا المجهود مصدره النفس، كانت الإرادة شخصية، أما إذا كان المجهود مبعثه إرادة شخص آخر، أو بعبارة أخرى إذا جعل الإنسان نفسه طوع إرادة غيره وهن عقله أو عواطفه ففي هذه الحالة يقال أن أعماله موحى بها إليه أو أنه يعمل أو يفكر أو يحس بتأثير الإيحاء من الغير.
وأوضح مظهر للإيحاء هو التنويم المغناطيسي. وبعض الناس طبيعته «هستيرية» فيسهل تنويمه، أي التأثير في أعصابه وإخضاعها لإرادة الموحي أو المنوم. ولا أدري هل جرب أحد من القراء التنويم أو لم يجربه، ولكني أذكر بعض ما اتفق لي في هذا الباب بمحض المصادفة، فإني لا أشغل نفسي بهذا.
كان عندي خادم، وكان بيتي يومئذ في الصحراء، فحدث يوماً أن كنت نازلاً لأخرج وكان شيء يشغلني — لا أذكر الآن ماذا كان — فوقفت على رأس السلم وأنا شارد الذهن ويدي على الدرابزين وعيني تحدق في لا شيء — وأقول على الهامش إن لفظ الدرابزين صحيح وليس عامياً — ويظهر أن حملاق العين كان ثابتاً والنظرة قوية أو حادة. وكان الخادم واقفاً على باب غرفته، ولكني لم أكن أرى سوى شبحه من فرط ذهولي واستغراق خواطري، وإذا بي أرى هذا الشبح يتمايل، ويهم بالسقوط فتنبهت وأسرعت فانحدرت إليه لإدراكه وسألته: مالك؟ مريض؟.. فلما استطاع أن يتكلم قال إني كنت أنظر إليه فدار رأسه وغامت الدنيا في عينه.
ولم أكن أنظر إليه ولكن عيني على ما يظهر كانت واقعة في عينه، وكانت النظرة ثابتة حادة. فمضيت وأنا أفكر في هذا، وتذكرت حوادث كثيرة من هذا القبيل جرت لي. منها أن زوجتي دخلت علي مرة وأنا مضطجع أفكر فوقفت أمامي لحظة وأنا من ذهولي لا أراها. ثم خرجت مضطربة فزعة تقول إني «أزغر» لها. ومنها أن تلاميذ لي — أيام كنت مدرساً — كانوا إذا بادلتهم النظر لا يطرفون ولا يستطيعون أن يحولوا عيونهم عني. ومنها أن فتاة من أقربائي صاحت بي مرة «لا تنظر إلي هكذا فإني خائفة». وما كنت أراها وأنا قاعد ولا كان نظري إليها فيما أعرف أو أشعر.
وأوجز فأقول أنه خطر لي أن هذا الخادم يسهل تنويمه وإن كنت لا أعرف عن التنويم إلا ما قرأت عنه في الكتب. وقد كان.. نام الخادم فقلت له: «لا تقم من النوم إلا بعد صلاة الجمعة» وتركته وخرجت، وتوخيت أن أرجع بعد الصلاة مباشرة، فإذا به يفرك عينيه ويقوم متثائباً وينهض في فتور. وسألت عنه فقيل لي إنه كان نائماً فتركوه.
فقلت أجرب تجربة أخرى. فأمرته وهو نائم أن يذهب في ساعة معينة بعد ثلاثة أيام إلى مكتبي في الجريدة التي كنت أعمل فيها ويفتح الدرج الثالث من اليمين ويجيئني بكل ما فيه من الورق ولما كان مفتاح المكتب في جيبي فإن عليه أن يأخذه من جيبي قبل الذهاب. وفي اليوم الثالث وقبيل الساعة المعينة أخذ المفتاح واختفى ثم عاد وألقى إلي بالورق. وكان غبياً فلما أبديت له الاستغراب وألححت عليه بالأسئلة اعترف لي بكل ما فعل ولم يستطع أن يعلل إقدامه على ذلك وراح يبكي ويسألني الصفح فأغضيت فما له ذنب. وكنت قد قرأت أن مجرد التلميح يكفي في الإيحاء إلى النائم، وأنه ليس من الضروري أن يتخذ الإيحاء صيغة الأمر الصريح، وأنه يكفي أن تظهر أمرارات السرور فإذا بالنائم يشرق وجهه، أو تبدى الحزن فإذا هو يبكي أو تنقبض أسارير وجهه. فقلت أجرب هذا ما دامت الفرصة قد أتيحت لي. فنومته مرة وناولته كوب ماء — كما قرأت في الكتاب تماماً — وقلت له اشرب هذا النبيذ فبدت عليه دلائل السكر وغن كان لم يشرب إلا ماء قراحاً.
ثم خفت على نفسي أن تغرني هذه السطوة ويغريني سلطاني على هذا المسكين بما لا يحسن فاستغنيت عنه وكففت عن هذه التجارب التي تغري بالاسترسال فيها. واجتنبت أن «أزغر» لأحد!!
وقد شهدت بعد ذلك تجارب خاصة أجراها أمامي منومون مشهورون بعضها من الدجل الصريح الذي يجوز على الجماهير الساذجة، ولكن بعضها من المعقول الذي يسهل تعليله، فأما ما هو من الدجل فمثل الإنباء بالمستقبل والعلم بالغيب، وأما ما هو من الحقائق فمن أمثلته أن تكتب كلمة فيأمر الموحي وسيطه أن يقرأ ما في الورقة وهو غير ناظر إليها. وتفسير ذلك أن الموحي يطلع على ما في الورقة ويوحي ما فيها إلى الوسيط النائم فينطق بما أوحي إليه وأن كان لا يرى شيئاً.
وقد ذكرت هذا كله على سبيل التمثيل للإيحاء في أوضح الصور وأجلى الحالات والآن ما هو تعليل الإيحاء.. وكيف يحدث؟ ما الذي يجعل إنساناً يتأثر بإرادة إنسان آخر فيحاكي فعله وقوله ويحس مثل عواطفه وتدور في نفسه نظائر لخوالجه؟ وهذا بحث غيري من علماء النفس أو سواهم أقدر عليه، وأنا «لا إلى هؤلاء ولا هؤلاء» كما يقول الشاعر. ولكني مع ذلك لا أخشى الخطأ لأني في هذا الشرح ناقل لا أكثر ولا أقل. والعلماء يقولون إن الإيحاء هو نقل ذرات الحركة التي تحصل في ذهن إلى ذهن آخر. وشبيه بذلك أن يكون هناك سلكان متقاربان مشدودان فإذا أحدثت في أحدهما هزة انتقلت الهزات إلى السلك المجاور. ولاشك أن الهزات في السلك الذي كان ساكناً تكون أضعف منها في السلك الآخر الذي صدرت عنه الهزات ولكن المهم الذي يعنينا هو أن الاختلاجات الحاصلة في سلك تسري إلى السلك الآخر. ونظير هذا أيضاً أن يكون قضيب من الحديد محمياً. وآخر إلى جانبه ولكنه بارد لم تمسسه النار فإذا كانا متجاورين لم تلبث الحرارة التي في القضيب المحمي أن تنتقل إلى القضيب البارد. وانتقال الحرارة هنا معناه انتقال حركة الذرات. فالذي يحدث هو أن حركة الذرات في جسم تنتقل إلى جسم آخر فتصبح حركتها فيه مشابهة لحركتها في الجسم الذي انتقلت منه. ولما كانت الآراء والخواطر والإحساسات والعواطف والخوالج على العموم عبارة عن حركات لذرات الذهن فإن انتقال هذه الحركات إلى رأس آخر يؤدي حتماً إلى انتقال الآراء أو الخوالج التي تكونها هذه الحركات.
وأنا آسف لاضطراري إلى التقيد — ولو إلى حد ما بما يشبه لغة العلماء — فليس أثقل منها وإن كنا نجلهم ونعرف لهم قدرهم ولا نغمطهم حقهم أو نبخسهم فضلهم علينا. وسأحاول أن أجعل لغتي أبعد ما تكون عن لغتهم وأقرب شيء إلى الكلام العادي. فأقول إننا معشر المخلوقات ليس لنا إلا وسيلة واحدة للإعراب والإفصاح عما يدور في نفوسنا من الآراء أو الإحساسات أو الخوالج وتلك الوسيلة هي الحركة. وأعني بالحركة كل شيء. فاختلاج الجفن حركة، وكذلك تحرك الشفة، وتقبض الوجه عند الغضب أو الحزن، واتساع الشدقين عند الضحك والإطراق، والسهوم، والتنهد، ونظرة العين، كل هذه وما إليها حركات. وهي مظهر ما يدور في نفوسنا. وقد ألفنا هذه الحركات واعتدنا أن نستدل بها على ما في النفس، فإذا رأينا رجلاً تجهم وجهه، وانزوى ما بين عينيه. وتقبضت كفه، وارتفعت ذراعه أدركنا أنه مغيظ وأنه يهم أو يحدث نفسه بضرب إنسان آخر. وإذا رأينا إنساناً يرتج من الضحك علمنا أنه مسرور وإذا رأينا آخر مطرقاً يتنهد فمهنا أنه محزون، أو أنه يفكر في أمر يثقل على نفسه ولا يسره.
وإذا رأينا واحداً يتثاءب أدركنا أن به كسلاً. وهذه كلها حركات طبيعية أي أنها تقترن دائماً ببواعثها بحكم التكوين الإنساني وهناك حركات أخرى رمزية تواضع عليها الناس وألفوا أن يقرنوها بمعاني معينة. مثال ذلك هز الرأس من فوق إلى تحت، معناه الموافقة، وهزها من اليمين إلى الشمال، يكون معناه الرفض أو الأسف أو التعجب حسب الأحوال. الإشارة بالأصبع معناها «تعال» واللغة من الحركات الرمزية المتواضع عليها للدلالة على المراد. وكل حركة ذرية في الرأس تؤدي إلى حركة عضلية ولو ضئيلة. وهذه الحركات العضلية يتلقاها الغير بواسطة الحواس — بالعين أو السمع أو اللمس — فأنا مثلاً حينما أرى رجلاً يضحك أرسل هذه الصورة التي رأتها عيني إلى رأسي لتترجم هنا، ومعنى ترجمتها أن تنشط بعض المراكز التي في رأسي لتحويل هذه الصورة التي تلقتها عيني إلى فكرة فتحدث عندي في رأسي، نفس الحركة الذرية التي حصلت في رأس الضاحك، ولكن قوتها أو ضعفها يرجع الأمر فيهما إلى أحوال كثيرة لا داعي للخوض فيها وهكذا تنتقل حالة إنسان على إنسان آخر أو هكذا يحصل الإيحاء.
ولكي يتيسر أن تنتقل الحركة من ذهن إلى آخر وتتكرر فيه بشيء من القوة ينبغي ألا يكون هذا الذهن الآخر مشغولاً بما يمنع التأثر. ولنعد إلى مثال السلكين فنقول إن اهتزازات أحدهما لا تنتقل إلى السلك الثاني إذا كان السلك الثاني أقوى أو كان يهتز بعنف، فلا يستطيع أن يتلقى اهتزاز سواه ويتقبله. ونطبق هذا على الإنسان فنقول إن الذهن الضعيف، أو الذي يعاني ضعفاً طارئاً يكون أشد استعداداً للتأثر بذهن غيره من الذهن القوي.
ولذلك لا يمكن أن تجد وسيطاً لمنوم من أصحاب الإرادة القوية، أو الشخصية المستقلة، لأن قوة الإرادة أو شدة النزعة إلى الاستقلال، والاحتفاظ به! تمنع أن يتيسر التسلط عليه من الغير. وقوة الشخصية أو الإرادة، ونشاط الحركة العقلية وقوتها تؤدي إلى المقاومة. على أن الكثرة تغلب الشجاعة، كما يقول المثل، فقد يكون المرء قوياً ناضج العقل، مثقفه جداً، ويكون ماضي الإرادة شديد الشكيمة ولكن الضعف المجتمع يغلبه، وكم من مرة عجز الأقوياء عن مقاومة الجماهير. وهي أضعف منهم وأقل فهماً!! بل كم من مرة اضطر صاحب الإرادة القوية والذهن الخصيب النشيط أن يخضع للجماهير المؤلفة من الضعفاء المهازيل الذين لا يستطيع واحد منهم أن يرفع رأسه أمام ذلك القوي الذي يهزمونه بجمعهم، أي بالضعف المضموم إلى الضعف، ولهذا كانت روح الجمهور أقوى من روح الفرد، إلا إذا وسع الفرد أن يحولها بغير المقاومة الصريحة ولن يستطيع تحويل جمهور مصمم على شيء، إلا إذا أبدى له المسايرة، وحمله على الاطمئنان أولاً. والاطمئنان معناه ترك التفكير في المقاومة، وعدم التحفز لها، ثم بعد أن يغريها بالاطمئنان، يشرع في تحويلها عن وجهتها، شيئاً فشيئاً، ومن حيث لا تشعر إلى الوجهة التي يريدها هو. وأبدع مثال لذلك خطبة أنطونيو على جثة قيصر في رواية شكسبير، وكان قيصر قد قتل — قتله لفيف من المتآمرين على رأسهم بروتوس، وصار الشعب معهم، فجاء أنطونيو، والتمس من بروتوس أن يأذن له في تأبين قيصر، فأذن وكان الشعب مع القتلة المتآمرين، لأنهم استطاعوا أن يوسوسوا إليه ويخدعوه، فوقف أنطونيو في هذا الحشد المتنمر، وشرع يطمئنهم، ويقول إنه جاء ليدفن قيصر لا ليرثيه، وإن الخير الذي يصنعه الإنسان يدفن معه، وإن الشر هو الذي يحيا بعده، ومدح بروتوس القاتل، وأثنى عليه، ثم تدرج من ذلك إلى التلميح بحسنات قيصر، وكان كلما ذكر طرفاً مما أحسن به قيصر إلى الشعب خاصة، يعرج على بروتوس القاتل ويقول إنه رجل شريف، يعني أنه لا يسعه إلا أن يصدقه، وإن كانت الحقائق تشهد بأنه كاذب. وهكذا راح يوحي إلى الشعب الاطمئنان إليه، أولاً، ثم الشك في صدق قتله قيصر، حتى وسعه أخيراً أن يصارح الحشد الذي يستمع إليه بلعنة القتلة والتحريض عليهم، فانقلبت الجماهير وثارت على القتلة، بعد أن كانت تؤيدهم وتنصرهم على جماعة قيصر.
ولو أن أنطونيو صدم هذه الجماهير من أول الأمر برأيه السيئ في بروتوس وإخوانه لما أجدت عليه فصاحته وذلاقة لسانه، ولكان المحقق أن يلحقوه بقيصر، أي أن يقتلوه. وهذه من براعات شكسبير وآياته الخالدة الناطقة بدقة فطنته إلى نفيسة الجماهير ووسائل الإيحاء إليها.
وليس من الضروري أن يكون المرء ضعيفاً، ليتأثر بغيره، ويتقبل الإيحاء فإن المعول في الحقيقة على الحالة النفسية التي يكون فيها الإنسان، والتي تساعد على تقبل الإيحاء، أي على التأثر بالغير. وفي كل إنسان جانب ضعف وكل نفس تعتريها حالات من الفتور، أو الكسل، أو التهافت أو غير ذلك. وما أكثر الأقوياء الذين يؤثر فيهم من هم دونهم قوة وذكاء إذا عرف هؤلاء الوسيلة التي يملكون بها أذن الرجل القوي، ويستولون بها على هواه، أي إذا فطنوا إلى موضع الضعف في نفسه، وعرفوا كيف يستغلونه والمثل العامي يقول «الدوى على الأودان أمر من السحر» وليس بالنادر أن ترى ضعيفاً هزيلاً يهتدي إلى موطن الضعف من الرجل القوي، ويتمكن بذلك من أذنه، ثم يروح ينفث فيها ما يشاء ويلح به حتى يبلغ هواه. وما هي الشهرة؟ أهي أكثر من إيحاء الاسم إلى الناس أي أن تظل تدق الطبل وتقرعه بهذا الاسم حتى يتقرر في الأذهان ويثبت ويبرز ويصبح ماثلاً أبداً أمام الناس؟ ويندر أن يعرف الناس نوع الفضل الذي استحق الشهرة — والكلام هنا على السواد لا على الخاصة وكل ما يعرفونه أن هذا الاسم يصافح أسماعهم كل صباح وكل مساء فصاحبه لابد أن يكون عظيماً، حتى تلهج به الألسنة على هذا النحو. والإنسان يعتريه الفتور على الرغم من قوته، والكسل وإن كان نشاطه موفوراً في العادة، فيكون في هذه الحالات — حالات الفتور أو الكسل — قابلاً للتأثر الشديد بغيره، والانقياد له. على أن الإيحاء يكون خفياً، كما يكون ظاهراً، وفي كل شيء، جل أو دق. وفي وسع المرء أن يقول، بلا تحرز، إن كل إنسان يتأثر على الدوام، وبغير انقطاع بغيره من الناس، سواء أكان يشعر بذلك أم كان لا يفطن إليه. بل هو يتأثر بالأشياء تأثره بالناس، وليس الإيحاء الذي يفطن إليه المرء بأهم من الإيحاء الذي يحصل من غير أن يشعر به الإنسان بل هو إذا شعر بالإيحاء، جدير أن يحاول المقاومة. والإيحاء هو قوام الحياة في الواقع، فما يستطيع الإنسان أن يعيش غير متأثر بما حوله، ومن حوله. من الأشياء والناس، ولو كان أنبغ النوابغ وأعظم العظماء وما هو تأثير ما يسمى البيئة، أي الوسط الذي يعيش فيه الإنسان؟ هو إيحاء هذه البيئة.. وما هو التعليم والتربية.. هما إيحاء المعلم والمربي. وكل إنسان يصاغ له عقله في صغره، وتطبع نفسه إلى حد كبير على هوى المعلم والمربي، في المدرسة وفي البيت. وما هي القدوة الحسنة أو السيئة؟؟ هي إيحاء سيرة معينة أو سلوك. فالمرء في الحقيقة ليس إلا ثمرة الإيحاء. الظاهر والخفي، ومن حيث يشعر ولا يشعر. والذي يستطيع أن يزعم بحق أنه لم يتأثر في حياته بشيء أو إنسان في سلوكه، وفي طريقة تلقيه للحياة، وتأثره بوقعها، وفي تفكيره وفي عواطفه، وتكوينها وتغذيتها — هذا لم يخلقه الله، لأن الله سبحانه جعل الإيحاء من قواعد الحياة وسننها التي لا تتعطل ولا تبطل في حال من الأحوال.
وما هو الروح العام في أيه أمة؟ وما هي الخصائص القومية في الشعوب؟ إن الحياة قائمة على التغير والتحول، لأن الركود والثبات على حالة واحدة لا سبيل إليه في الحياة «إذ كانت الحياة معناها الحركة. والحركة انتقال وتحول، حتى الموت نفسه ليس إلا مظهراً من مظاهر التغير والتحول، وهو يؤدي إلى تغير آخر لا ينتهي، فالروح العام في الأمة لا يكون في كل العصور على حالة واحدة والخصائص القومية تتغير جيلاً بعد جيل إلى حد كبير. وأقول إلى حد كبير لأن لكل بلد طبيعته وأثر هذه الطبيعة في النفوس ولماذا يتغير الروح القومي وتختلف الخصائص العامة؟؟ لأن رجالاً يظهرون فيوحون إلى الأمة الروح الجديد ويوجهون النفوس الوجهة التي يبغونها، فإذا كان هؤلاء القادة أهل فضيلة وبطولة صار الشعب أمة من الأبطال، وإذا كانوا رجال سوء وعيارين فساقاً فسدت الأخلاق، وإذا كانوا أهل إخلاص وأصحاب مثل عليا، رفعوا الشعب معهم ذلك أن الرجل العظيم — وفي الناس العظيم في الخير كما أن فيهم العظيم في الشر — يجعل الأمم التي يظهر فيها صورة منه ويوحي إليها آراءه وعواطفه ونزعاته وأساليب تفكيره، فإذا كانت الأمة طينتها قوية تلقت الإيحاء بقوة، وإذا كانت ضعيفة تلقته بفتور، ويعجبني قول بعضهم إن الفرق بين الأمم كالفرق بين آلة قوتها ألف حصان وآلة أخرى قوتها حصان واحد. فأما الأمة التي تشبه الآلة التي قوتها ألف حصان فإن العظيم يستطيع أن يصنع بها المعجزات، ولكن ماذا يصنع بأمة كالآلة التي قوتها حصان واحد؟؟
والآن ننتقل إلى الأدب فأقول لاحظوا أن الأديب يدرس بشغف، وأن موضوع درسه يستغرقه، والأثر الذي يخلفه درسه لا يمكن إلا أن يكون عميقاً، وإن كان هو لا يحس ذلك ولا يفطن إليه، أو لا يجعل باله إليه. وعقل الإنسان لا يكف عن العمل في ليل أو نهار، ولا تنقطع حركته، في يقظة أو منام، وليس ما يبدو أو ما نحسه من عمله، هو كل عمله، فإن عمله الخفي أكثر، ولعله أعظم من عمله الظاهر الواضح، وهذا الذي يحصله الأديب يختلط في رأسه بما فيه، ويتزاوج معه، ويتولد من هذا التزاوج والاختلاط ما يبدو جديداً، ولكنه في الحقيقة مولد، ولو أمكن أن نتتبع الحركة العقلية التي أثمرت ذلك لعرفنا نسب المعاني والآراء والإحساسات والخوالج المختلفة، ولظهرت لنا الشجرة كلها بأصولها وفروعها وأوراقها وثمارها ولحائها أيضاً. ولكن الحركة خفية ومعقدة، فلا سبيل إلى هذا العلم بنسب الخواطر والإحساسات وما إليها، أريد أن أقول إن من الخطأ أن يتوهم أحد أن ما ينشأ في النفس من الخواطر والخوالج وما يحصل من الصور مبتكر، أو أنه شيء خلقته النفس خلقاً وابتدعته من عندها وحدها، وبلا معونة من غيرها وإنما هو مولد فيها، ونسبه لو أمكن أن يعرف ينتمي إلى ما تلقته النفس من الخارج: ويحدث كثيراً أن يخطر للمرء شيء فجأة بلا مناسبة ظاهرة ومن غير أن يشعر أن ذهنه يجري في هذا المجرى أو يتجه إلى هذه الناحية، وتراه يعبر عن ذلك بقوله أنه ألهم شيئاً، ولكنه لم يلهم وإنما كان الخاطر المفاجئ الذي لا تبدو له صلة بشيء معروف، وليد حركة طويلة، لا يحسها هو وإن كان عدم الإحساس لا يمنع وجودها. ويحدث في بعض الأحيان أن يطفو على السطح خاطر أو صورة أو خالجة أو نحو ذلك وتكون مما قرأ الإنسان أو سمع ولكنه لا يدري. لأن الذاكرة لا تحتفظ في الحقيقة إلا بالأقل، أما الأكثر فتلقي به فيما وراء الوعي. والقاؤه فيما وراء الوعي ليس معناه ضياعه، فإنه يطفو لأسباب تخفى علينا ولا سلطان لنا نحن عليها. وقد نعرف أنه هو الذي كان غائباً عنا، وهذا هو التذكر، وقد يخفى علينا ذلك ويختلط الأمر فنحسب أن هذا الذي طفا نتيجة جهدنا العقلي، فيقال سرق لكن السرقة غير مقصودة وإنما جاءت عفواً بلا عمد.
على أنه يحدث أحياناً أن يستبد المعنى أو الفكر بالخاطر، وتستولي عليه وتتسلط كما تتسلط إرادة رجل على آخر وتتحكم فيه، فلا يعود يملك أن يخرج عنها، أو يهرب منها، وقد يدرك أن فكرة غيره أسرته واستبدت به، أو لا يدرك، فأن المهم هو هذا الأسر، فيحصل ما يسمى السطو، وترى الشاعر أو الكاتب أخذ المعنى الذي هو لغيره وأدخله في كلامه. وهذا السطو لا ينفي أن الذي أخذ قادر على ابتداع معنى كالمعنى الذي أخذه، وإنما معناه أن المعنى استبد به فلم يستطع أن يتحول عنه أو يتخلص من أسره نفيه. ومؤدى هذا الكلام أن السرقة الأدبية إذا لم تكن من معابثة الذاكرة فهي من نتيجة الإيحاء، سواء أكان الإيحاء خفيفاً أو قوياً، وظاهراً أو خفياً ولا يستغرب أحد أن يكون في عالم الأدب إيحاء من القوة بحيث يشبه التنويم المغناطيسي، فما أعرف ما يمنع ذلك. ولست أحب أن أكون قاضياً يحكم، وإنما أنا مفسر، فهذا تفسيري أو تعليلي للسرقة الأدبية وأحب أن يكون مفهوماً أن هذا التفسير لا يدخل فيه عمل الذين يتعمدون السطو على آثار غيرهم ليغشوا الناس ويزعموا أنفسهم أدباء، فإن هذا عبث صبيان، إنما أتكلم عمن لا يعجزهم أن يبتكروا ما هو أرفع مما أخذوا أو اقتبسوا أو علق بأذهانهم. أو على الأقل مثله.