قرائي الذين يحبونني
لكل كاتب قراؤه. وما من كاتب يعدم قارئاً من كل طبقة، ولكن المعول على الأوفياء الثابتين على الولاء، فإن هؤلاء طريق الرزق، ووسيلة الاطمئنان والدعة، ولولاهم لما عرف المرء متى يمكن أن يتاح له أن يأكل، وإن كان لا يجهل كيف يجوع. ولست أعرف ماذا يصنع غيري ليهتدي إلى طبقات قرائه، ولكني أعرف أن مصلحة البريد أغنتني عن عناء السعي ومشقة التفكير في الوسائل المعينة على الاهتداء، فإن رسائل كثيرة تأتيني منها فأستخلص منها العلم الذي أطلبه والمعرفة التي أشتهيها. وما أكثر ما قلت لنفسي إن الجاحظ وابن المقفع وعبد الحميد الكاتب ومن إليهم من هؤلاء الزملاء والرصفاء، كانوا مساكين. — أوه جداً — فما عرفت الدنيا في أيامهم مصلحة البريد. وقد كان من الصعب ولاشك أن يعرفوا مبلغ حب الجمهور لهم وإعجابه بهم وماذا كان يمكن أن يبلغ من رواج كتبهم لو أنها كانت تطبع وتباع في المكاتب، وقد حرمهم هذا الحال الاستقلال عن الأمراء ومن إليهم. ومن الصعب أن يعمل المرء في الظلام. نعم كان الواحد منهم لا يعدم تشجيعاً من الشعب، ولكن هذا كان فلتة لا تحسب ولا يعول عليها. ومن السهل أن يتصور المرء أن الجاحظ مثلاً كان يلقى في الطريق واحداً يتقدم إليه ويقول له: «اسمح لي.. هل أنت الذي يسمى الجاحظ؟»
فيهز رأسه أن «نعم» وهو واجف القلب لأنه يخشى الاعتراف الصريح المقيد، لئلا يكون هذا السائل من الشرطة.
فيقول الرجل: «لقد صدقوا.. أعني أن اسمه في محله.. على كل حال.. ثابر يا بني!.. فإني أتنبأ لك بمستقبل باهر..».
ويربت على كتفه ويمضي عنه مبتسماً، وعينه إلى الملك الذي ينبغي أن يكون محتفظاً بمكانه على يمينه؛ مرهف الأذن مقيماً سن القلم على الدفتر المفتوح ليقيد له هذه الحسنة — حسنة التبرع الكريم بالتشجيع.
وإذا كانت الرسائل التي ترد إلى دليلاً على شيء فإني أكون أحب الناس — أعني الكتاب — إلى ثلاث طبقات: — المرضى، واللصوص، وقد نسيت الطبقة الثالثة.. لا بأس من يدري؟.. ربما تذكرتها أثناء الكلام. وقد عرفت هذا من الرسائل التي يحملها إلى البريد، كما قلت. وهذا نموذج منها: «… وبعد فإني لم أسمع باسمك من قبل، ولكن مرضت ودخلت المستشفى، وجاءني زائر فترك لي كتاباً أتسلى به، غير أني لم أستطع أن أتصفحه في أول الأمر لشدة وطأة المرض. فلما خف قليلاً مددت يدي إليه وبدأت أطالع. وأؤكد لك أنه سرني جداً. وأنا صحيح الجسم في العادة، ولكن الأمراض لا أمان لها، كما تعرف، فأرجو أن تبعث إلي بمجموعة من كتبك كلها — ومعها جملة ثمنها — استعداداً للطوارئ فإن الحيطة واجبة وإن كان الأمر كله بيد الله.
وتقبل سلام المعجب بك المعتمد بعد الله عليك».
وفي وسع القارئ أن يدرك مبلغ حيرتي، فإنه لا يسعني إلا أن أتمنى لمثل هذا الرجل الصحة والسلامة، ولكن المصيبة والبلاء العظيم أنه إذا صح وسلم كان خليقاً ألا يعود إلى كتبي ليقرأها، فما العمل؟.. هذه هي المسألة — كما يقول هملت — وليس ذنبي أن الأمراض تحبب الناس في كتبي، فإذا كنت أسر حين أقرأ في الصحف أن الملاريا انتشرت فإن لي العذر، فما كان هذا ظني، ولا خطر لي قط على بال، ولكن مشيئة الله جعلتني مثل «الحانوتي» الذي يسره ويفرحه ما يحزن الخلق ويبكي المفجوعين. ولهذا ترونني إذا سمعت بفشو مرض أدخل مسروراً على أهل بيتي وأقول لزوجتي: «خذي يا امرأة.. (وألقي إليها بكل ما يكون معي، قل أو كثر) خذي وأنفقي بلا حساب، فإن ما عند الله أكثر».
فتعجب وتسألني: «ماذا جرى؟ هل ربحت ورقة يانصيب؟»
فأقول منكراً عليها هذا الخاطر: «وهل مثلي يعني بورق اليانصيب؟ سبحان الله يا امرأة في طبعك!»
فتقول ضاحكة: «ولكن ألا تخبرني؟.. إنني أكاد أموت شوقاً إلى المعرفة».
فأقول وأنا أرمي إليها بالصحيفة التي قرأت فيها خبر المرض المتفشي، وعجز وزارة الصحة عن مكافحته: «خذي واقرئي، واشكري الله، وقبلي يدك بطناً وظهراً، فلن نجوع أن نفتقر، مادام في الدنيا شيء اسمه وزارة الصحة. لقد جعلوها وزارة.. رفعوها ورقوها ووسعوها.. أليس هذا باعثاً قوياً على الاطمئنان والثقة بالله؟»
•••
وقد بالغت حين قلت إني محبوب من اللصوص وما أردت إلا أن لصاً واحداً — على ما يظهر لي الآن — هو الذي يحبني، فلقد تلقيت مرة كتاباً يذكر لي فيه انه سمع باسمي وشهرتي، فعرف أني كاتب عظيم جداً، فهو يكتب إليّ مستنجداً فقد اتهموه بسرقة كلب. والقضية معروضة على القضاء، وكان محبوساً رهن التحقيق، ثم أفرجوا عنه بالكفالة الشخصية، وهو يحتاج إلى محام يدافع عنه ولكنه لا مال معه فهل أستطيع أن أدله على محام كريم، أو أعينه بطريقة أخرى..؟ وهو يرتك الأمر بين يدي واثقاً من مروءتي وكرمي فإن مثلي لا يخيب من يقصده.
هذا هو الزبون الجديد، وقد قلت لنفسي لما تلقيت هذا الكتاب العجيب: «والله نجحت يا مازني!.. بلغت شهرتك أخفى الزوايا وتغلغلت إلى لصوص الكلاب.. ما شاء الله!. أحسب أن اللص، حين يخرج إلى السرقة بعد اليوم، ستقول له زوجته أو أمه أو لا أدري من غيرهما: «هل أنت متأكد أن معك كل ما تحتاج إليه؟»
فيقول: «أيوه.. أيوه».
فتقول: «احذر أن تكون نسيت الطفاشة!.. العدة كلها معك؟..».
فيقول: «قلت لك.. أيوه.. ألا تسمعين؟»
فتقول: «والمازني؟.. هل أخذته معك؟..».
فيقول: «أوه.. طول الليل وأنا أقرأ كتابه.. وهل أستطيع أن اعمل دون أن أقرأه؟.. أتظنينني مغفلاً؟ أم تحسبين أني حديث عهد بالفن؟»
فتقول: «لا.. إنما أردت أن أطمئن.. وأسمع.. امش بحساب.. والبس القفاز قبل أن تلمس أي باب أو مفتاح أو حائط.. حاذر!»
فيقول: «اطمئني.. كل شيء على ما يرام.. ومعي المازني فلا تخافي ولا تقلقي».
ويلمس صدره حيث وضع الكتاب تحت ثوبه.
•••
ولكل قاعدة شذوذ واستثناء. وقد حدث منذ بضعة أيام ما كاد يغريني بتغيير رأيي في طبقات القراء الذين يحبونني ويؤثرونني على من عداي من كتاب هذا الزمان. ذلك أني كنت مدعواً إلى مأدبة عشاء فاتفق أن أجلسوني إلى جانب سيدة عجوز شمطاء، ودار الكلام على الأكل وكان بعض الذين يخاطبونني يدعونني: (الأستاذ) والبعض يؤثر أن يرفعني درجة فيقول: (يا بك) ولكنه لم يدعني باسمي أحد كأنه عيب لا يليق أن يذكر ولاسيما على مسمع من السيدات.
ثم التفتت إلي العجوز وقالت: «إني سعيدة».
فقلت باختصار: «أهنئك».
فألحت في صرفي عن جارتي الأخرى، وكانت فتاة هيفاء نضير الحسن وصوتها كالتغريد.
«صحيح.. سعيدة جداً.. كل كتبك قرأناها».
فتركت الفتاة وأدرت وجهي إلى هذه العجوز وسألت باهتمام: «صحيح؟»
فقالت باضطراب رابني: «كلها كلنا».
فقلت مردداً قولها: «كلكم؟.. كلها..؟ شيء جميل؟»
فقالت: «ابني على الخصوص.. إعجابه بك لا حد له».
فأردت أن أستوثق وسألتها: «هل هو مريض؟»
قالت: «أعوذ بالله.. إن صحته جيدة جداً».
فقلت لنفسي إن هذا جديد، فيحسن أن أتقصى الأمر وسألتها: «ألم يصبه مرض قط؟»
قالت: «أبداً.. أبداً.. قوي جداً.. كسيد نصير».
قلت: «عجيب هذا..».
فقالت: «كتبك كلها عندنا تراها في كل غرفة..».
فسألتها: «أهي حسنة التجليد؟»
قالت: «لا.. كما اشتريناها.. كل بناتي وأحفادي يقرأونها ويحملونها معهم حيثما يكونون».
قلت: «شيء جميل».
قالت: «أوه. لشد ما يفرحون الليلة حين أقول لهم إني كنت جالسة إلى جانب تيمور بك».