خواطِر في مَرقص
بعد سنوات طوال ذهبت إلى معهد من معاهد الصبى، وبي — وأنا الكهل المجرب — مثل حياء الغرير وخجلة الحدث واتخذت لي مكاناً قبل المرآة وقريباً من فرقة الموسيقى وعلى مستدار المرقص، وكنت أول الداخلين وأسبقهم في تلك الليلة. وكأنما نكر مني الخدم لمتي الموخوطة وقامتي القميئة العرجاء ونظرة الحيرة والقلق، فجعلوا يصوبون عيونهم ويصعدونها في، وضايقني أحدهم بكثرة لحظانه رجلي أو بما توهمته من ذلك وكبر علي أن أرى هذا الزنجي يتغفلني ويدور من ورائي ليتسنى له أن يتأمل — وهو آمن — حذائي واختلافهما، فمددت له ساقي في كبر وغطرسة، ودعوته إلي بإشارة ملؤها العجرفة وأمرته أن يسقيني شيئاً،فمضى عني وهو يبتسم فزاد ذلك في حنقي وأقسمت لأهجونه.
نعم وقد بررت بقسمي وقلت فيه أو في نفسي هذه الأبيات:
ألخ.. ألخ …
واسترحت بعد أن أعملت فيه هذه السيوف الضاربة في الهواء، ولم أعد أبالي هذا الزنجي المسكين بعد أن عرفته «مقامي» ورميت إليه بهذا «البلاغ النهائي» واستطعت أن أدير عيني فيما حولي وأن أرى، وكان الناس قد بدأوا يفلون، ورجال الموسيقى يصلحون آلاتهم، وقد كنت ومازلت أمرأ بلذ له أن يراقب إصلاح هذه الآلات وإعدادها للعزف وتهيئتها لإخراج الأصوات المنشودة، ولذلك عندي وفي ملتي عملية سيكولوجية، وللنفوس كما لهذه الآلات أوتار تحتاج إلى المعالجة والإصلاح والإعداد ولكم عجبت لمن يحسب أن في وسع الكاتب أو الشاعر أن يكتب أو ينظم في أي موضوع وفي أية ساعة من ساعات الليل أو النهار وفي كل حالة من حالات النفس، وقد يتخذ بعضهم ذلك دليلاً على القدرة وما هو بدليل إلا على أن النفس ضيقة محدودة الجوانب كالبيانو والميكانيكي الذي يحمله المتسولون والذي لا يحتاج إلى ضارب أو لاعب ولا يتطلب منك إلا أن تدير مفتاحه فيخرج لك أنغاماً معينة لا يعدوها أبداً، على خلاف البيانو العادي أو الكمنجا التي تستطيع أن تنطقها بما تشاء وتوقع على أوتارها ما تحب والتي يسعها أن تؤدي لك كل ما تستطيع ابتكاره من التوافيق والتواليف الموسيقية.
ولم يدهشني، وأنا أنظر إلى المرآة في تلك الليلة وأتأمل الشيب الذي انطلق في رأسي، وأفكر فيما أسلفت عليه القول أن أحس بالهرم وأشعر كأني شيخ هرم محطم الأعصاب مهدود الكيان، ألست صحفياً؟ ألا تتقاضاني هذه الحرفة التي أدركتني كل يوم. وأن لا أستريح يوماً. أليس معنى هذا أني في كل يوم حين أريد الكتابة، أقسر أعصابي على أنتكون في حالة لم تتهيأ لها من تلقاء نفسها تهيؤا طبيعياً؟؟ وإذا كان المرء لا يفتأ كل يوم يثني أعصابه ويكرهها على حالات مختلفة ويصبها فيها.. أفيكون عجيباً بعد ذلك أن يشفى الجهاز العصبي على التحطم من توالي هذا الإجهاد والإرهاق؟ وهذا شر ما في الصحافة وأقسى ما نرجو منها، ولقد صدق من قال — ولعلي أنا القائل ذلك «فما أدري على التحقيق «إنها مهنة يجب أن يكون أمل المرء ومطمحه من ورائها أن يعجل بالخروج منها وتطليقها».
وابتسمت إذ عرفت من بين الموسيقيين واحداً لم تغيره هذه السنين التي غيرتني ولم تشب في رأسه شعرة ولم تتركه إلا غضاً بضاً كما كان. وكدت أومن بالخلود في الدنيا وأنا أنظر إليه وأعجب له وأقول: أتراه ذوى وذبل ثم عاد فربا واهتز كالشجرة، وعاد أخضر بعد أن كان أصفر؟؟ أسبع سنين لا شيء حتى تدع إنساناً كما كان ولا تخلف أثراً في وجهه أو هيئته أو مظهر قوته؟ وفكرت في طبيعة الزمن وسره المحجب وفي قول تنيسون في زهرة: لو استطعت أن أعرف ماذا أنت من أصلك إلى فرعك لعرفت ما الله وما الإنسان، أو شيئاً بهذا المعنى، وهذا صحيح فإن في أدق ما في الكون كما في أجله وأضخمه جماع السر، فالقطرة من الماء اختزال للمحيط، وفي الذرة من الرمل معنى الصحراء ومن فهم «لحظة من الحياة» فأخلق به أن ينفتح له معجم الحقائق كلها ولكن ما هي اللحظة؟ إن الزمن استمرار غير منقطع وليس هو بسلسلة من اللحظات المنفصلة منظومة كالعقد، وإنما هو لحظة واحدة وحركة واحدة لا ابتداء لها ولا نهاية يستطاع تصورها والحياة تغير مستمر وليس بصحيح أن شيئاً فيها — لا التاريخ ولا غيره — يعيد نفسه.
وبدا لي وأنا غارق في هذه الخواطر كأن صاحبنا الموسيقي يقول لي على سبيل الاعتراض — ولكن حياتي أنا ليست سوى إعادة مكررة. وكل يوم عندي ككل يوم. فأنا أقوم عند الظهر وأحلق وأفطر — أو أتغذى إذا شئت — وأراجع بعض الأصوات أو الأدوار ثم في المساء أركب الترام إلى قريب من هنا وأقضي الليل إلى الفجر في هذا العزف، فهل من شك في أن ركوبي الترام ما بين منزلي وهذا المرقص تكرار وإعادة؟؟ إن العوامل كلها واحدة فكيف تكون النتيجة مختلفة؟
قلت دفعاً لهذا الاعتراض — كلا يا سيدي ليست العوامل واحدة فإنها جميعاً مختلفة متباينة، وهذا أوضح من أن يحتاج إلى بيان ولكني رغبة مني في إقناعك أغفل من حسابي كل ما هو عرضي وأفرض جدلاً وإكراماً لخاطرك أن المعجزة تقع كل يوم وأن كل شيء في الترام يبقى كما هو يوماً بعد يوم، فلا يتغير مقعدك فيه ولا ينقص أو يزيد أحد من راكبيه، ولكنه يبقى بعد ذلك أن عمرك زاد يوماً بمضي يوم، وإذا أسقطنا هذا أيضاً ولم نر قيمة فإنه يبقى أن حادثة السبت مقترنة بالسبت لا بالأحد لأنها سابقة له وهو لاحق بها، وفي وسعك أن تركب هذا الترام مائة مرة أو مائتي مرة ولكنك لا تستطيع أن تركبه مرتين للمرة الأولى أو مرتين للمرة الثانية أو للثالثة وفي قدرتك أن تقلد عملاً صدر عنك ولكنك لا تقدر أن تعيده أو تكرره، لأن «الآن» حقيقة فذة ينطوي فيها كل الماضي الذي لا يعيش إلا في الحاضر، وليت ثم لا ماض ولا مستقبل إلا تخيلاً، ولا شيء حقيقي أو شبيه بالحقيقي غير الحاضر. والماضي لا يتمثل للذهن إلا بالذكرى أو الأثر، والمستقبل لا يستطاع تمثله إلا فكرة.
وخفت إذا أن استرسلت في هذه الخواطر أن يتغير عنواني وينتقل إلى «العباسية» فجعلت بالي إلى الموسيقى وإلى صاحبنا الذي يرمقني بعين ويرمق النوتة التي يعزف منها بالأخرى من غير أن يؤدي ذلك إلى تفكك في شخصيته، وأدرت عيني في جمهور الراقصين المتخاطرين فأثار المسمع والمنظر ذكريات وألمح إلى نبوءات وأنشأ رغبات وأوجد مخاوف، ولم يسعني إلا أن أعجب للحاضر — وأنا أعني به اتصال الشخصية أو ما يسمونه الـ«ايجو» بما يحيط بها في هنيهة من الزمن — أقول لم يسعني إلا أن أعجب للحاضر وكيف أنه لا يشغل إلا حيزاً ضئيلاً جداً من وعينا، وللعقل الإنساني وكيف أنه لا يستطيع أن يفطن للحادثة أو يدركها حق الإدراك إلا بعد أن تمضي ولو بثانية واحدة أو بعض الثانية، أي بعد أن يكون العقل قد لحق بها وكون لها صورة معينة. ذلك أن الحادثة عبارة عن حركة أو تدفق ونحن لا ندرك الحادثة ولكن صورتها والجانب الأكبر من حياتنا العقلية عبارة عن تذكر للماضي — أي ما كان — وتوقع دقيق أو غير دقيق للمستقبل أي ما سيكون. ويمكن تقريب ذلك بمثال — صديقان — محمد وعلي — يلتقيان فتقوم عينا كل منهما بتبليغ هذه الحادثة ويتولى العقل تسجيلها ولا يستغرق ذلك شيئاً يذكر من الزمن، ولكن المهم والذي يعنينا هو أن هذه الحادثة لا تدرك إلا بعد تمامها ووقوعها. أي أن كلاً من محمد وعلي لا يشعر بلحظة اللقاء إلا بعد أن تمر وتلحق بالماضي. وشرح ذلك أن محمداً يرى بعينيه صورة من صاحبه على فيما نسميه الحاضر، ولكنه بعين عقله يرى أيضاً صورة مؤلفة من ذكريات اجتماعاته السابقة بعلي. ومقدار التوافق بين الصورتين هو الذي يجعل محمداً يعرف أن هذا هو علي وكذلك مبلغ سروره بلقائه أو كراهيته له مرجعه إلى ذكر ما كان علي قد قال أو فعل فيما مضى، وإلى ما ينتظره — استناداً إلى الماضي — أن يفعل أو يقول في المستقبل.
وقس على هذا غيره، فالذي يدخل غرفة مثلاً دخلها قبل ذلك تسعاً وتسعين مرة يدخل في الحقيقة ما يصح أن نصفه بأنه مائة «رواية» لهذه الغرفة، والذي يدخلها لأول مرة لا يعرف أي شيء هي إلا بفضل تجربته السابقة لغيرها من الغرف. ذلك أن الإدراك مستحيل بغير الذاكرة وربما كانت الحياة نفسها مستحيلة بغير الذاكرة الواعية «التي تكون وراء الوعي» إذ كانت الغريزة ليست إلا نوعاً من الذكرى. والعقل يعيش في الماضي لأنه يعجز عن إدراك الحاضر ولا يستطيع أن يدرس إلا ما وقع أي تم أو بعبارة أدق لا يدرك إلا صورة يستريح إلى التسليم بأنها مطابقة للحقيقة، ومعنى ذلك أننا نعيش ونحيا بين الصور التي نرسمها لتيار الحياة، وليست صورة المستقبل في أذهاننا إلا مرقعة من صورة الماضي.
ولما وصلت إلى هذا الحد وجدتني أسأل نفسي: إذا صح ذلك أفلا يكون التفكير الإنساني كله خرافة؟ وإذا كانت درجة التطابق بين هذه الخرافة وبين الحقيقة ليست مما يمكن تعيينه أفلا يمكن تعيينه أفلا يكون الشك مطلقاً؟!
وهربت من الجواب بنظرة إلى المرقص، وكرعة روية من الشراب قلت بعدها لنفسي: إن فلسفة هؤلاء الراقصين أمتع من هذه الفلسفة التي لا آمن أن تؤدي بي إلى الشك في وجودي إذ كيف أستطيع أن أثق بحواسي وبما تنهيه لي إذا أطردت هذه الأقيسة وجرى بي هذا المنطق إلى غايته؟ وما لي إلا أن أستنيم إلى مثل فلسفة هذه الخلائق المغتبطة؟ وبأي شيء تفضل فلسفتي فلسفاتهم؟ وإلى أي مدى أبعد تبلغ بي؟ اسمح لي إذن بقدح آخر أيها الزنجي المحترم وصفحك عن هجائي الذي لم يضرك ولم تشعر به.