أمي
لا أعرف الأمهات كيف يكن، ولكني أعرف أمي كيف كانت، وأجمل التعريف بها وأوجز الوصف فأقول: أنها كانت «رجلاً» وأحسب أن النساء لا يرضيهن ثناء كهذا يسلبهن أنوثتهن، وإن سرهن ما فيه من معنى الاكبار ولكن أمي لم يكن لها بال تجعله إلى شيء من هذا؛ فقد اضطرت أن تمحق أنوثتها في سن يبدأ فيها النساء — أو معظمهن — يعرفن معنى الأنوثة الكاملة؛ فقد مات أبي وهي في الثلاثين من عمرها؛ وأذاقها في حياته ما سود الدنيا في عينيها وأنساها أنها امرأة كالنساء، وكان أبي — رحمه الله — مزواجاً، وكان حبه للتركيات وافتتانه بهن عجيبين، ومن فرط حبه لهن كرهتهن أنا؛ وكان يذهب كل بضعة أعوام إلى الآستانة فيبقى فيها ما شاء الله أن يبقى ثم يعود بزوجة من هناك يعايشها سنوات ثم يملها ويشتهي غيرها، فيسرحها بإحسان ويردها ويجيء بغيرها، وهكذا.
وتركنا أبي ذوي مال فأكله أخي الأكبر — أعني أنه أنفقه باليمين وبالشمال حتى أتى عليه — فلولا لطف الله لتسولنا، أو على الأقل لما أمكن أن نتعلم، ولكان المازني الآن — على الأرجح — نجاراً غير حاذق، أو شيئاً من هذا القبيل، ولكن أمي كانت حازمة مدبرة، فوسعها بالقليل الذي أسعفها به حسن الحظ أن تربينا وتقينا المعاطب.
ولست أذم أبي أو أنتقصه، وما يسعني أن أفعل ذلك وقد كانت أمي تثني عليه، ولا تني تذكره بالخير؛ ولم تنقطع قط عن زيارة قبره في اثنتين وثلاثين سنة عاشتها بعده؛ وكنت ربما مازحتها فأقول لها: «وماذا كان يعجبك في هذا الرجل؟»
فتبتسم وتزجرني بلطف، ثقة منها بأني أهزل ولا أتكلم جاداً؛ فأتعمد الإثقال عليها وأقول: «صحيح والله! — ماذا كان يعجبك فيه؟»
فتقطب وتقول: «عيب يا ولد!» وتنظر إلى سبحتها بين أصابعها.
فأقول: «ولكنه كان مزواجاً».
فتقول: «يا بني هذا قضاء الله وقدره؛ وما كنت أكره له هذا إلا خوفاً عليه».
فأقول معبثاً: «أو غيرة منهن؟»
فتقول: «يا قليل الحياء — اذهب عنى اذهب».
فأبقى ولا أذهب؛ وأقول: «لقد رأيت آخر زوجاته تلك؛ وأشهد أنها كانت جميلة وأبي كان معذوراً».
فيضيق صدرها وتقول: «ألا تنوي أن تستحي؟»
فأسألها: «من أي شيء؟»
فتقول: «إنه أبوك..».
فأقول لأهيجها: «سلمنا يا ستي..».
فتصيح بي: «سلمت! يا قليل الحياء.؟»
وتتناول الحذاء لتضربني به ولكني أكون قد ذهبت أعدو؛ فتقذفني به وتعلن إلي أنها لا تريد أن ترى وجهي بعد اليوم.
ولكني لا ألبث أن أسترضيها واستغفرها وأقبل يديها ورأسها. فما كنت أطيق أن أدعها عاتبة أو ساخطة أو متألمة، ولو وسعني أن أجعل حياتها نعيماً خالداّ وسروراً دائماً وجذلاً لا تنضب ينابيعه ولا تجف موارده لما قصرت ولا كنت صانعاً إلا بعض ما يجب لها فتعفو عني وتدعو لي وتدنيني منها وتمسح لي رأسي كأني مازلت طفلاً.
ولما نجحت في امتحان الشهادة الابتدائية جاء أخي وابن عمتي مهنئين، وأشارا عليها بأن تكتفي من تعليمي بهذا القدر، لما كنا فيه من العسر، فأبت، فألحا فأنكرت ذلك منهما وزجرتهما عن اللجاجة فيه، فلم ينهزما. وأنذرها أخي — وكان غير شقيق — أنه قابض يده عن كل معونة. وكانت معونته متقطعة لا خير فيها ولا اعتماد عليها لضآلتها وقلة الانتظام فيها، فلم تعبأ بذلك وأصرت على المضي في تعليمي إلى نهايته المقدروة.
وكانت أمي — على صغر سنها — زعيمة الأسرة. وكان أهلي جميعاً يلجأون إليها يطلبون رأيها فيما يعرض لهم، وفصلها فيما يقع بينهم من المشاكل. وقد كان موت أبي؛ وأنا في التاسعة من عمري. وكنت — ومازلت مع الأسف — أكبر ابنيها، فصارت تعاملني على أني رب الأسرة وسيد البيت وتعودني احترام النفس والتزام ما يقتضيه مقامي في البيت وتستجوبه زعامتي للأسرة. وتنتهي إلى «مسئولياتي» وإلى التبعات التي يحملها «رجل» مثلي. وكانت حاذقة كيسة في سلوكها فلا نهر ولا زجر، ولا أوامر ثقيلة ولا نواهي بغيضة. ولا شطط أو إسراف، ولا تقصير أو تفريط، ولا إشعار بأن لحريتي حدوداً ضيقة غير معقولة أو محتملة وإن كانت الرقابة على هذا دقيقة وافية، أذكر وأنا في المدرسة الثانوية أني عوقبت مرة بالحضور إلى المدرسة في منتصف الساعة السابعة صباحاً (السادسة والنصف) وكان هذا عقاباً جائزاً في ذلك الوقت وكان البيت في حي السيدة زينب والمدرسة في شبرا، وبينهما «أبعد مما بين بصرى والحرم» فأخبرتها وخرجت من البيت قبيل الفجر وأنا أخشى أن أكون قد تأخرت، فقلقت وذهبت بها الظنون كل مذهب، ولكنها لم تقل شيئاً. فلما كان الضحى ركبت إلى المدرسة وسألت البواب فأخبرها أن تلميذاً جاء في الفجر وأيقظه ليدخل فرده فظل يتمشى حتى طلع النهار، فعادت مطمئنة ولم تخبرني بما فعلت إلا بعد عدة أعوام لمناسبة عرضت.
وكنت وأنا صغير أدخن. خفية، وكانت على غير علم مني تراقبني. فإذا نمت تأخذ ما يكون معي من السجاير، فإذا أقبل الصباح لم أجد شيئاً وظللنا على هذا المنوال أياماً — أشتري السجاير كلما ساعفتني الموارد، وهي محدودة جداً وهي تسرقها بالليل ولو أخفيتها في بئر، ثم خفت أن تسألني فلا أستطيع أن أكذب وخجلت أن أعترف بهذه الحماقة الصبيانية وحالت رقة الحالة دون الاحتمال، فأقلعت. حتى كبرت.
ومن حنانها العجيب أنها كانت إذا مرضت ووصف لي الطبيب دواء لا تدعني أجرع منه إلا بعد أن تجرع هي منه. وكثيراً ما كنت أقول لها: «يا أمي كفي عن هذا!»، فتقول: «يا بني إنه قلب الأم» فأقول: «ولكنه عمل لا نفع منه» فتقول: «نعم، ولكن ليطمئن قلبي».
ولما أتممت التعليم الثانوي، حرت إلى أي مدرسة عالية أذهب. فسألتني أيها أوثر، فقلت: الطب، قالت: «فاذهب إلى مدرسته وقدم أوراقك» ففعلت ولكن ناظرها المستر كيتنج رمى بأوراقي إلى الشارع لأني يوم الكشف الطبي دخلت قاعة التشريح فرأيت جثة منتفخة تفوح منها رائحة نتن خبيث، فدار رأسي وأغمي علي، وكان الناظر مقبلاً فرآني فقال هذا لا يصلح. فاطردوه.
وعدت إليها فأخبرتها الخبر. فلم تجزع كجزعي وهونت علي الأمر وقالت: «لم يبق إلا «الحقوق» فاذهب بأوراقك إليها» ففعلت وضمنت القبول ولكن الوزارة زادت «المصروفات المدرسية» من خمسة عشر جنيهاً إلى ثلاثين. فاسترجعت أوراقي فما كان لي قبل بهذه الثلاثين كل عام. وشاء الله أن تفتح مدرسة المعلمين العليا فدخلتها.
واستقلت من وزارة المعارف بعد أن اشتغلت بالتدريس فيها خمسة أعوام، وكانت الحرب الكبرى قد استعرت. فجئتها يوماً بقراطيس فيما مرتبي نقوداً فضية فألقيتها في حجرها وقلت: «هذا آخر ما أقبض من مال الحكومة».
قالت: «يعني؟» قلت: «إني استقلت» قالت: «على بركة الله».
ولكني أرقت ليلتي. فقد كانت الدنيا قائمة قاعدة. والأحوال مضطربة. وكانت الحكومة قد أعلنت «الموراتوريام» — أي تأجيل الدفع الجبري — فجاءت تسألني عن سر هذا الأرق فأفضيت إليها بما يساروني من المخاوف وندمي على الاستقالة وجزعي من هذا الغمار الجديد الذي أقدمت على خوضه فقالت: «لا تقدر البلاء قبل نزوله. قم فنم وتوكل على الله لقد كنت أنا مستعدة أن أعمل بيدي في سبيل تربيتك، فكن أنت مستعداً أن تعمل حتى بيديك إذا احتاج الأمر، وثق أنك لن تخيب، فإني داعية لك راضية عنك». فوالله لقد صرت بعدها إنساناً ثانياً.
وكانت — عليها رحمة الله — تتوخى أن تعفيني من المنغصات وتتجنب أن تحملني الهموم فتستقل بها دوني وتتحرى ما يدخل على نفسي السرور ويشيع فيها الغبطة والرضى، ويفيض على البيت الايناس والبهجة. وكانت ذاكرتها قوية، فكانت إذا جلست للسمر تتدفق بأحاديث الأيام السوالف وكأنها تحياها من جديد، فلا يغيب عنها حرف ولا يفوتها لون. وكانت لقوة ذاكرتها سجلاً عاماً للأهل والصواحب، فمن نسي شيئاً فما عليه إلا أن يلجأ إليها. وكانت صديقاتها يستودعنها حسابهن، وكثيراً ما كان يحدث أن تجئ الواحدة منهن فتقول لها: «إن فلانة الدلالة تزعم أن علي لها مبلغ كذا، فما هي الحقيقة؟» فتخبرها الحقيقة فتقوم عنها ويكون هذا هو القول الفصل.
وكانت قوية الشكيمة فلا رأي إلا رأيها في الأسرة كلها، وإن كانت صغرى أخواتها، وكثيراً ما كانت نفسي تحدثني أن أنازعها السيادة، ولكنني كنت لا أكاد أهم بذلك حتى أرتد، وكان يكفي أن ترمي إلي نظرة وتقول: «استح يا ولد»فيتحلل العزم وأهوي على راحتها باللثمات.
وكانت تكتفي بالنظرة الأولى إذا أمكن أن تستغني عن الكلمة، فكنا نتفاهم بالعيون والذين حولنا غافلون لا يفطنون إلى شيء، فمن ذلك أنها لما حضرتها الوفاة قالت: «أعطني ثلاثين قرشاً» ولم تكن بحاجة إلى ذلك.
وكنت قد أعددت عدتي لذلك اليوم، فأدركت أنها تريد أن تطمئن على أن معي ما يكفي لنفقات المأتم، وكانت جريدة السياسة معطلة والأزمة مستحكمة فأخرجت ما معي وقلت لها: خذي ما تشاءين، فأخذت جنيهاً دسته تحت الوسادة فظل حيث وضعته حتى ماتت.
وكانت قد أصيبت فجأة، وفي منتصف الليل، بذبحة وكانت من شدة التمزيق الذي تحسه في صدرها تخبط بيديها في الهواء كالذي ألقي به في الماء وهو لا يعرف السباحة، وظلت تقاوم الداء تسعة أيام بقوة إرادة الحياة. ولم أر منها ما يدل على التضعضع والانهزام إلا قبيل الوفاة بدقائق. وكنت أناولها الدواء، فأشاحت بوجهها عنه، فألححت، فقالت: إرضاء لك فقط». وشربته، ثم نامت فوضعت يدي على فمها فلم أشعر بنفس.
وقد ظل أخي زمناً لا يغفر لي أن خدعته وكذبت عليه.
تلك هي أمي، أو تلك هي بعض خطوط الصورة. وإني لجليد في العادة، ولكن موتها هدني. فقد كانت لي أماً وأباً، وأخاً وصديقاً.