أساتذتي
أكبر أساتذتي. وأولاهم بالتقديم، وأحقهم باستيجاب التعظيم، اثنان. وقد علمني غيرهما أشياء كثيرة بعضها نافع، وبعضها لا أعلم — ولعلي مخطئ — أني انتفعت منه، من مثل القراءة والكتابة والحساب والتاريخ والرطانة بلسان أجنبي. إلى آخر هذا وقد نسيت أكثره لأني لم أحتج إليه بعد أداء الامتحان فيه أما دروس هذين الأستاذين الجليلين فإنها مما لا ينسى.
ولابد من تمهيد للتعريف بهما فإنهما أسمى مقاماً وأجل شأناً وأعمق أثراً في حياتي من أن أضن عليهما بكلمة تقديم وجيزة.
كان أبي في سعة من الرزق، وكان محامياً ومكتبه في بيته، على عادة أهل ذلك الزمان وكنت أخرج إلى الطريق ومعي أخي الأصغر لنلعب، فننفق ما معنا ونحتاج إلى سواه، فأدخل على أبي في مكتبه وهو مكب على الورق فأقف ساكناً ساكتاً حتى يرفع رأسه، فأغتنم الفرصة وأقول «أبويا! أبويا. هات قرش» — وكان «بابا» لفظاً لا نعرفه ولا سمعنا عنه فيدخل أصبعين في جيبه ويخرج ما يقعان عليه، وقد يكون قرشاً، أو نصف فرنك، أو «واحدة بخمسة».
ثم مات عليه الرحمة، وأنا مازلت طفلاً في السنة الأولى الابتدائية وخلف مالاً ليس بكثير ولكنه فوق الكفاية، ومضى عام أو نحوه، ونحن لا نشعر بأن شيئاً تغير من حياتنا سوى أن أبي خلت رقعته، وجاء يوم دعتني فيه أمي إليها وكانت على الرقة المفرطة في قلبها تستطيع أن تكون صارمة الجد حادة قاطعة كالسيف، غالبة كالقدر. وقالت لي وهي تغالب التمزيق الذي في قلبها وصدرها التمزيق الذي قضت به نحبها بعد ثلاثين سنة وزيادة لم تخلع فيها السواد إلا قبل وفاتها بشهور — قالت: «يا إبراهيم! لا كرة بعد اليوم».
وكنت مغرى بلعبها في الحارة مع لداتي، من أبناء الجيران، وكنت أنا الذي يشتري الكرات للعبنا وكنت أوثر الملونة المخططة لا لألوانها بل لأنها أغلى. فدهشت وسألتها عن السبب، وقد كبر في وهمي أني لعلي أسأت الأدب أو أتيت ما يعاب، ولكنها قالت: «أخنى علينا الدهر يا إبراهيم وان الدهر يا ابني لمظلوم، ولكن لا داعي لكثرة الكلام فما في ذلك فائدة، والذي أريد أن تعرفه هو أننا افتقرنا».
•••
فكان أول ما خطر لي هو أن أسألها: (هل معنى هذا أننا سنجوع؟) فطمأنتني وقالت: (لا أظن! إن عندي أشياء لا حاجة بي إليها — مصوغات، وأثاثات وما إلى ذلك — وسأبيع منها ونقتات، والله المسئول أن يسترنا، وأن يلهمنا حسن التدبير).
واختفى شبح الجوع الرهيب، فتنفست الصعداء ووسعني أن أرتد طفلاً فأسألها: (كيف ألعب إذن؟)
قالت: يا ابني إن الكرة ليست أكثر من مشجع على النط والجري والحركة على العموم، فنط، واجر وتحرك بغير كرة».
وهو كلام معقول، ولكنه لم يعجبني وكيف أكف فجأة عن اللعب بالكرة وأنا الذي كان يزود بها أترابه؟ ورأت سهومي وتقطيبي فلم تترفق بي، على فرط حنوها بل زادت عليّ شدة وقالت: (واسمع يا إبراهيم. إنك لم تجاوز العاشرة، ولكني أحب أن تعد نفسك من الآن، رجلاً فتسلك سلوك الرجال لا الأطفال).
•••
في هذه اللحظة قطعت الطفولة كلها وثباً — وما كنت إلا ابن عشر، ولكن أمي تقول لي إني أصبحت رجل البيت وسيده والمسئول عنه — عن أخي الصغير وعن أمي وجدتي لأبي. كل هؤلاء مسئولون مني أنا الذي لا يزال يتعلم الجمع والطرح والضرب وكلمات من الإنجليزية لا يحسن أن ينطقها! مسئول عن هؤلاء وبي حاجة إلى من يتعهدني، ويبرني ويسرني ويهذبني ويؤدبني!
وكان هذا أول أستاذ لي — أعني الفقر — وإنه لأستاذ السواد الأعظم والجمهور الأكبر من الخلق ولكنه كان يلقي عليّ دروسه كما تهوي العصى على أم الرأس!
•••
فقدت الثقة بالناس، وانطويت لهم على سوء الظن، والتحرز، وإذا كان أخ أكبر — غير شقيق — يستطيع وهو آمن، أن يجني على إخوته وأمهم وجدتهم، فما ظنك بالغريب، وصار همي بعد ذلك أن أتوخي الستر، ورضت نفسي على الاحتشام، وجنحت إلى العزلة. شيئاً فشيئاً، وتوخيت الأدب حتى لا يسيئه معي أحد. وأبيت أن أرفع الكلفة مع الإخوان لتظل العلاقة قائمة على المودة والاحترام. وجعلت للساني لجاماً من نار، حتى لا يجري بكلمة يجرؤ غيري علي بمثلها. وأوجز فأقول؛ إن الفقر المباغت أورثني عقدة نفسية ما زلت أعالجها إلى اليوم، فأقول لنفسي فيما أقول إن هذا الفقر حماني تطري المدللين، وأكسبني جلداً، وأفادني قوة نفس، وجرأة في الكفاح، وصبراً عليه. وإني لفخور بما قدرت عليه من الوقوف على قدمي بلا معين سوى الله، وأمي بعده، ولكن الضعف يعروني أحياناً فأتساءل: ما ضر لو زادت الدنيا مرفها مدللاً متطرياً آخر؟؟ أكانت تخرب أكان لابد لصلاحها أن أشقى وأتعذب هذا العذاب الغليظ.
•••
يدور بنفسي هذا المعنى إذا تخلل بي الإعياء، ثم أتذكر أني لما كبرت، وتخرجت، وصرت معلماً يتقاضى في الشهر اثنى عشر جنيهاً مصرياً ذهباً لا ورقاً تصوروا هذه الثروة الضخمة في سنة ١٩٠٩! — وطبعت الجزء الأول من ديوان شعري — تالله ما كان أحمقني! — أخذت أول نسخة منه أخرجتها المطبعة وزرت أخي الأكبر الذي جنى علينا ما جنى، وكنت — على نقمتي عليه — أحبه وأحترمه ولا أجرؤ أن أناديه باسمه، فإذا احتجت إلى النداء قلت: «أخويا! أخويا!» ذلك كان أدبنا قديماً — فأخذها مني وفتحها، وقرأ الإهداء، وهو أبيات ليست فيه ولا له، وإذا الدموع تتساقط على خديه ولحيته. فجزعت، وكنت وأنا أقدم له هذه الهدية. وعليها كلمة بخطي، أشعر بشماتة مضمرة أو بأني أدركت ثأري كأنما أقول له، هذا أخوك الصغير الذي أفقرته، وكدت تلصق بطنه بالتراب قد استطاع أن يغالب الفقر وأن يصبح شيئاً له حساب وقدر، وأن يكون شاعراً، وأما أنت فماذا؟ ضيعت مالنا، وكسبت مالاً غيره. ولكنك مع هذا لست بشيء: من يعرفك من يذكرك؟».
ولكني خجلت حين رأيت دموعه. والدم لا يكون ماء، فنهضت إليه وقبلته بين عينيه، ولثمت لحيته، وانصرفت بلا كلام. لقد غفرت له دموعه فما رأيته يبكي قبل ذلك قط، ولو كان لي دمع يراق لبكيت في ذلك اليوم.
•••
أي نعم أستاذي الأول الفقر — هو الذي آتاني القوة والمقدرة على الكفاح وعلمني التسامح والترفق، والعطف، وإيثار الحسنى وعودني ضبط النفس وتوخي الاتزان، وجنبني العنف والقسوة والفظاظة، وحبب إلي الفقراء، وفتح عيني على القيم الحقيقية للناس والأشياء والحوادث، ودربني على نشدان الخبر من وراء المظهر، وجنبني أن أحترم المال لذاته، وحماني أن أغمط الفضل والحق، والحمد لله!
•••
أما الأستاذ الثاني — بورك فيه — فهو الضعف، وأقول بإيجاز — فقد أطلت — إنه علمني أن الإنسان ليس حماراً أو بغلاً أو فيلاً، وإن المعول ليس على قوة بدنه ومتانة أسره، فتلك قد تكون مزية الحيوان، ولكنها ليست مزية الإنسان، وإنما قيمة الإنسان بعقله وفضله، وسعة حيلته، وحسن تأتيه وسداده وتدبيره، وقدرته على الابتكار، وعلى أن يستطيع أن يقول في غير زهو — إنه لم يعش عبثاً، وإنه نهض بعبء الحياة، وأدى فرائضها. على قدر ما تيسر له والحمد لله مرة أخرى.
وإني الآن لأعرض على عيني ما كان في حياتي، فأقول إني لو كنت خيرت، لكان الأرجح أن أضل وأسيء الاختيار، وإن حياتي كانت كما ينبغي أن تكون ولهذا تراني راضياً شاكراً لله فضله ومنته.