بركَة العجز
أرجو أن لا يظن القراء أني أتواضع أو أقول غير الحق حين أقول إني أخيب صحفي على ظهر هذه الأرض، ومازلت بعد ثلاثين عاماً من اشتغالي بالصحافة عجز خلق الله عن استقاء خبر، وليس أبغض إلي ولا أثقل على نفسي من الاضطرار إلى مقابلة أحد ممن يظن أن عندهم العلم بأمر من الأمور، ولقد احتجت مرة إلى زيارة وزير العدل — وكان يسمى وزير الحقانية — فلما قابلت «الوزير» وحادثته فيما جئت له، تبينت أني خلطت، وأن هذا وزير «الداخلية» وحسبي هذا في بيان جهلي حتى بدور الوزارات!
ولكني على جهلي وخيبتي فزت مرة بثناء طيب من المغفور له سعد زغلول. رأيت سعد باشا أول مرة وأنا طالب في مدرسة المعلمين، وهو وزير أو «ناظر» للمعارف، وقد زار المدرسة، ودخل علينا وراءه المستشار الإنجليزي (دنلوب) وغيره من كبار الموظفين، فخلفهم وراءه — واقفين في أدب — وتقدم إلى الصف الأول وأقبل علينا يناقشنا في معنى «الحرية» ومأخذها. وأحسب أن هذا كان أول درس لي في «الحقوق» و«الواجبات»..
وقد رأيت بعد ذلك — وأنا معلم — وزراء للمعارف كان المستشار (دنلوب) يزور المدارس فينحيهم، ويؤخرهم، ويتقدمهم غير عابئ بهم، حتى لقد كبر في وهمي مرة أن أحد هؤلاء الوزراء» «سكرتير» أو موظف صغير فلم أحفل به! ولم يسوئه سوء أدبي!
ودارت الأيام وقامت الثورة، ونفي سعد زغلول، ثم أطلق سراحه وذهب إلى باريس ثم عاد إلى مصر، فأوفدتني جريدة «الأخبار» التي كان يصدرها المرحوم أمين الرافعي بك إلى الإسكندرية، لأكتب لها وصف استقبال سعد.. وعدت في القطار الخاص معه، واضطررت أن أحمل حقيبتي من محطة مصر إلى ميدان الفلكي، لأني ل أجد لا سيارة ولا مركبة خيل، ولا رجلاً يجملها عني، لأن الدنيا كلها مضت وراء ركب سعد..
ومضى الليل، وطلع النهار فحدثت معجزة.!
ذلك أني كنت قبل ذلك بعام قد نزل بي مصاب رجني رجة شديدة، وأتلف أعصابي، فآثرت أن أتخذ مسكناً لي بين المقابر، وكان موقعه موحشاً، والقبور حوله تقبض الصدر، وكانت لي قريبة كلما زارتني تقول لي: «يا ابني ما هذا؟ كلما نظرت من النافذة اضطررت أن أقرأ الفاتحة! ولكنني كنت أجد في هذه الوحشة أنساً، وكنت لا أكاد أطيق رؤية الناس، وبلغ من تلف أعصابي أني كنت إذا تناولت الصابون لغسل يدي مثلاً، أشعر أن فيه «شعراً» فخفت على نفسي وطلبت الراحة والسكون، وأي سكون أتم من سكون الموت؟ وطبيعي أني كنت أعرف «التربية» — بضم التاء — وفي صبيحة اليوم التالي لعودة سعد، خرجت من بيتي في نحو الساعة العاشرة لأستقل الترام إلى جريدة «الأخبار» على عادتي كل يوم، ووقفت أنتظر الترام، وإذا بشيخ «التربية» المرحوم الشيخ عبد الخالق الطحاوي يخرج في سيارته مسرعاً، فلما رآني تمهل وأخبرني أن سعد باشا آت لزيارة مقابر الشهداء وأنه ذاهب لاستقباله عند القلعة وان هذا الخبر سر لا ينبغي أن يذاع، وهذه رغبة سعد.
وتركت الترام وانتظرت، وبعد قليل أقبلت سيارات في الأولى سعد وواصف غالي باشا، وفي الثانية أمين بك يوسف والمرحوم سينوت بك حنا، فأشرت إليهما وركبت معهما، وزرنا مع سعد مقبرة المرحوم مصطفى باشا فهمي صهره ثم مقبرة الشهداء المسلمين. وفيها ألقى سعد خطبة وجيزة كتبتها على ركبتي، فما كان ثم مقعد أو حائط، ثم انطلق الجمع إلى مقبرة الشهداء الأقباط في شارع الملكة نازلي، وهناك خطب سعد أيضاً مترحماً على الشهداء، حاضاً على الجهاد بالمال والنفس في سبيل الوطن، وهناك أيضاً. سلم علي سعد، وشكرني ولم يزد، وعاد إلى سرادق مضروب بجوار بيت الأمة وخطب أيضاً، ثم ذهبت إلى «الأخبار» ودخلت على المرحوم أمين بك الرافعي اعتذر من التأخر فضحك رحمه الله وقال: «لقد أبلغني سعد باشا أنك رافقته في زيارته لمقابر الشهداء، وهو يستغرب جداً أنك علمت بأمر هذه الزيارة مع أنه أخفاه حتى عمن رافقوه، وهو يثني عليك ويقول أنك أبرع صحفي، وإن ما كان منك يشبه السحر!».
وضحك أمين بك وقال: «طبعاً لم أفضح السر، ولم أقل له إن بيتك بين المقابر!».
وهكذا فزت بثناء لا أستحقه، ولا فضل لي فيما استدعاه وإنما الفضل لمجاورتي يومئذ لأهل القبور!
وأذكر أن سعد قال لي فيما قال: إن الرقيب قد حذف من خطبة له في الإسكندرية بعض الكلام فقلت له: إن هذا غير صحيح، والحقيقة أني أنا الذي حذف العبارة التي ظهر في مكانها بياض، وذلك لأن «فلاناً» — ولا داعي لذكر اسمه الآن — أخبرني أنك أنبته عنك في مراجعة خطبك لأنك ترتجل الكلام وقد تقول ما لا يحسن نشره الآن، أما الرقيب فقد أخبرني أن رئيس الوزراء — وكان عدلي باشا — أمره أن لا يقرأ خطبك أو أحاديثك أو تصريحاتك، قبل نشرها.
فقال سعد رحمه الله. لقد أحسنت إذ أنبأتني بهذا، لأنه يكون مستغرباً أن يحذف موظف صغير من كلام سعد.
ودعينا إلى الغداء عند سعد باشا — أمين بك الرافعي والعبد لله — جزاء لي على براعتي في «سكني القبور»! فأدهشني وأنا جالس إلى المائدة أن يعود سعد باشا إلى سؤالي عما حذف الرقيب من كلامه! وخفت أن يكون قد شك في صدق ما رويته له فاضطررت أن أقص عليه الحكاية مرة أخرى، وأن أعيد أن «فلاناً» — وكان حاضراً — طلب مني حذف ما حذف، لأنك — أي سعد — كلفته أن يراجع خطبك.
فالتفت سعد إلى «فلان» هذا، وقال له فيما قال «مجنون مثلك يكون رقيباً على عاقل!»
فشعرت بندم وأسف وخجل، لأني عرضت «فلاناً» هذا لغضب سعد أمام نحو عشرين على مائدته! ولكن ماذا كان يسعني غير ذلك؟ لقد حذفت من كلام سعد نحو سطرين بأمر «فلان» هذا الذي ادعى أن سعداً وكله وأنابه عنه ي مراجعة خطبه، وكان لابد أن أذكر الحقيقة، لأن سعداً كان يهم بأن يؤاخذ الوزارة — وكانت تسمى يومئذ «وزارة الثقافة» — بهذا الحذف، ويتخذ من ذلك سبباً لمجافاتها، وله الحق، ولكنها كانت غير ملومة، وإنما كان الملوم عضواً من أعضاء الوفد.
بعد ذلك أم أقابل سعدا إلا مرة أخرى يطول الكلام فيها، لأني خالفته في سياسته وإن كانت الغاية واحدة، ولم تمنعني مخالفته قط من إجلال صفاته وعرفان قدره والاعتراف بفضله.
وأحسب أن مما جعلني أخيب الخياب أني عملت في أول عهدي بالصحافة في جرائد أصحابها من ذوي المنازل الملحوظة وممن لهم مشاركة كبيرة في الحركة الوطنية والمساعي القومية.
فقد كان كل ذي رأي ومقام في هذا البلد يومئذ، يزور «الأخبار» مثلاً فلا نحتاج أن نسعى إليهم لنقف على الحقائق، ونطلع على الأسرار حتى لقد كنا نمسي بعضهم مازحين «مدير مكتب إفشاء أسرار مجلس الوزراء»، وكانوا يحتشدون في غرفنا وفيهم الوفدي والدستوري والمستقل، ويتناقشون ويتجادلون ويذيعون المطوي، بالتفصيل الوافي الشافي، فنحيط بكل شيء وما تكلفنا جهداً ولا نهضنا عن مكاتبنا واعتدت أن يسعى الناس إلينا ولا نسعى إليهم، فنفرت — أو زدت نفوراً — من السعي والبحث والتقصي.
وأضرب مثلاً آخر لما يصح أن أسميه «بركة العجز»، ذلك أني كنت أتولى تحرير جريدة لا داعي لذكر اسمها، فتلقى صاحبها رسالة بالبريد بغير إمضاء يسرد فيها كاتبها قصة تعد من الفضائح بتفصيل يوقع في الروع أنها صحيحة، فأبيت نشرها معتذراً بأن الواجب هو أن نتحرى «تحري الرجل الرشيد» قبل النشر، فقال صاحب الجريدة أنه لو كان هو المحرر المسئول لنشر الرسالة فإنه مقتنع بصحتها، فقدمت له استقالتي ليكون حراً في تصرفه فأباها ووكلني إلى رأيي.
وكان اليوم التالي يوم عطلة، فركبت سيارتي وانطلقت بها إلى طنطا وفي نيتي السفر إلى الإسكندرية، واسترحت قليلاً في مقهى وإذا بمحام من أصدقائي يقبل علي ويدعوني إلى الغداء معه فاعتذرت، فألح، وكان يعرف صاحب الجريدة ويحبه فقصصت عليه ما جرى بيننا، وقلت إني آسف لسوء التفاهم ولكنه لا يسعني إلا ما فعلت، فهون الأمر علي؛ ومضى بي إلى مكتبه، وفتح خزانة وأخرج منها ملف قضية دفع به إلي وقال «هنا تجد الموضوع كله» وكان هذا صحيحاً، فقد كان في الملف كل ما يثبت صحة الرسالة التي أبيت نشرها..
ولا أحتاج أن أقول أني كنت أرقص من الفرح بهذا التوفيق العجيب الذي يسر لي أن أقوم بحملة شعواء أدت إلى خروج الرجل من مصبه!
وهكذا ترى أن العجز له بركة فاللهم أدمها علينا!