في طريق الحيَاة
كانت عادتي — إلى بضع سنوات — ألا أبرح بيتي إلا وفي يدي كتاب، وكنت لا أكاد أستقر في «الترام» حتى أفتح الكتاب وأقبل عليه وأنصرف عن الدنيا التي حولي حين أخرج للرياضة. كنت أتخير الطرق المهجورة فأميل إليها ليتسنى لي أن أقرأ في كتابي وأنا آمن، وقلما كنت أقرأ مؤلفاً حديثاً، أو كتاباً أو ديواناً لست على يقين جازم من جودته، فكان علمي بالدنيا ومعرفتي بالحياة قاصرين على ما يفيده المرء من الكتب، وكنت أشعر — من أجل ذلك — كأني مغرب عن الناس وأن الذي بيني وبينهم خراب لا عمار فيه.
وكنت أتصور الحياة معنى لا ألمس له حقيقة ولا أضع يدي على صور لها محسوسة، وكان فهمي للحياة وإحساسي بوقعها عن طريق النظر في جوانب نفسي، وذلك لأني اعتدت أن أرد عيني عن النظر إلى ما هو أمامي وأن أديرها في سريرتي، وكانت تجاربي هي ما تمثله الكتب لإحساسي وتحضره لذهني وتكشف لي عنه من وجوه الألم والحزن والخطأ والإثم.
وعشت خير عمري لا أعرف حقيقة الفزع والهول ولا السرور واللذة وإنما أعرف ما يوصف لي من وقعها، فكان قلبي أبداً يخفق بالوهم على جناح الخيال ولا يزال يفتنه سحر العواطف والخواطر المدونة، وكنت أزهى بذلك وأخادع نفسي فيه وأقول: وما حاجتي إلى التجريب الشخصي لتتحرك في هذه العواطف؟
وهبني جربت وجربت فهل أطمع أن أجرب كل شيء؟
ومادام أن بي حاجة إلى الكتب لتسد لي النقص في تجاربي فمالي لا أجعل هذه الكتب معولي كله ومعتمدي في التجريب؟
إن الغرض من التجريب العاطفة والمعرفة، وليس أقدر من الكتب على إثارة تلك العواطف التي تجعل حوادث الحياة أشد تحريكاً للنفس وتجعلها — أي النفس — أتم استعداداً لقبول المؤثرات على اختلاف أنواعها ودرجاتها، فبحسبي «ظاهر» التجريب الذي تهيئه لي القراءة، وسواء على كل حال أن تؤثر في المرء الحقيقة الواقعة بالذات، أو يأتي التأثير من طريق آخر كالرموز اللفظية التي تمثل صفات هذه الحقيقة وتصور وقعها.
كذلك كنت، فما أغرب ما حدث! لست أحمل الآن الكتب معي حيث ما أكون ولا أنا أغالي بقيمتها أو أستغني بها عن حقيقة التجريب الشخصي، فقد ظلت الحياة تصدمني وترجني وتدفع في وجهي وصدري حتى ردتني إليها وفتحت عيني على مظاهرها، ثم أفقت من دهشتي وأجلت بصري في نفسي وفي الدنيا ثم ذهبت أتساءل: كيف حدث هذا؟ لقد كانت قدمي ثابتة وأنا أقطع طريقي في الحياة، ولم يكن يخالجني شك في دقة علمي بالطريق وكفاية إحاطتي بطبيعته فمن أين جاءت هذه الزحاليق؟ ماذا جرى حتى رحت أتدحرج وتتلقفني الصخور؟؟
وأردت أن أعرض على ذهني ما أمدتني به الكتب من الهداية وأن أبسط تحت عيني المصور الذي رسمته لنفسي بمعونتها، فإذا الذي في رأسي من الكتب ضباب وإذا المصور تتداخل دروبه ومسالكه وتختلط حتى لا سبيل إلى التمييز بينها. وإذا «ظاهر» التجريب لا يغني عن التجريب، وتوهم الفهم ليس معناه الفهم الصحيح، وإذا بي قد شارفت الأربعين ومازلت في مبلغ علمي بالدنيا وفهمي للحياة وإدراكي لحقائقها، طفلاً يمد أصابعه إلى الجمرات يحسبها لعبة أو طعاماً.
وأنا الآن أعلم نفسي من جديد، وأعالج تنشئة ابني معي. كلانا طفل يتخبط ويجرب، وكل ما بيني وبينه من الفرق أن ورائي تجربة مرة لا تنفك تزجرني عن الكرة إلى مثل ما أوقع فيها، وأن ذهنه جديد لم يزحمه شيء وأن نفسه صافية لا يشوبها رنق ولا كدر؟ ووالله ما أدري وأنا أسير معه في الحياة — ويده في يدي — أينا الذي يسير بصاحبه أو أينا الذي يأخذ بيد رفيقه.
وكثيراً ما يخيل لي إذ أراه مقبلاً علي في الطريق وفي يسراه حقيبته التي يحمل فيها كتبه وكراساته، كأنه يعالج أن يحل مسألة حسابية أو يتذكر حقيقة جغرافية فأصافحه وأقول له: «فيم كنت تفكر؟»
فيقول: «لا شيء» فأقول له: «ليت هذا يكون صحيحاً. وماذا أبصرت في الطريق؟»
فيكرر كلمة «لا شيء» فأدعوه أن يرجع معي ويرافقني مسافة، وأحمل عنه الحقيبة تخفيفاً عنه وإنصافاً له، وأروح ألفته إلى أن الناس لا يحسنون السير في الطريق. وأبين له بعبارة يسهل عليه فهمها أن أكثر من نرى في الطريق من عابريه تبدو عليهم مظاهر القلق والعجلة. حتى الذين لا يدعوهم شيء إلى العجلة ولا موجب لاضطرابهم أو قلقهم، كأنما يعديهم سواهم بذلك، وهناك آخرون يجتلي المرء في وجوههم ضرباً من الكسل المرذول والفتور الثقيل لا يدلان على سكون النفس ولا ينمان عن استقرار واطمئنان. فهذان طرفان متناقضان تؤدي إليهما حالة نفسية واحدة. كلا الفريقين مضطرب، ولكن واحداً يجعله اضطرابه كالذي يساق في حياته بالسياط، والآخر يفتره الاضطراب ويرخي أعصابه.
وهذا الرجل الذي يتهادى ويختال في مشيته ويدق الأرض بعصاه ولا يفتأ يرفع يسراه إلى ربطة رقبته ليثبت «الدبوس» في الظاهر وليلفتنا إلى بريق الزجاج الذي يريد أن يوهمنا أنه ماسة كريمة، والذي يتظاهر بعدم الاكتراث لأحد، لا يزال مع ذلك ينظر إلى الناس خلسة — تأمله.. ألست تحس أن تحت قناع السكون وقلة المبالاة حمى قلق تشي بها اختلاجات جفونه وشفتيه وجانبي منخريه؟ أتعلم ماذا هو؟ إنه سمسار. وهو لا يتمشى وإنما هو يتحفز! يتحفز للوثوب على فريسة.
ولست أعرف ظاهرة للمدينة الحاضرة أبرز من هذا القلق أو إذا شئت فقل من افتقار عناصرها المكونة لها، إلى السكون، فالناس يذهبون إلى المسارح ويخرجون منها، ويدخلون المدارس وينصرفون عنها. ويزاولون أعمالهم ثم يكفون — وكأنهم جميعاً معجلون، وتراهم يؤثرون الركوب ويفضلون أن يخطفوا بسياراتهم، لأن الركوب أسرع من المشي، ولأن الوقت ضيق. فلماذا هو ضيق؟ يجب أن نعده واسعاً غير ضيق. وأن نشعر أنفسنا هذه السعة وأن نقنع عقولنا بانتفاء الضيق لتستقر أعصابنا وتهدأ وليتيسر لنا بعد ذلك أن نجود عملنا وأن نخرجه ناضجاً. إن فكرة ضيق الوقت وهم ليس إلا، وهي تؤثر في أعصابنا وتفسدها، وما على الإنسان إلا أن ينحي عن نفسه خاطر الزمن وإلا أن ينسى هذا الوقت وثق أن عمله حينئذ يكون أسره وأجود، لأن رأسه في هذه الحالة يكون خالياً من التفكير في وجوب العجلة فلا يعود يزعجه شيء، فيطرد الفكر ويستقيم وتتسق الخواطر.
ويتفق أحياناً أن نرى في الطريق رجلاً يستوقف آخر لا لأنه يريد أن يفضي إليه بشيء ولا لأنه أوحشه — فلعله كان معه أمس أو قبل ساعات — بل لغير سبب ظاهر، ويقول أحدهما وهو يهز يد صاحبه: «كيف الحال؟» وكأنه يرجو أن يكون قد حدث شيء. فيقول الآخر: «الحمد لله» أو «لا بأس» أو غير ذلك مما يجري هذا المجرى، وهو يشعر بأن للفراغ الذي في رأسه مشبهاً لما في رأس سائله. وتعلو ذلك فترة صمت وجيزة تتلاقى في خلالها العيون متكلفة الابتسام وتتضاغط في أثنائها الأكف إذا كانت لم تفترق، ثم يرسل أحدهما نفساً طويلاً وينظر إلى يمينه، ويذهب صاحبه ينظر إلى الناحية الأخرى وتكون الكفان قد ارتدتا إلى الجانبين، والرأسان مشغولين بالبحث عن كلام يصلح أن يقال وإذا بأحدهما يقول فجأة، وكأنه ذكر شيئاً: «أستأذن» فيقول الآخر: «تفضل» ويفترقان ليكررا هذه السخافة كلما التقيا. وقد اتفق لي أنا مثل ذلك. ولكن سوء حظي كان يطيل الوقفة حتى كان يخيل لي أن الأمر قد صار يتطلب أن يدعى «البوليس» ليفصلنا. وقد علمتني التجربة أن خير وسيلة للفكاك من هذا الأسر في وسط الطريق العام أن تلقي إلى آسرك بنكتة، ولا تجعل بالك إلى قيمة النكتة ولا تعن نفسك ببراعتها أو موافقتها فإنه يكفي أن تقول شيئاً وأن تضحك ليضحك صاحبك فتخلص يدك وتستطيع بعد ذلك أن تفر.
على أن هذه العادة مغتفرة إذا لم تكن متخذة سلماً إلى غرض خفي، فقد وجدت البعض يستوقفني ويمطرني وابلاً من الأسئلة يشغلني بالإجابة عنها، ولاحظت في كل مرة أنه كان في أثناء تجشمي تعب الإجابة، يلقي بالنظرة تلو النظرة إلى نافذة أمامه ويحني رأسه ويستر هذا الإحناء بحركات شتى، فلما أيقنت أنه يتخذ من وجودي مسوغاً لوقوفه قبالة النافذة صرت أتعمد كلما لقيته هناك أن أحاوره وأداوره حتى أواجه أنا النافذة وأتركه هو بظهره إليها، وبذلك استأثرت بالنظر دونه.
وعلى ذكر العيون والنظر أقول إني بينت لإبني أن في وسع الإنسان أن يعرف حظ من يلقاهم في الطريق، من حسن التربية والتهذيب، وذلك من طريقة نظرهم إليك أو اجتنابهم النظر. فالرجل المهذب تراه هادئ النظرة ساكنها، وهو ليس شاردها ولكن في عينه ما ينم على شخصيته وما يكفي للدلالة على قدرته على الانصراف إلى التفكير في النفس، من غير أن يمنعه ذلك من أن يلاحظ كل ما يجري أمامه. وهو لا يحدج الناس بنظره ولا يتكلف أن يتهرب من مواجهتهم. إنما يحملق في الوجوه المتنطع أو المغرور، ولا يهرب من النظر سوى الحيي أو الخبيث. ومن الناس من إذا لقيته تغيرت نظرته عما كانت قبل بضع ثوان، ولعل هذا راجع إلى فرط الشعور بالذات أو إلى توهم المرء أن نظرته السابقة تشي بما في نفسه وهو يؤثر أن يكتمه.. ومنهم من يرد على نظرتك متحدياً، وهذا أيضاً ينبئ بالشعور بالذات.
ومن الناس من يأبى أن يسير إلا في منتصف الطريق غير متق أن يصادم أكتاف المارة فهذا رجل لا يتحرج أن يأكل ما أمامك. ومنهم من يمشي متحككاً بالبيوت مؤثراً المواضع السهلة اللينة أو الخالية، فهذا ممن يعالجون أن يسيروا في حياتهم على هذا النحو مجتنبين فرائضها المتعبة. وآخرون لا يزالون يتلوون في الطريق وقد يقف أحدهم في وجهك وهو موليك ظهره فترتد حتى لا تصطدم به فيلقيك ارتدادك المباغت على صدر من يكون سائراً خلفك فيضطرب نظام الشارع كله. فهذا على الأرجح رجل لا يبالي أن يصنع مثل ذلك في ميدان السياسة أو الاجتماع.
وثم أناس يحلو للواحد منهم إذا رأى اثنين يتحادثان في الطريق ن أن يتلكأ ويقصر خطوه ليسترق السمع فهذا امرؤ ألفت عينه ثقوب الأبواب ولا يستغرب منه أن يتنزى إلى كل سوء. وهناك الصاخب الذي يتكلم في الطريق وكأنه يخطب حشداً عظيماً، فهذا الأناني المقتحم، وأخيراً هناك الذين يكلمون أنفسهم وهم لا يشعرون، ولهم مع الكلام تلويح وتشوير. وقد حدث لي أن كنت سائراً فإذا برجل يقول في وجهي: «يا حفيظ! يا مغيث!»
فبهت ولكنه مضى عني كأن لم يرني.
بحسبي أن أفتح لابني عينيه لينظر، فإذا كان في رأسه خير فأخلق به أن ينفذ إلى الأعماق.