الفصل السابع

من ذكريات عابر سبيل

كان أحد الأخوان يصحح قول الشاعر: «وسافر ففي الأسفار خمس فوائد» فيقول — بعبارة لا أستطيع أن أرويها بحروفها — إن الفوائد ثلاث فقط: البعد عن المرأة، والنوم كيفما اتفق، وتكليم الناس بلا معرفة. فأما البعد عن المرأة — أي الزوجة — فإني لم أعد أدري أهو مزية وخير أم ضرورة وعيب وشر؟ ولكن الذي أدريه أني حاولته مرة بلا لف أو مداورة، ثم عدلت عن التماسه ووطنت نفسي على اليأس منه، ورضتها على السكون إلى القرب والمودة. وتجاربي في هذا الباب تخولني أن أنصح لمن يريد أن يسافر وحده أن يجازف ويلح على زوجته أن تكون معه، فإذا أبت كان هذا هو المراد من رب العباد، وإلا فلن يصيبه إلا ما كان مكتوباً عليه. على أنه يجب أن يكون مفهوماً أن المعول في هذا الأمر على أسلوب الحوار وطريقة الكلام. والزواج — كما هو معروف — من مزاياه أنه يكسب الإنسان مرونة في التعبير، وقدرة على الاحتياط، وبراعة في التحرز، وسعة في الحيلة. وإني لأذكر أني كنت في سوريا مع أسرتي منذ نحو سنتين، فذهبنا مرة إلى بيروت لنشتري أشياء نهديها إلى أهلنا ومعارفنا عند عودتنا، فرأت زوجتي معطفاً من الفرو ثميناً جداً فأعجبها واشتهت أن يكون لها، ولكني نظرت إلى ثمنه فدار رأسي، وأيقنت أنا إذا اشتريناه سنضطر إلى الاستجداء والتسول، فأصابتني نوبة عصبية حادة لم ترها زوجتي قط من قبل، ففزعت ودعت أصحاب المحل أن يدلوها على طبيب بارع في الأمراض العصبية. فقد خيل إليها أن هذا الذي أصابني لابد أن يكون ضرباً من الصرع أو التشنج أو لا أدري ماذا غير هذا، فحملوني إلى طبيب فرنسي قالوا لها إنه هو الإحصائي الوحيد هنا، وإنه من آيات الله ومعجزاته في طب الأمراض العصبية، فأدخلوني عليه فاتضح له من استجوابي ومما عرفه من تاريخ آبائي وأجدادي من قبلى أن أهلي — في حداثتي — خوفوني مرة بدب صناعي له فرو كثيف، وكانت صدمة الفزع الذي انتابني في صغري شديدة جداً، فأنا من ذلك الحين أضطرب جداً جداً إذا وقعت عيني على الفرو … فسألته زوجتي التي لم تكن تعرف هذا الجانب من تاريخ حياتي الحافل بالمفاجآت — سألته عن العلاج فقال: «أوه.. لا شيء.. لا داعي للقلق.. ولكن يجب ألا يرى الفرو أبداً..» والحق أقول إنه كان طبيباً بارعاً جداً، فغن مرضي العصبي لم يعاودني بعدها أبداً.. والفضل بعد الطبيب هو بلا شك لزوجتي التي حرصت أعظم الحرص على ألا أرى الفرو..

وأما النوم كيفما اتفق فهذا أشهد انه صحيح.. وأذكر بسرور أن قطاراً سافرت فيه مرة كان غاصاً بالركاب. وكانت المسافة طويلة والشقة بعيدة تستنفد الليل كله ولابد من النوم ولو كانت الجلسة مريحة لنمت وأنا قاعد، ولكني كنت كالبلحة في قفة عجوة. فحرت ماذا أصنع. ثم فتقت الضرورة لي حيلة فنحيت الحقائب عن الشبكة الممدودة لها فوق رؤوسنا ورقدت مكانها، ونمت أهنأ نوم إلى الصباح، ولو كنت ضخم الجسم لما تيسر لي ذلك فالحمد لله على الضآلة.

وأما تكليم الناس على غير معرفة فهذا هو قانون السفر، ولست تحتاج أن يعرفك أحد بأحد في رحلة، وما عليك إلا أن تبدأ من تشاء بالكلام كأنما كنت تعرفه من عهد آدم، وكل هذا لا يخلو من خطر، فقد تقع على ثقيل أو ثرثار فينغص عليك وقتك ويحرمك كل متعة يمكن أن تفوز بها وأقلها متعة الراحة وخلو البال من المنغصات؛ ولكثرة ما أصابني من ذلك صرت أكره السفر بالقطار وأوثر السفر بالسيارة؛ فإذا اضطررت إلى القطار عمدت إلى الحيلة وهي أن أضع حقيبتي في أي مكان حتى يتحرك القطار ثم أتركها وأذهب أبحث عن مكان آخر أتوسم في أهله الظرف والإيناس، وهذا يتطلب فراسة صادقة، والفراسة استعداد ولكنها تكتسب إلى حد ما بالتجربة.

ومن الفوائد المجربة في الأسفار أن يستصحب المرء معه كتاباً في فن الطبخ، ولست أعني أنه قد يحتاج أن يصنع طعامه بيده وإن كان هذا محتملاً، ولكني أقص ما وقع لي في هذا الباب — أو بعضه على الأصح — فقد كنت مرة في فلسطين وكنت ضيفاً على صديق لي. فأصابني برد شديد من كثرة التنقل بين البلاد فوق الجبال بالسيارة في الليل وعاودني مغص الكليتين، فلم يبق بد من الرقاد والحمية وانتظار مشورة الطبيب، وإن كنت عارفاً بدائي ودوائه.

ومضى يوم ثان وثالث وطلع الرابع وأنا لا آكل إلا الموصوف من الأطعمة الخفيفة المأمونة، وهذه لا طعم لها ولا لذة لآكلها، وكل طعام يفرض على المريض يكون بغيضاً إليه، فاشتهت نفسي أشياء قالوا لي إنه لا سبيل إليها لأن الطبيب منع أن تقدم إلي، فاعترضت على هذا وقلت لهم إن الألم قد زال وإن الصحة قد عادت ولله الحمد، وإني أستطيع الآن أن أفعل ما أشاء وآكل ما أحب فقالوا «حتى يراك الطبيب» فقلت إن هذا طعن في ذمتي لا أقبله ولاسيما في أمر يعنيني وحدي، وأنا على كل حال أدرى من الطبيب بنفسي بل أدرى من أطباء الدنيا جميعاً. وهل كان الطبيب قد أحس بالألم حين جاءني المغص.. عل عرف أني ممغوص إلا مني.. إذن انتهينا.. أنا أنبأته أني مريض ولولا ذلك لما عرف.. وأنا أيضاً أنبئه أني شفيت وانه صار من حقي أن أتمتع بمزايا الصحة.. وإذا كان الطبيب قد صدقني في واحدة فيجب حتماً أن تصدقوني في الثانية، فروحوا هاتوا كذا وكذا من الآكال، وكيت وكيت من الأشربات..

فضحكوا وأبوا أن يجيبوني إلى ما طلبت قبل أن يأذن لي الطبيب، فلم يسعني إلا أن أذعن للحرمان — فإني في بلد غير بلدي — ولكني طلبت أن يجيئوني بكتاب في فن الطبخ فاستغربوا وسألوني عما أنوي أن أصنع به فلم أعبأ بهم، فجاؤوني به فقلت لهم: «ألا تستطيعون أن تذهبوا عني إلى حيث تشاؤون فحسبي هذا الكتاب وكفى به أنيساً في وحدتي ومسلياً لي في غربتي».

وفتحته في موضع الفهرس وانتقيت الألوان التي أشتهيها وانطلقت أقرأ بنهم. وصدقوني حين أقول إن ريقي كان يجري وإني كنت أنعم بأقوى من لذة الشره المبطان وأنا أقرأ فيه.

«كفتة الدجاج» — تسيح الزبدة ويضاف الدقيق ثم اللبن بخفة مع استمرار التقليب حتى يصير المزيج في قوام القشدة، ثم يضاف الملح والبقدونس والفلفل، ثم تغلى مدة ثلاث دقائق، ويضاف لحم الدجاج ويخلط جيداً، ثم يضاف هذا فوق طبق مسطح حتى يبرد ويؤخذ من المخلوط بملعقة كبيرة ويوضع في دقيق ويعمل على هيئة كور أو أقراص أو أشكال بيضاوية وتوضع في مكان بارد حتى تتجمد تماماً، ثم تتبل في فتات خبز، وتغطس في بيض مخفوق مخلوط باللبن، ثم في فتات الخبز ثانياً وتقلى في سمن ساخن جداً حتى تحمر ثم تنشف على فرخ ورق غير مصقول. تنبيه — هذه الكمية تصلح أن يعمل منها أربعة عشرة قطعة «ولكني نسيت أن أذكر الكميات والمقادير. لا بأس.. فليس هذا كلاماً عن الطبخ. ولا عجب أن أذوق بالوهم والخيال مثل لذات الحقيقة فإن هذه حياتنا معشر الأدباء وما أكثر ما نترك الحقائق ونروح نجري وراء الظلال! ثم نحاول أن نعزي أنفسنا بأن الحقائق المشتهاة كثيراً ما أثبتت التجربة أنها دون ما كان متوقعاً، وأن الخيال أفسح رحاباً وأوسع آفاقاً؛ فهو أقدر على إمتاعنا. وأن الحقيقة نفسها إنما تكون ممتعة وجميلة بفضل الخيال، ولولاه لما كان لها طعم ولا فيها متعة فعمل الخيال لابد منه للإمتاع على كل حال سواء أكنت أكلاً بالفعل أم متوهماً أنك تأكل؛ والفضل والمزية للخيال لا للمادة فإنها بمجردها لا شيء، وإنما تكون شيئاً بما يفضيه عليها الخيال من السحر والفتنة وما يضفيه عليها ويفضيه إليها ويزينها به.

ومن الغرائب التي لا أظن أن كثيرين وقع لهم مثلها أني كنت مرة في جزيرة مع إخوان لي، فقلنا: نصيد سمكاً نشويه ونأكل منه يومنا هذا، فاخترنا شر ما يضرب الماء فيه ويمعن في البر لأنا قدرنا أن يكثر فيه السمك، وجئنا بديدان اتخذناها طعاماً وجلسنا ننتظر أن يخدع السمك، فمضت ساعة وأخرى ونحن لا نظفر بشيء، فنفد صبر أحدنا فتركنا وغاب شيئاً ثم عاد بفونوغراف أداره وهو يقول مازحاً: لعل السمك يحب الموسيقى.. من يدري. أليس له حاسة فنية؟» فسرنا أنا وجدنا شيئاً نتسلى به في هذه الجلسة المملة. وإذا بالسنارة التي كانت معي تضطرب وتنجذب إلى الماء، فشددتها فخرجت سمكة حسنة، فصحت بصاحبي (أعد! أعد. أعني للسمك فما جاء إلا على الموسيقى) كنت أنا أيضاً أمزح، ولكنا ما لبثنا أن وجدنا هذا حقيقة، فكان السمك يكثر ويشتد إقباله على الناحية التي نكون فيها إذا أدرنا الفونوغراف، ويقل ويذهب عنا إذا سكت ولو كانت معنا مجموعة وافية من الاسطوانات لا استطعت أن أجرب أي الأدوات أحب إلى أي أنواع السمك. ولعرفت أي الأسماك تحب التانجو وأيها يؤثر الفوكس تروت وهكذا. وقد اتفق وأنا في العراق أن كنا مدعوين إلى الغداء في بيت على نهر دجلة — والعراقيون يسمون كل مسكن على النهر قصراً أو سراي ولو كان كوخاً — وكان بيت صديقنا هذا ضخماً فخماً وفيه جهاز للراديو، وكانت الساعة الأولى مساء — وهي بحساب الوقت في مصر الساعة الثانية عشرة — فخطر لي أن أجرب تأثير الموسيقى في السمك، فرجوت من صديقنا أن يفتح الراديو وأن يسمح لنا بالانحدار إلى الحديقة، وهي متصلة بالنهر، واتفق أنه كان مغرماً بالصيد ولكنا لم نسمع من مصر إلا شريطاً مسجلاً لأحد المغنيين، ويظهر أن السمك لا يحب المعاد أو لعله لم يعجبه الغناء وإن كان يطربنا نحن الآدميين فقلت أعود في المساء وأرى. غير أني لم أستطع أن أعود إليه قبل الساعة التاسعة مساء — أي الثامنة بحساب الوقت في مصر، واتفق أن كان الذي يذاع حديثاً فنفرت الأسماك جميعها نفوراً ظاهراً. وفي اعتقادي أن محطة الإذاعة تستطيع أن تساعد على ترقية المصايد المصرية — فتخدم السمك والناس — إذا هي عنيت بأن تدرس طبائع الأسماك وأمزجتها وما يوافقها من ضروب الموسيقى، وفي وسعها بالإذاعة المتخيرة أن تنظم صيد السمك، وأن تجعل لكل نوع منع وقتاً معيناً. فإذا كان المراد مثلاً صيد ما يسمى البوري وما يماثله أذاعت للصيادين بعض الأغاني الشجية التي تفتر النفس. وإذا كان المطلوب صيد ثعابين الماء أو حياته أسمعتها أغنية (هاتشي بشي) وهكذا فيكثر المحصول بلا عناء وينتظم الأمر كله. ويعرف الناس ماذا يستطيعون أن يأكلوا من السمك في كل يوم بمجرد الاطلاع على برنامج الإذاعة ومن غير خوف من أن يغشهم التاجر ويدخل عليهم صنفاً باسم صنف آخر.

والحجاز وانجلترا هما — فيما أعرف — البلدان الوحيدان اللذان تستطيع فيهما أن تترك حقائبك أو أشياءك في الطريق فلا تمسها يد غير يدك ولا يسطو عليها سارق فأما في الحجاز فذلك خوفاً من قطع يد السارق فقد سقطت مني عصا في الطريق بين جدة ومكة فتعطل السير من الجانبين وانقطع المرور حتى اهتدى الشرطة إلى أني صاحبها فخاطبوني في التليفون وأنا في الشمسية — قرب مكة — فرجوت منهم أن يردوا العصا إلى جدة مخافة أن ترتكب إثماً آخر فيأخذوني بذنبها وأما في انجلترا فقد تركت حقائبي ساعة وصلت إلى لندن على الرصيف أمام البيت الذي اختاره صديق لي لأنزل فيه وذهبت معه — أي مع الصديق — إلى بيته حيث اغتسلت وحلقت ذقني وشربت القهوة واسترحت ثم عدت إلى الحقائب بعد ساعتين فوجدتها في مكانها كما كانت. وأغرب من ذلك أني راهنت صديقي هذا أن أقضي يوماً في لندن لا أتكلم فيه إلا اللغة العربية فخاف أن نتورط فيما لا يحمد واقترح أن نقتصر على السعي للوصول إلى وستمنستر من غير أن ننطق كلمة بغير لغتنا. فوافقت وتوكلنا على الله وخرجنا من البيت — هو وزوجته وأنا — وكنا نعرف الطريق ولكنا تجاهلناه، فراقني منظر رجل واقف بجانب حانة ينتظر على الأرجح وقت السماح ببيع الخمر — فإن لذلك وقته المعين حوالي الظهر وفي المساء — فدنوت منه وحييته التحية المصرية — أي برفع يدي ثم مدها إلى يده لمصافحته وسألته — بالعربية طبعاً — عن وستمنستر، وتعمدت أن أحرفها تحريفاً شديداً فنطقتها «وستمنصته»، وأقول الحق إن الرجل فزع واعتدل بعد الميل ونسي الخمر التي يحلم بها وينتظر أن يسعد باحتسائها، فأعدت السؤال برفق فلم يفهم طبعاً على الرغم من صدق رغبته في ذلك، فلما يئس قال تعالى معي، وقادني إلى الشرطي وهو شيء ضخم جداً وأنا شيء ضئيل جداً أو كما يقول ابن الرومي:

أنا من خف واستدق فلا يثـ
قل أرضاً ولا يسد فضاء

وقال إن هذا الغريب يبدو لي أنه يسأل عن شيء لا أستطيع أن أتبينه، فمال على العملاق الإنجليزي وقال يستحثني: نعم؟! فسألته عن «وستمنصته» فجعل يهز رأسه ويستعيدني وأنا أهز له رأسي أيضاً كأني غير فاهم وألح في السؤال عن «وستمنصته» فأحس أن في الكلمة شيئاً يمكن أن يهديه إلى مرادي وقال: «قل هذا مرة أخرى» ولكني تغابيت وجعلت أتلفت ثم قلقت وخفت، فقد رأيت صديقي وزوجته قد تركاني وذهبا فوقفا على الرصيف.

وليت هذا كل ما حدث إذن لما كان فيه بأس ولكنهما كانا يضحكان حتى خيل إلي أنهما سيقعان على الأرض. وكان ضحكهما عال فخفت أن يفطن إلى أن في الأمر مزاحاً فيستثقله أو يعده سخرية منه فتسوء العاقبة، فخففت التحريف فلم يلبث أن فطن إلى مرادي فاستوقفني حتى مرت سيارة أمنيبوس معينة، فأمرني أن أصعد وتبعني صديقي، وأمر الكمساري أن يأخذ منا الأجر إلى وستمنستر وأن يحرص على أن ينزلنا هناك فأخرجت نقوداً ومددت بها يدي إلى الكمساري ليأخذ منها ما يشاء تظاهراً بالجهل باللغة الإنجليزية. وهكذا كسبت الرهان.

وأعود إلى فلسطين فأقول أن في عكة مسجداً كبيراً وقد بناه — على ما أظن — أحمد الجزار باشا الوالي التركي في ذلك الزمان وهو رجل مشهور فلا أحتاج أن أتحدث عنه ولكني أقول إني وجدت مكتوباً على باب المسجد من الداخل هذا البيت العجيب في مدح الجزار باشا:

«ذاك الوزير الشهم أحمد من غدا
جزر أعناق العباد كما يجب»

وأظن أن هذا البيت يستحق التدوين …

وفي بغداد دعانا شيخ عربي إلى أكلة على الطريقة البدوية، فاستحسنا ذلك جداً، وآثرناها على وليمة أخرى؛ فلما ذهبنا ألفينا السماط ممدوداً.. وأصف ما رأيت فأقول إن السجادة غطيت بملاءة بيضاء وضع عليها جفنة ضخمة فوقها صينية عظيمة لا أدري من أين جاءوا بها وقالوا إن عندهم ما هو أكبر منها بكثير، وفوق الصينية طشت هائل مليء أرزاً مخلوطاً بالزبيب واللوز والفستق وعلى الأرز خروف عظيم مشوي — هذا في الوسط، وحول الجفنة وعلى مستدارها أطباق عديدة لا يأخذها الحصر، فيها أنواع شتى من الطعام … كالدجاج والخضر والعصيدة والولائق المختلفة، وهي من دقيق وسمن ولبن، وقد عرفوا أننا لن نستطيع مجاراتهم، فأعدوا لنا أطباقاً وملاعق وسكاكين وأشواكاً. فجعلنا نحن نأكل على طريقتنا، أي أن نأخذ ما نشتهي في أطباقنا. أما هم فأكلوا على الطريقة البدوية الصرف، وهي أن يتناول الواحد قبضة من الأرز ويطوي عليها أصابعه ويضغطها حتى تصير كالكفتة؛ وبعد أن يفتلها على هذا النحو يقذف بها في فمه. وهذا يبدو هيناً سهلاً، ولكن المصيبة أن الطعام يكون كالنار فيحرق الكف. فكيف بالفم واللسان؟ أما اللحم فيهبر منه ما تستطيع أصابعه أن تقطعه أو تمزقه ويرمي به في فمه وما يرمي في الحقيقة إلا جمراً مضطرماً، وعلى ذكر الجمر أقول إن للعرب — أو على الأصح للبدو — طريقة عجيبة في علاج الجروح وقد جربتها فأنا أتكلم عن خبرة ويقين، ذلك أن راحتي أصابتها النار، فجعلت أوحوح وأنفخ فيها ولا أدري ماذا أصنع لتسكين الألم على الأقل، فصاح أحد النجديين الذين كانوا حاضرين هناك فى الحجاز: «ملح … ملح..» فجاءوه بقليل من الملح الخشن فمد يده إلي وقال «خذ قبضة» «فتناولت منه بيدي السليمة وأنا أضحك في سري وأقول لعله يظن أن الحروق يفيد فيها السحر، فصاح بي: «بيدك المحروقة»، ففهمت وأخذت قبضة بيدي المحروقة فقال: «اطو عليها أصابعك» ففعلت فقال: «ابق هكذا» فظللت قابضاً على الملح الخشن دقائق ثم نظر في وجهي وقال: «استرحت الآن.. زال الألم..» ففتحت كفي وأنا أبتسم ولا أكاد أصدق، فما كنت أشعر بأي ألم ولا رأيت أثراً للحرق! فما قول الأطباء في هذا وليكن رأيهم ما يكون فإني أنا لا أنوي أن أداوي الحروق التي تصيبني — وعسى ألا يصيبني شيء — إلا بالملح..

وفي لبنان أنقذتني فتاة لا أعرفها من هلاك محقق، وهذه الفتاة من أعاجيب الخلق، فإن لعينها نظرة تنيم الحية — كما عرفت بالتجربة المرعبة — وأنا قوي النظرة حادها وفي وسعي أن أحدق في قرص الشمس، ولكني لم أستطع أن أحدق في وجه هذه الفتاة العجيبة. وكنت كلما وقعت عيني عليها لا أزال أطرف ثم لا أجد بداً من تحويل عيني إلى ناحية أخرى.

وكنا قد لقيناها في الصباح ونحن نصعد في جبل في رأسه ينبوع أردت أن أرى الموضع الذي يتفجر منه ماؤه. وكانت تحمل جرة فيها من ماء هذه العين، وكنا نخاف أن نضل، فسألناها عن الطريق واستملحناها فاستسقيناها وأردت أن أنقدها بضعة قروش فأبت، وأنبأتها أني أريد أن أرى مفجر العين فنهتني عن ذلك. فسألتها عن السبب فقالت وهي تهز كتفيها. «هيك» ولم تزد ولما ودعناها عادت فحذرتني، فضحكت وشكرتها وأبيت إلا أن أصعد إلى حيث ينبثق الماء، وصعدت وحدي فقد رأى إخواني وعورة الطريق فانصرفوا عن مرافقتي، فوجدت كهفاً على بابه عشب ونبات طويل ورأيت الماء يخرج من الكهف، فقلت أدخل لأرى فنحيت النبات وإذا بي أرى عينين لامعتين فظيعتين ثابتتين تحدقان في عيني وكانت نظرتهما من القوة بحيث لم أستطع أن أحول وجهي، وزاد فظاعة النظرة وعمق تأثيرها أن العين لا تطرف والجفون لا تتحرك وأن البريق شديد جداً في ظلام الغار. وكانت العينان ترتفعان عن الأرض شيئاً فشيئاً وتدنوان مني على مهل وأنا أنظر إليهما ويداي إلى جانبي وقد جمدت في مكاني وشعرت بالخدر في أعضائي. وكنت قد أدركت أن هذه حية وأنها من النوع الوثاب الذي تتحرك عيناه ولا تطرف جفونه. ومن هنا عمق تأثير نظرتها، ولم يخالجني شك في أني مقضي علي بالهلاك. وكيف أنجو وأن مسمر في مكاني لا أستطيع حراكاً؟ ولو وسعني أن أتحرك لوثبت الحية علي وأنشبت في أنيابها قبل أن أدور على عقبي. وكانت نفسي تنازعني أن أصرخ مستنجداً ولكن شفتي كانتا مطبقتين لا تنفرجان. وإذا بالعينين المرعبتين تراجعان في الظلام وتهبطان إلى الأرض بعد أن كانتا ترتفعان عنها وتزحفان إلي، وأحسست أن نظرتهما تفتر وأن تأثيرهما في نفسي صار أقل وأصأل، وشعرت بأني صرت أملك أن أحرك أعضائي بعد طول الجمود، فتلفت فإذا الفتاة التي لقيناها في الصباح تحدق في عيني الحية بأقوى من نظرة الحية. ويكفي أنها ردتها بعينها. واختفت الحية فتشهدت وملت على الفتاة لأشكرها بقدر ما كان يسعني أن أفعل في مثل هذه الحالة. فلامتني على مخالفتها وذكرتني أنها حذرتني وقالت إنها أشفقت علي من المصير الذي كان لا مفر منه فأدركتني قبل أن أقضي نحبي فسكت ولم أقل شيئاً.. وماذا أقول؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤