حيٌّ ولا كالأحيَاء
كان أبواه صالحين، إلا أنهما جاهلان. وغير منكور أنهما كانا يعدان من الذين يقرأون ويكتبون، ويحسبان عن الإحصاء من المتعلمين، ولكن من الممكن أن نقول — ومن الممكن أن يصدق القارئ أنهما ارتدا إلى الأمية أو ما هو في حكم الأمية ومنزلتها فأما الأم فقد صار كل ما احتفظت به هو الأرقام — قراءة وكتابة — وأما الأب فكل ما بقي له هو القدرة على قراءة القرآن الكريم «ودلائل الخيرات» و«الأوراد» وما يجري مجراها مما حفظ قديماً. ولعله كان يقرأ بذاكرته دون عينيه، فقد كانت ترده الرسالة من البلدة فيرسل يده تتحسس ثيابه ويقول إنه لا يجد «النظارة» ويرجو ابنه أن يتلو عليه الرسالة لأن نظره ضعيف. ومع ذلك كان يرى الشخص من مسافة ميل فيقول هذا فلان!
وقد حرصا — على جهلهما — على أن يربيا ابنهما أحسن تربية، فلم يضنا على تعليمه بمال، وإن كانت مواردهما شحيحة غير ثرة، ومازالا به حتى تخرج في الجامعة وكان ذكياً حاد الفؤاد، ولكنهما أرهقاه وكلفاه شططاً، ونحن نظلمهما حين نسوي بينهما في ذلك، فقد كان الأب مشغولاً بصلاته ونسكه، وكان ضعيفاً فزمامه في يد امرأته، وكانت امرأته قوية أو قل طاغية، طغت بزوجها فألزمته البيت وجعلته قعيده، كلما فرغ مما يخرج له — ولم يكن ذا عمل لأن له أرضاً يأتيه إيجارها في مواسمه، فهو لا يحتاج إلى السعي والتصرف وعلى أنه لو كلن احتاج لما قدر على كثير، فقد كان قليل الحيلة، وفيه غباء، وفيه مع الغباء حقد يمنعه أن تسلس علاقته بالناس، أو تطيب معاشرته لهم، فنفر وجنح إلى العزلة، وحمل الناس التبعة، وأعان ذلك زوجته عليه، فانقاد لها وقبع معظم الوقت في البيت.
ولو اقتصر الأمر على هذا لهان، ولكنها طغت بابنها أيضاً، وعاملته شراً من معاملة فتاة يخشى عليها شر الاختلاط، وكانت تجلس أمامه وهو يدرس، وتحدق فيه فيثقل تحديقها على نفسه، ويضطرب، ولا يستطيع أن يفهم شيئاً مما يقرأ، ويبدو عليه القلق فتنهره، فيكتم حتى زفرة الضيق لخوفه منها، أو رهبته لها، لشدة وطأتها عليه، فقد ورث عن أبيه الضعف، وزاد ضعفه أن رأى أباه مستخزياً لها، وأعانها عليه أيضاً أنه نشأ في بيئة يوقر فيها الصغير الكبير، ويتقي الولد أن يرفع عينه إلى وجه أبيه أو أمه من شدة الاحترام، فكان لا ينهض عن مكتبه وكتبه وكراساته إلا بإذن، منها لا من أبيه، فما له حساب كحسابها، وإن كان له احترامه.
واتفق أن أحب الفتى فتاة من قريباته، ولكن طبقتها — إذا اعتبرنا المال والجاه — فوق طبقته في المجتمع، وقد أيأسته الفتاة من هذا الحب، وتلطفت معه وترفقت به، فأقصر عن التودد إليها وطوى نفسه على حقد ورث عن أبيه الاستعداد له، ولم يفض إلى أحد بهذا السر مخافة أن يرقى الخبر إلى أمه فتسود عيشه وتنغص حياته، وفي البث راحة ولكنه حرمها.
وانتهى من التعليم، وآن أن يجد عملاً؛ ولكنه فتى لم يألف مخالطة الناس ومعاشرتهم والاجتراء عليهم، لأنه قضى معظم حياته — في غير المدارس تحت عين أمه، وذلك ضرب من الحياة لا تعرفه حتى البنات في هذا الزمان، ومن هنا عظم حياؤه الطبيعي، وكان يرى أباه نافراً من الناس معتزلاً لهم، ساخطاً عليهم، فقلده — وراثة أو اكتساباً — وكان قد نقم من قريبته فإنها أقنطته من حبه لها واعتقد أنها تراه دونها ولا تعده أهلاً لها، أضطغن عليها وعلى أهلها، وكان أهلها بفضل جاههم هم الذين يستطيعون أن يبلغوه مناه من الوظيفة في زمن لا يرجو فيه الإنسان أن يبلغ شيئاً بحقه، وقد يبلغ فيه كل مرام بفضل الوسطاء؛ فلم يظفر إلا بوظيفة هينة الشأن ضئيلة الأجر، لم تكن تستحق أن يقضي في سبيلها كل ما قضاه من العمر في التعليم، فزاد سخطه على الناس وامتلأ صدره إيماناً بالظلم في الحياة، وكان له من عجز أبيه عن التصرف والسعي نصيب؛ وكانت نشأته من شانها أن تزيده قلة حيلة فقنع بالوظيفة الهينة، أو تلقى الأمر فيها بالتسليم؛ وإن كان قلبه مملوءاً مرارة وقيحاً.
ومات أبوه، فلم يشعر بالراحة والفرج، لأن أمه هي المرهوبة، وأحب جارة له في مثل سن أمه أو أكبر، لأنها كانت تعطف عليه وتدعوه إليها فيقضي عندها ساعة أو بعضها ينعم بالحديث والمودة والعطف، ويتسلى، ثم يعود إلى محبسه، فيحس الفرق، فيشتهي أن يكون مع هذه الجارة نهاره وليله، فلم يكن حبه لها حباً بالمعنى الصحيح، وإنما كان مظهراً لضيق صدره بما يجن، وللتعلق بقشه وهو غريق، فما كانت المرأة الجميلة، وأقصى ما يمكن أن يقال فيها إن على وجهها مسحة من ملاحة، وتحت الثياب التغضن والترهل، اللذان لا تجدي فيهما المساحيق والأدهان، ومن أين تجيء بمساحيق وأدهان كافية لكل هذا البدن؟ فقد كانت بدينة، واضطر أن يطوي صدره مرة أخرى على سره، خوفاً من أمه، وإشفاقاً مما عسى أن تنزله به من العذاب.
ولحقت الأم بزوجها، ولكن موتها لم ينجه ولا أعفاه مما هو فيه، فقد ألف هذا الضرب من الحياة أكثر من ثلاثين سنة، واعتاد الكبت الخانق لكل شعور حتى إنه ما كان يجرؤ أن يعرب عما يدور في نفسه ولا لإخوانه إذا صح إنه استطاع أن يتخذ له إخواناً. وما قصر في نشدان الأصدقاء، ولكن أنداده كانوا يرون طول صمته وانطواءه على نفسه، وكثرة قعوده في بيته. ويعرفون خوفه من أمه، فزهدوا في صداقته لأنه لا بشيء فيها يسرهم.
ومع خلو البيت، بعد وفاة والديه، إلا من خادم هرم لا يحسب أحد له حسباناً، كان فتانا لا يستطيع أن يتحرر حتى في البيت مما ألزمته أمه في حياتها. وكان إذا ضاق صدره وعجز عن الاحتمال، وأراد أن يشعر أنه إنسان له في نفسه حق، يوصد على نفسه بابي غرفته وينضو ثيابه كلها حتى يعود كما كان آدم في الجنة، ويقف أمام المرآة وينظر إلى صورته في صقالها ثم يرقص ويفرقع بأصابعه، ويدندن — أي يغني دون أن يرفع الصوت بالغناء — حتى إذا تعب انطرح على أريكة أو سرير، وقد ينام هو عار، ولا يتغطى إلا إذا شعر بالبرد.
ولم يطل صبره على الوظيفة، ولا صبر رؤسائه عليه، فقد كان ظاهر الاستخفاف بها وبهم، وكانوا يرون منه ما يعدونه بلادة شعور، وقلة توقير، فاغتنموا فرصة خطأ وقع فيه وإن كان غير جسيم، فنقلوه إلى بلد قصي، فلم يذهب إليه، ففصل.
ولم يشق عليه الفصل فقد بقيت له أرض أبيه، وفيها الكفاية لعيش، وإن كانت لا تسمح بالرغد، ومازالت جارته ترحب به وتحتفي بمقدمه، ولعلها راغبة فيه، وما انفك هو يختلف إليها ويكون عندها كأنه في بيته — يطلب الطعام إذا جاع، ويستلقي على أريكة إذا تعب، ويأمرها أن تصنع له قهوة أو شاياً، ولو قدر لنام عندها أيضاً، ولكنها هي تخشى على سمعتها، وإن كانت لا تخشى على نفسها منه، فما يخرج معها عن الحشمة، ولا يجاوز المزاح المقبول باللسان، ولكنه لم يكلمها في زواج فكأنه متردد، أو لعله يستحي أن يقول بما في نفسه، لو عسى أن يكون مشفقاً من كلام الناس ولغطهم بمثل هذا الزواج، وربما كانت العلة أخفى من ذلك — أي راجعة إلى ما أورثه وأغراه به طول الكبت من العادات التي لا تجعل علاقة الزواج أطيب وأمتع علاقة لمثله، ومن يدري؟ قد يكون في قلبه خوف من أن يصير معها إلى مثل ما صار إليه أبوه مع أمه، فهو يؤثر طول الزمان على دوام العبودية. والله أعلم بالحقيقة على كل حال.
وإن صاحبنا لحي يرزق، ولكنه لا يعد في الأحياء بأي معنى صحيح إلا حين تقوم الدولة بإحصاء النفوس، وصحيح أنه يأكل ويشرب وينام ويدخل ويخرج، ويذهب إلى السينما أحياناً، ويطرب للسماع إذا أتيح له عفواً، ولكنه لا يحيا، فإنه لا يعمل لا بجسمه ولا بعقله وقد ركدت عواطفه وإحساساته، أو جرت في بحار خفية فما يتبدى منها شيء إلا حين يكون في خلوة تامة مع نفسه، وفي أمان من عيون الرقباء وآذانهم.
وتسأله ماذا يرجو؟ وإلى أي شيء يتطلع؟ فيحدق في وجهك كأنه غير فاهم، ويسألك «أرجو؟ تقول أرجو؟» ويهز رأسه وقد ينهض عن المجلس الذي أنت فيه — لا غاضباً فإنه لا يغضب — أو على الأصح لا يراه أحد يغضب — بل لأنه يعني بالجواب، ولعله يقضي الليل مسهداً يتساءل عما يرجو، ثم يمل التساؤل، فينهض ويضيء أنوار البيت كلها، ويغلق عليه غرفة، ويخلع ما عليه ويقف أمام المرآة يرقص ويدندن!
ماذا يرجو؟ أما أن هذا لسؤال!