الابتسام
منذ بضع سنين — عشرين أو نحو ذلك — أصبت بالنورستانيا، فاحتجت إلى الأطباء وكان علاجهم جرعاً أو حقناً والراحة التامة والكف عما يتوهمونه يضنيني من القراءة والكتابة، فأما الحقن أو الجرع فكان أمرها هيناً، وأما الراحة فكان معناها انقطاع الرزق لأنه لا رزق بلا عمل، وأما الكف عن القراءة والكتابة فقد كان هذا خليقاً أن يورثني الجنون لا أن يشفيني لأنه يجعلني أبداً في خلوة بنفسي ويفسح الوقت والمجال للتفكير فيما كنت أعاني من الأوهام، وهذا ما كنت أهرب منه وما كان ينبغي اتقاؤه، لأن المرض يستفحل به ولا يخف على ما جريت، وكانت النورستانيا في أول الأمر خفيفة محتملة، ولكنها تفاقمت على أثر سقوطي في ظلمة الليل في قبر خرب تعلقت بى فيه العظام النخرة فخرجت منه حين خرجت بوجه ميت وأعصاب مخبول.
وصرت بعدها أتوهم الموت في كل شيء حتى لكنت أدعو أهلي أن يحفوا بي ويمسكوني لأنه كان يكبر في وهمي في تلك اللحظات المشئومة أن شيئاً مرعباً سيحدث لي ويجري علي، وأن قوة مخفية ستخطفني وكان شر ما أخشاه وأتقيه أن أصاب بالحمى لا لأنها طريق الموت فإن كل شيء طريقه بل لأنها تكون أحياناً مصحوبة بالهذيان، وقد يفشي المرء وهو يهذي بعض ما كان يحرص على كتمانه. وليس من الضروري أن يكون ما يكتمه سوءاً وشراً فقد يحب المرء كتمان الخير أيضاً.
وأخيراً وفقني الله إلى طبيب فيه شذوذ غير قليل، وكان يشكوني لإخواني لأني أتكلم بلا مناسبة تدعو إلى الكلام، ويشكوني إذا سألني عن شيء من التاريخ أو الأدب لأني لا أجيبه بما يحب، فحرت معه وآثرت الصمت، وقلت فليحسبني في عداد الصم البكم.
وكان يحقنني بما لا أعلم فدخلت عليه يوماً وكشفت له عن ذراعي فأومأ إلي فجلست وجلس هو قبالتي وجعل يحدجني بنظره وطال هذا منه فلم أرتح إليه وخامرني الشك في أمره وحدثتني نفسي بالهرب فقد قام في ذهني أن الرجل تعتريه نوبات من الجنون، وإذا به يقول لي وهو معبس: «تبسم».
فقلت في نفسي «لقد صح ظني وليته ما صح. والمثل يقول جاءك الموت يا تارك الصلاة، فهل كان من الضروري أن أقع في قبضة هذا «المجنون» وقلت له بصوت يسمعه «ايه».
فقال: وهو يزداد عبوساً «تبسم».
فخطر لي أن أحاوره وأداوره حتى يفتح الله علي بجلية أنجو بها وقلت له «اتبسم».
فهز رأسه أن نعم..
فقلت أطاوله وسألته: «هل تعني أنك تريد مني أن أتبسم».
فنطق وقال: هذا ما أعني.. تفضل.
فسألته: «ولكن كيف أبتسم وأنا لا أشعر بما يدعو إلى ذلك».
قال: «تبسم والسلام.. حاول.. ألا تعرف كيف تبتسم».
قلت: «أعرف كيف يكون الابتسام ولكني لا أستطيعه إلا بدافع من النفس. نعم يسعني أن أفتح فمي وأوسع حنكي ولكن عيني.. كيف أقسرها على الالتماع الذي لا يكون الابتسام ابتساماً إلا به».
قال: «حاول أن تبتسم ولا تحاول أن تتفلسف».
ففعلت ما وسعني وقلت له: «هل هذا يكفي» ولم يبق عندي أي شك في جنونه.
فقال: «حاول مرة أخرى».
فحاولت — لا مرة أخرى بل مرات، وماذا أصنع غير أن أجاريه؟
فقال: «إنك لست مريضاً ولكنك نسيت الابتسام.. فقدت القدرة عليه.. هذا هو خطبك.. وأنا من الآن فصاعداً لن أصف لك أي دواء لأنه لن ينفعك مثل الابتسام فاستعد القدرة عليه، وإذا عجزت عنه فما عليك إلا أن تنظر في المرآة وتتكلف الابتسام فسيضحكك المنظر لا محالة وتظل بعد ذلك تضحك حتى يوجعك رأسك وبطنك».
فقلت له: «أشكرك» قال: «لا تحسب أني أمزح حين أقول أنظر إلى المرآة لتضحك، فلست أقصد إلى النكتة وإنما أنا أعني ما أقول. وأنا أيضاً إذا أعياني الابتسام أفعل ذلك. إن ابتسامة أو ضحكة واحدة تستطيع أن تغير الحالة النفسية للإنسان كما لا يستطيع أي شيء آخر.. جرب وانظر.. قابل كل شيء بابتسامة ولو مستكرهة فإنك لا تلبث أن ترى العجب.. والآن تفضل فإن المرضى غيرك كثيرون».
خرجت من عند الطبيب في ذلك اليوم أبتسم متعجباً، وقد بدا لي أن ما سمعته منه لا يخلو من صواب. وأحسست وأنا عائد إلى بيتي أني أشتهي السمك. تعجبت فما أعرفني اشتهيت طعاماً بعينه قط، وعهدي بنفسي أني آكل ما أجد وأحمد الله. فقلت خيراً وملت إلى حيث يباع السمك فأعجبتني سمكة كبيرة راقني منظرها، وإن كنت لا أدري كيف مخبرها، فإني أجهل الناس بأمور الطعام، وحملتها إلى البيت وأنا فرح بها وقلت لهم اصنعوا لنا منها شيئاً فإني جوعان فبادروا إليها وأقبلوا عليها يصنعون منها ما لا أدري وهم مستبشرون بما رأوا من هذه الرغبة التي أظهرتها والتي لم يألفوها مني، ثم قالوا تفضل فتفضلت وجلست إلى المائدة معهم وهممت بأن أتناول من السمك المشتهى، وإذا بي أشعر أن الحمى مقبلة، وعراني فزعي المعهود منها فرددت يدي عن الطعام ونهضت إلى السرير وقلت هاتوا شربة، فجستني أمي ونظرت إلى وجهي الممتقع ونظرتي التي ارتسم فيها الفزع والأسف والألم وقالت: «يا بني ما هذا الحال … لست أدري بك شيئاً» قلت: «إنها الحمى آتية لا ريب فيها هذه المرة؛ وإني لأجد صهدها من بعيد كأني أتقلب على اللهب» فهزت رأسها آسفة وجلست على كرسي جانبي وتركتني لخواطري وأوهامي، ومضت دقائق وأنا أفكر في هذا الحال فبدا لي أن من سخر الأقدار أن أشتهي طعاماً لأحرمه، وتذكرت نصيحة الطبيب وخطر لي أن هذه القدرة على السخر تستحق الإعجاب، وأن في وسع الإنسان أن يكبر الناحية الفنية في تصاريف الأقدار وإن كان يألم ويتوجع بل في وسع الإنسان أن يجرد من نفسه شخصاً ثانياً ينظر نظرة فنية إلى المقادير غير الشخص الذي يتوجع لوقعها، وسألت نفسي: أليس هذا الذي حدث لي شبيهاً بالفصول التي يعابث بها الإخوان بعضهم بعضاً ليضحك العابث مما يقع في صاحبه.. ثم يضحك الذي كان غرضاً لهذا العبث حين يعرف حقيقة التدبير.. ولم لا أنظر هذه النظرة إلى سخرية الأقدار.. لم أتهمها بالقسوة.. ولا أقول أنها تلاعبنا وتعابثنا ولكنا لا نفهم مرادها فنحسب مزاحها جداً ونروح نتألم.. وخيل إلي أن من غير المعقول أن تعني الأقدار بأن تحرمني من قطعة من السمك أشتهيها. وما قيمة سمكة آكلها أو لا آكلها عند الأقدار حتى تصدني عنها.. ولم لا أقابل هذا المزح بالروح التي تناسبه.. وإذا كنت لا أستطيع أن أتبسم مسروراً فإن من الواجب أن أتبسم مكلفاً محافظة على أصول المزاح.
وابتسمت — أعني أني رسمت ابتسامة على فمي وتركتها هناك تشبثاً بها وإصراراً عليها. ورأت أمي ذلك فعدتها بشرى وقالت: «أحسن» قلت وقد شعرت بالخجل «نعم» قالت «ألا تأكل الآن» قلت «ليس الآن» قالت «قم بنا إلى مدينة الفسطاط فإن الجو الآن جميل» فوافقت وقمنا جميعاً — النساء كبارهن والصغار، والخدام والأطفال وأنا. والطريق إلى الفسطاط خال فأرسلنا أنفسنا على السجية وجعل كل من شاء يجري أو يضحك كما يشاء فأنعشني الهواء وأضحكتني بعض المناظر، فلما بلغنا الفسطاط كنت أحس أني أتضور، وكانت أمي قد قدرت ذلك فأرسلت من يسبقنا بالطعام فأكلنا هنيئاً.
صرت بعد ذلك كلما عاودني مثل هذا الحال لا أستسلم له بل أبتسم كما أمر الطبيب. ولا أرقد على السرير كما كنت أصنع، بل أتناول العصا وأذهب أمشي بسرعة حتى يذهب عني البأس ويخرج مع العرق المتصبب فاستطعت بعد قليل أن أستغني عن طب الأطباء وجرعهم وحقنهم.
وجرت فائدة الابتسام وفضله في التداوي فصارت قاعدتي أن أبتسم لكل شيء لأرى ما يكون، فما لبثت حياتي كلها أن تغيرت فقد كنت حاد الطبع سريع الغضب، فصرت أراني إذا ابتسمت لما يغضبني يزول عني الغضب وأشعر بسكينة غريبة، وأحس أني أستطيع أن أفكر بهدوء وأن أضع نفسي في مكان الذي أغضبني وأنظر إلى ما فعل من ناحيته هو فأعذره، وإذا أصابني ما أكره وابتسمت له أرى وقعه يخف وأمره يهون جداً ولا أجد ما كنت أجد قديماً من مرارة السخط أو لذع الألم فكأن الابتسام مهلة تمنحها النفس وتمنعها أن تنساق أو تندفع أو تتسرع فيما تستجيب به لوقع الحوادث.
فمثلاً — أحس أني أوشك أن أتنهد أسفاً على شيء فاتني أو حرمته، فأبادر إلى الابتسام وأراني أحدث نفسي بأن الأسف على شيء فات لا معنى له لأنه فات وانتهى أمره ولن يرده نفس طويل يرتفع له الصدر كالموجة العالية، وإذا كنت حرمت شيئاً فما حرمت كل شيء وليس الذي حرمته بالشيء الذي تستحيل الحياة بدونه وليست الحكمة في المغالاة إنما الحكمة أن يدرك المرء القيمة الحقيقية لكل شيء فلا يعدو بشيء مكانه ولا يجاوز به قيمته. وتنتهي هذه النجوى بأن تذهب الرغبة في التنهد وكل ما ينطوي عليه من الأسف والشعور بالخيبة أو الحرمان أو غير ذلك.
ويسؤوني فعل صديق أو قوله فتحدثني نفسي أول ما تحدثني بأن أكر عليه بمثل ما قال أو فعل، ولكني أبتسم أولاً فيتغير مجرى خواطري واتجاه إحساسي وأراني أقول لنفسي «من الذي قال إن هذا الصديق أساء بالفعل أو القول …
وبماذا أساء.. وكيف يعقل أن أنتظر من الناس ألا يقولوا أو يفعلوا إلا ما يرضيني أنا.. ومن أكون حتى ألزمهم ذلك.. وعلى أن احتمالات العفو كاحتمالات العمد فيما يصدر عن الناس ويسوء بعضهم من بعض، فلماذا أجزم بأن الصديق تعمد الإساءة ولا أقول إنها كانت منه عفواً.. ثم أين هي الإساءة على كل حال.. إنه غروري أنا لا إساءته هو».
ويعتريني الأرق لخاطر ملح أو حاجة لم تقض فأبتسم وأقول مناجياً نفسي «لقد صار أمر حياتك رهناً بشيء يسير على ما أرى، فما أهون هذه الحياة إذن وما أضأل قيمتها.. إذا كانت الحاجة لم تقض فهي لم تقض ولن ينفع في قضائها هذا التحسر الذي يورثني الأرق. ومن يدري.. ألا يمكن أن يكون هذا خيراً ألا يتفق أن تكون الخيرة في الواقع.. وأوجه الأمر الذي يشغلني من هذه الناحية الجديدة التي لم أكن أنظر إليها فيأخذني النوم وأنا أفكر.
وقد وجدت للابتسام مزايا أخرى وفضلاً في الإطلاع على ما لم أكن أطمع أن أطلع عليه وألم به، فقد اتفق مرة أن كنت مدعواً إلى عقد زواج والعادة أن توزع على المدعوين بعد كتابة العقد علب من الحلوى وليس بالنادر أن يكون منظر الزوج في هذا الموقف مغيراً بالضحك: وكان العريس في هذه المرة ممن لا يعنون في العادة بحسن الهندام وأناقة الملبس، وكثيراً ما رأيته يترك لحيته أربعة أيام أو خمسة وهو لا يحلقها، فإذا فعل بدا لي كأنه إنسان جديد وكان في تلك الليلة — أو على الأصح ذلك المساء — يلبس ثياب السهرة — لا أدري لماذا — وكان دائم التأفف، وكان لا يكف عن تحريك رقبته فعل من يشعر بالضيق والكرب من ضغط الياقة المنشاة المكوية، فأغراني منظره في غير مألوفه من الثياب بالابتسام فجعلت أنظر إليه وكان واقفاً وراء صف من الجلوس فلمحت واحداً منهم كانت معه علبتان من العلب المهداة يضع واحدة منهما على كرسي خال إلى جانبه وينهض فيمشي إلي ويقول وهو يبتسم — متكلفاً ولا شك — فما كانت هذه ابتسامة مهما بلغ من تسامح المرء في التعبير — «أ … أ.. أظن أنك تدرك أن هذا مزاح».
فنظرت إليه مستغرباً فما فهمت من كلامه شيئاً، ولم أقل لأني عودت نفسي أن أنتظر حتى يفرغ محدثي من الكلام، إذا كنت قد وجدت مراراً أن محدثك يهم بأن يقول لك شيئاً يظن أنك تعرفه أو تدركه فإذا تكلمت تبين من كلامك أنك غير عارف شيئاً فيعدل بالحديث عن مجراه وتخسر أنت ما كدت تسمع منه. ورآني الرجل أنظر إليه ولم أقل شيئاً فمضى في كلامه وقال «هذه العلب … لقد أردت أن أداعب صديقاً لي وأخفي عنه علبته لأضحك منه.. بالطبع كنت معتزماً أن أردها.. مزاح بين أصدقاء ليس إلا …» وضحك ومضى عني وهو يتلفت إلي ويحرك رأسه مبتسماً فلم يسعنى أنا أيضاً إلا أن أبتسم لهذا الاعتراف وإلا أن أحمد الابتسامة التي حالت دون السطو والسرقة.
وفي مرة أخرى قصدت إلى قهوة يجلس فيها إخوان لي، وكنت أريد أن آخذ واحداً منهم، وكان إخواني هؤلاء مولعين بعلب الورق وأنا لا أعرف من لعب الورق شيئاً، وقد حاول بعض إخواني أن يعلموني فأخفقوا ولم يفلحوا فظللت على جهلي بهذا اللعب. ودخلت على أخواني وكانوا حول المائدة الخضراء يلعبون على عادتهم، وكان معهم رجل لا أعرفه أو لا أذكر أني رأيته، فإن ذاكرتي خوانة فسلمت ودعوت صاحبي الذي جئت له أن يخرج معي فاستمهلني قليلاً فجلست على كرسي أقرأ في صحيفة ثم مللت فوقفت أنظر إليهم وإلى ما في أيديهم من الورق وإن كنت غير فاهم شيئاً، ولكن تداول الورق وما يحدث من الربح والخسارة وما يرتسم على الوجوه من المعاني المختلفة المتعاقبة لا يخلو من تسلية حتى لمن كان جاهلاً مثلي، فطال وقوفي وكانت هناك مرآة أمامي وراء الرجل الذي قلت إني لا أعرفه فجعلت أنظر إليها تارة وإليهم تارة وأنا واقف لا أعمل شيئاً، وانتهى دور من الأدوار فنهض الرجل الغريب وقال «دقيقة واحدة» وأشار إلي وقال «هل تسمح لي بكلمة».
فدرت حول المائدة إلى حيث هو وأنا لا ادري ماذا يريد مني فمشى بي إلى المرآة وجعل يخرج أصواتاً غريبة على سبيل التمهيد للكلام وأنا صابر منتظر لا أقول شيئاً على عادتي التي يندر أن أخالفها في حديث لا أعرف اتجاهه ولا مراميه ولا الغرض منه، ولكنه لم يسعني إلا أن أبتسم له كما كان يبتسم لي وإلا كان جمودي جفوة لا داعي لها، فظللنا لحظة هكذا — هو يقول «هه هه» وأنا أقابل قهقهته المضطربة المتقطعة بالابتسام فما ثم ما يدعو إلى القهقهة من ناحيتي وأخيراً استطاع أن يقول لي أن اللعب كله لعب، ولم أكن أظن أنه غير ذلك، ولكنه كان يعني أنه لعب للتسلية وتضييع الوقت وملء الفراغ الذي لا يدري على ما يظهر بأي شيء غير ذلك يشغله وأن الغرض ليس الربح وإن كان كل رابح سيرد إلى إخوانه ما أخذ منهم، فإذا كنت قد رأيت منه ما حملته على محمل آخر كالغش مثلاً فهذا تأوليه ولو كانوا يلعبون جادين لكان إخفاؤه الورق وإبداله خفية غشاً لا شك فيه، وكنت أنا قد لمحت يده تنزل تحت المائدة بورق ولكني لم أعر الأمر التفاتاً لجهلي بالأمر كله فجاء هو يعترف لي أنه كان يغش زملاءه ويزعم أن هذا كان مزاحاً والفضل في اعترافه للابتسامة التي لم يكن معنياً بها.
والحوادث التي من هذا القبيل كثيرة وهي جميعاً تبدأ باللجلجة والتلعثم وتنتهي بالاعتراف وسردها جميعاً لأن الابتسام يكون مقروناً بوقوع العين في العين وطول التحديق والنظرة القوية الطويلة تسبب الارتباك والاضطراب للمرء، وكون المرء غير مقصود بها هو يكسبها القوة ويطليها لأن المرء يخجل في العادة أن يحدق في وجوه الناس ولكنه يتفق أن يكون ناظراً إلى شيء وراءهم وان يكونوا هم في طريق النظرة فتقع بكل قوتها في عيونهم والناظر إليهم غير شاعر بذلك أو دارٍ بما يصنع أو متنبه للأمر ويطول ذلك على الذي تقع في عينه النظرة فيرتبك ويضطرب ويجد الناظر يبتسم فيدور في نفسه أن شيئاً فيه هو الذي يبعثه على الابتسام وأن الناظر لابد أن يكون قد وقف على أمر أو فطن إلى شيء أو أدرك حاله فأغراه ذلك بالابتسام ويقوم في ذهنه أن الابتسام ابتسام سخر وعلم في آن معاً وإلا فلماذا يطول ويظل مرتسماً على الشفتين، والمعهود أن الإنسان إذا رأى غيره ينظر إليه نظرة من يلاحظ عليه شيئاً قدر أن يكون ما لاحظه هو العيب أو الخطأ الذي يعرفه هو من نفسه ويشعر به ولو كان تافهاً أو خفيفاً فأنا مثلاً إذا وجدت واحداً ينظر إلى الأرض قريباً مني لم أشك في انه يتأمل ساقي المكسورة العرجاء، وإذا كانت نظرته إلى فوق توهمت مثلاً أن عينه على الزرار الناقص من القميص أو الربطة التي قلما تستقيم حول رقبتي أو تكون غير مائلة إلى اليمين أو اليسار هكذا.
والابتسام يكون من العين لا على الشفتين وحدهما، ولمعته في العين هي التي تفيد المنظور إليه معنى الضحك منه أو السخرية به، وميض السرور يحمل على الظن بأن المبتسم وجد ما يبعث على الضحك من النقائص أو الحالات التي لم تكن له في حساب، ولولا هذه اللمعة في العين لصارت النظرة مع طولها قوية جافية وعنيفة صارمة، ولكان الأرجح أن يكون أثرها غير إشعار المرء بنقص فيه أو عيب أو مأخذ، ولكان من المحتمل أن تؤدي إلى تنويم المنظور إليه إذا كان ممن يسهل التأثير فيهم على هذا النحو، وإذا لم تؤد النظرة إلى التنويم في هذه الحالة فقد تفضي جفوتها وعنفها إلى الفزع والرعب. حدث مرة أني كنت جالساً أفكر، وكنت ذاهلاً عما حولي وكنت أنظر أمامي لا إلى شيء والحملاق يكون في مثل هذه الحالات ثابتاً، وكانت أمامي فتاة من أقربائي ولم أكن أشعر بها أو أراها ولكن عيني كانت على ما يظهر في عينها، فتنبهت على صوتها وهي تلوح بيديها وتدعوني أن أكف عن النظر لأنها تشعر بالخوف، فدهشت أولاً ثم أدركت ما حدث ولا احتاج أن أقول إني حولت عيني فقد تحولت من تلقاء نفسها وبغير جهد مني لأن الأمر كله كان عفواً لا عمد فيه. ومعروف أن قوة النفس كلها تتدفق من العين، ومن هنا كانت العين هي أداة التنويم المغناطيسي، ولن تجد منوما أعمش أو ضعيف البصر أو فاتر الحدقة، لأن ضعف العين يحول دون نفاذ القوة منها والعين مفتاح النفس، فيها تقرأ أكثر المعاني أو الخواطر أو الخوالج أو الإحساسات التي تدور في الرأس أو النفس، ومن العين تتلقى النفس أكثر ما تتلقاه من وقع الحياة، فتأثير العين في العين يكون كأنه تأثير في النفس مباشرة بلا واسطة. فلا تستغربوا أن يكون الابتسام في وجه إنسان مع طول النظر إليه ولو عن قصد مؤدياً إلى ارتباكه واضطرابه ومغرياً له بأن يتقدم إليك ويبدأك بالكلام فإن هذا أشبه بأن يكون وسيلة من وسائل الدفاع عن النفس ليخلص من حالة تثقل عليه ولا يكاد يطيق الصبر عليها والثبات لها وليكسر من حدة النظر بتحويلها، ولا عجب إذا انتهى الأمر به إلى شيء من الاعتراف.
وكما يتفق أن أضايق الناس بنظراتي وابتساماتي وانا غير مدرك لذلك يتفق أيضاً أن يضايقني الناس بمثل ذلك، ولكن وسيلتي إلى الدفاع عن نفسي والتخلص من ثقل هذه النظرة والابتسامة ليست الاعتراف، بل وسيلتي أن أقابل المثل بالمثل. فإذا كان ينظر إلي ويحدق فيّ عمدت إلى وجهه فأوسعته تحديقاً وحملقة حتى يخجل ويرد عينه ويقعد كسائر خلق الله، وإذا كان يبتسم لي ابتسمت لد وزدت وبالغت وذهبت أوسع له شفتي حتى أبلغ بطرفيهما شحمتي الأذنين فيستغرب وينكر هذا المنظر القبيح الذي أقابله به ويتجهم ويزوي ما بين عينيه، فاضطجع في مقعدي وأقول لنفسي هذا أحسن، وأرضى عن نفسي. والمثل يقول إنه لا يفل الحديد إلا الحديد، وأنا أعمل بهذا المثل فالذي يبتسم لي أبتسم له والذي يحملق في وجهي أو عيني أحملق في وجهه أضعاف ما يفعل فمن كان لا يريد أن ينتهي به الأمر إلى الاعتراف للناس بما فيه فعليه بتقليدي فسيحمد النتيجة ويرضى عن العاقبة.