جذور التصدع
استبدت فيَّ الرغبة منذ حين ليس بقصير، في أن أعرض على الناس صورة تصوَّرتها عن الحياة الفكرية كما نحياها اليوم، لكنني أخذت أُقدِّم يدًا وأؤخر يدًا، لا لأنني لم أكن على ما يشبه اليقين فيما تصورته، بل لأنني خشيت أشواك الطريق، وهي أشواك تأتي من صعوبة الموضوع وغرابته من جهة، ومن عسر معالجته على نحو يجد طريقه إلى عقول القارئين من جهة أخرى. ثم أراد لي الله خيرًا، فساق إليَّ طالبًا في إحدى الكليات العلمية، يكثر من القراءة ويحسنها، وهو طراز نادر بين طلابنا، جاءني ليسألني: هل يمكنه أن يتلقى عني شيئًا يفهم به فهمًا واضحًا ماذا يراد بالفلسفة؟ وماذا يقرأ ليرتاد ذلك العالم المجهول؟
أجبت الطالب بقولي: لا، لن أُقدِّم لك ما تريده جاهزًا على طبق من فضة، بل سأعرض عليك موضوعًا يمس حياتنا الثقافية والفكرية في الصميم، وسنحاول تحليله معًا، وفهمه معًا، تعاونني وأعاونك، حتى إذا ما انتهينا معًا إلى نتيجة ترضينا، فعندئذٍ فقط سأجيب لك عمَّا جئتني لتستوضحه. فقال الشاب في فرحة وثقة بنفسه: لك عليَّ ذلك. قلت: إذن فلنبدأ من فورنا، والخطوة الأولى في الموضوع، هي أن نحاول معًا الإجابة عن هذا السؤال الآتي: افرض أن حياتنا اليومية العملية قد قذفت أمامنا بمشكلة يراد لها أن تحل حلًّا حاسمًا وسريعًا، ولتكن — مثلًا — مشكلة «النسل» وضرورة ضبطه، أو «تنظيمه»، ثم طُرِحت المسألة على أصحاب الرأي ليدلوا بآرائهم في حل المشكلة، وهي كما ترى مشكلة قومية، فتعالَ معي نحصر «أنواع» الآراء التي يمكن أن يعرضها أصحاب الرأي هؤلاء.
قال الفتى: ماذا تعني ﺑ «أنواع» الآراء؟ قلت: أعني الاتجاهات المختلفة التي يمكن أن يتجه إليها المشاركون بالرأي. فأنا أريد لك أن تتبين الفرق بين اختلافات في الرأي تأتي من الزاوية الواحدة، واختلافات أخرى تأتي بسبب أن زوايا النظر قد تباينت، فمثلًا قد ترى رجلين يتفقان على ضرورة تحديد النسل، لكنهما بعد ذلك يختلفان كيف يكون التحديد، وإلى أي حد يكون؟ ثم قد ترى رجلين آخرين لا يتفقان منذ البداية على المبدأ نفسه، إذ يقول أحدهما إن تحديد النسل لا بد منه، ويقول الآخر بأن مثل ذلك التحديد باطل من أساسه ولا يجوز الأخذ به، فكلا الموقفين: موقف الاختلاف بين الرجلين في الحالة الأولى، وموقف الاختلاف بين الرجلين في الحالة الثانية، أقول إن الموقفين كليهما يظهران اختلاف الرأي، لكن «نوعه» في الحالة الأولى لا يشبه «نوعه» في الحالة الثانية، إذ هو في الحالة الأولى اختلاف في ظل مبدأ مشترك، وأما في الحالة الثانية فلكل من الرجلين مبدأ يختلف به عن مبدأ الثاني.
قال الفتى: فهمت ما تعنيه، والآن فلنحاول إحصاء «أنواع» الاختلاف كما أردت، وفي ظني أننا قد وقعنا بالفعل على نوعين، فهناك فئة ترفض تحديد النسل لأنها ترفض المبدأ، وبالتالي فليس لديها ما تقدمه من خطط ووسائل، وهنالك فئة أخرى تقبل المبدأ، وربما تفرَّعت فيما بينهما بعد ذلك فروعًا عند التفكير في الخطط والوسائل، فقلت له: نعم، لكن إياك أن تحسب الفئة الأولى نفسها بمثابة النوع الواحد؛ لأنها هي الأخرى قد تتفرع بدورها فروعًا، كل فرع منها يقدم سببًا مختلفًا يعلل به رفضه للمبدأ، فهنالك من يرفضون مبدأ التحديد على أساس ديني، وهنالك من يرفضونه على أساس اقتصادي، وهنالك من يرفضونه على أساس صحي، وهكذا، لكن عد بنا إلى الفئة التي قبلت المبدأ، ثم تفرَّعت آراؤها تحت تلك المظلة الواحدة، فهل لك أن تحللها إلى فروعها تلك؟
قال الشاب: نعم، سأحاول التحليل ما وسعتني الحيلة، فيبدو لي أن تلك الفئة الكبرى تنقسم بادئ ذي بدء قسمين: قسم منها تغلب عليه النزعة العلمية، بمعنى أن أفراده إذا هموا بعرض وجهات نظرهم فهم يميلون إلى إقامة تلك الآراء على بحوث فيها دقة العلم، ومن هؤلاء: الأطباء، وعلماء الاقتصاد، وعلماء النفس، وعلماء الاجتماع. وأما القسم الثاني فأفراده من طراز آخر؛ لأنهم وإن يكونوا على استعداد لقبول ما يقوله العلماء بدقتهم العلمية، إلا أنهم في الوقت نفسه يرون أن ما هو أهم من العلم ودقته في موضوع كهذا، هو الذوق الحضاري، وقد جرى العرف أن يطلق على أمثال هذه الطائفة المفكرين.
قلت للطالب الشاب الساعي وراء المعرفة: يكفينا هذا القدر من التحليل، لنعود بأنظارنا إلى تلك الأقسام والفروع التي ذكرناها، فنلقي على أنفسنا سؤالًا آخر، يقع في مستوى أعلى من المستوى الذي تحركت أفكارنا فيه حتى الآن، فلقد كنا حتى الآن نحصي أنواع الرأي التي يحتمل ظهورها بين رجال الفكر عندنا، إذا ما طُلب إليهم إبداء الرأي في مشكلة تلح علينا أن نجد لها حلًّا، ألا وهي مشكلة النسل وضرورة تحديده، وبعد أن عرضنا عدة أنواع وما يتفرع عنها، نريد الآن أن ننظر، لا في مجرد السرد والإحصاء، بل في أبرز الخصائص الفكرية والثقافية التي تتميز بها تلك الأقسام والفروع، فماذا ترى في ذلك؟ فأجاب الشاب: أظن أن فكرة الزمن يمكن أن تُتَّخذ معيارًا لتقسيم هؤلاء جميعًا. سألته: وماذا تعني بفكرة الزمن في هذا المجال؟ قال: إنما عنيت أن أصحاب الرأي عندنا يمكن تقسيمهم ثلاث فرق؛ بحسب ما تراه كل فرقة منها زمن المثل العليا أين كان؟ أكان الماضي وما قد شهده من بطولات ومن طموحات في كل ميادين الحياة، هو النموذج لنا اليوم فنحتذيه؟ أم يكون النموذج قائمًا في مجرد تصور ذهني نتصوره نحن لما نريد لمستقبلنا أن يجيء عليه؟ أم لا هو الماضي ولا هو المستقبل، بل هو تحت أقدامنا حيث نقف، أعني أنه في اللحظة الحاضرة وما تقتضيه، فلهذه اللحظة مشكلاتها القائمة بالفعل، والتي تتطلب منَّا حلولًا لها، فلا ينبغي لنا أن نبحث عن تلك الحلول عند السلف، كما لا ينبغي أن تُرجَأ تلك الحلول إلى أن يتحقق لنا فردوس على الأرض، وإنما الواجب هو حل تلك المشكلات هنا والآن. بما بين أيدينا من العلوم وأدواتها.
أُعجبت أيما إعجاب بهذه النظرة التحليلية النافذة إلى حقائق الأمور، وأبديت للشاب إعجابي بعرضه للفكرة وتوابعها، ووافقته على أن خير ما يلقي لنا الضوء على أصحاب الآراء المختلفة في الموقف الواحد بين رجال الفكر والثقافة عندنا، هو — كما قال الطالب — اللفتة الزمنية عند كل جماعة منهم، فنحن — إذن — نستطيع القول بأن أصحاب الرأي عندنا منقسمون إلى سلفيين أسقطوا من حسابهم فعل الزمن، وظنوا أن الماضي بحذافيره يمكن أن يمتد وجوده كما هو الحاضر والمستقبل وإلى أبد الآبدين، فبالنسبة إلى السؤال المطروح بين أيدينا في هذا الحديث، عن مشكلة النسل فهم كأنما يصيحون بلسان الحال ولسان المقال معًا، بأنه ما دام السلف لم ينظروا في مشكلة النسل إذن فهي لا يجوز أن نعدها نحن مشكلة في يومنا؛ لأن اليوم لا بد أن يصب في قالب الأمس، أولئك هم جماعة السلفيين من أصحاب الرأي عندنا، وأما الجماعة الأخرى فهي ما يمكن تسميتها جماعة النظرة المستقبلية، وهي جماعة من المثقفين والمفكرين، تميل بهم اتجاهاتهم النظرية إلى أن ينسجوا نسيجًا، بوحي ممَّا قرءُوه أو ما فكروا فيه بأنفسهم لأنفسهم، يُصوِّر — أي النسيج النظري الذي نسجوه — ما يرجون أن يروه متحققًا في مستقبل بلادنا، ومثل هذه النظرة المستقبلية إما أن يقيمها أصحابها على تحليل علمي للحاضر، وما يُنتظَر لهذا الحاضر أن يتمخض عنه من نتائج، وإما عن رؤية بالبصيرة يجاوز بها أصحابها حدود التحليلات العلمية وقيودها، وفي كلتا الحالتين نخرج ﺑ «أمل»، ولكن الأمل وحده يترك لنا الحاضر كما هو بمشكلاته، وتبقى الجماعة الثالثة، وهي تلك التي تعلق اهتمامها الأول على اللحظة الحاضرة، فالمشكلة المعينة — كمشكلة النسل — هي مشكلة الأحياء في يومهم هذا، فلا مجد الأولين بذي نفع لنا فيها، كلا ولا جنة المستقبل التي تُصوِّرها لنا الأحلام.
واتجهت إلى الشاب الطُّلَعة الذكي الطموح، مكررًا له إعجابي بصفاء فكره، ومقررًا موافقتي إياه على اختيار فكرة الزمن أساسًا لتقسيم رجال الفكر والثقافة عندنا، ومواقفهم مما يعرضون له من قضايا، ثم أضفت له ما يأتي: لعلك تذكر أننا قد صعدنا بحديثنا عن مشكلة النسل التي ضربناها مثلًا نوضح به ضروب اختلاف الرأي بين أهل الرأي في مجتمعنا، أقول لعلك تذكر أننا — حتى الآن — قد صعدنا بحديثنا ذاك درجتين، كانت الأولى حين بلورنا الآراء المصطرعة المتناثرة في جماعات تمثلها، وكانت الثانية حين أدرجنا تلك الجماعات تحت فكرة اخترناها لتكون أساسًا للتمييز بين جماعة وجماعة، وهي فكرة «الزمن». وأريد منك يا بني أن تفكر لنا في درجة ثالثة للصعود، وسيكون الصعود هذه المرة، من الأساس الزمني الذي استخدمناه للتقسيم بين الجماعات المتنافرة، إلى الأصل البعيد الذي لا بد أن يكون ذلك الأساس الزمني نفسه قد اشتُقَّ منه.
فبعد فترة قضاها الطالب العلمي النابه في التفكير قال: إن ثمة إطارًا نظريًّا عامًّا أراه صالحًا لأن يكون هو ذلك الأصل البعيد الذي نبحث عنه، وهو تصور العلاقة بين ثلاثة أطراف، هي: السماء من أعلى والأرض من أسفل، والإنسان فيما بينهما يتأرجح صعودًا إلى السماء وهبوطًا إلى الأرض.
فلم يكد الشاب يطرح أمامي هذا الإطار العام، حتى أخذتني فرحة نشوانة يعرفها كل من يربط سعادته بالقدرة على كشف الجديد في دنيا الأفكار، وقلت له: ألا إنه لينبوع غزير الثراء هذا الذي وقعت عليه يا صاحبي، فلنتأمله معًا لنرى كيف السبيل إلى استخدامه وما نحن بصدد البحث عنه.
قال الفتى: لقد ازدادت الصورة وضوحًا أمام عيني، فالإطار النظري العام الذي يحدد به الإنسان نظرته إلى نفسه، والذي يجيء اختلاف الثقافات بعضها عن بعض، سواء أكان ذلك بالنسبة إلى تعدد الشعوب، أو بالنسبة إلى تعاقب العصور، هو أن يكون لنفسه تصورًا معينًا لوضع الإنسان في الكون، ووضعه بالنسبة إلى عالم الغيب، بما في ذلك من مصدر وحيه الديني، الذي يمده بالعقائد والقيم المنظمة لسلوكه، وإنني لأرسم أمام ذهني الآن صورة لثلاث درجات: عليا ووسطى ودنيا، وأتصور الإنسان هو في الدرجة الوسطى يضع قدميه على الدرجة الدنيا، ويشرئب بطموحه نحو الدرجة العليا، ويجيء اختلاف المواقف الثقافية — بين الشعوب وبين أفراد الشعب الواحد أحيانًا — من الطريقة التي نتصور بها وضع الإنسان بين تلك الدرجات، فهناك إطار ثقافي عام يقيس قيمة الإنسان بمقدار استطاعته أن يهمل الدرجة الدنيا بكل ما فيها ليعلو ما استطاع إلى الدرجة العليا، وهنالك إطار ثقافي عام آخر يرى أن الجدوى الحقيقية، والمحك الأساسي الذي يبين قيمة الإنسان هو قدرته على أن ينصرف باهتمامه إلى الدرجة الدنيا (التي هي هذا العالم الطبيعي الذي نعيش فيه) فيوغل فيها بحثًا ومعرفةً بأسرارها، ومِن ثَم يتاح له أن يكون فيها سيدًا يمسك بزمام الطبيعة، كما يسيطر الفارس الجريء المدرب على جواده، مقيدًا إياه باللجام والشكيمة، ليصرفه حيثما شاء، وكيفما شاء له أن ينصرف، وكلا الإطارين الثقافيين اللذين ذكرناهما، على تضاد ما بينهما؛ إذ إن أحدهما يبيع الأرض من أجل السماء، في حين أن الآخر يستدبر السماء لينكب على الأرض. أقول إن هذين الإطارين كليهما، على تضاد ما بينهما، متشابهان في الأساس العميق للرؤية، وهو عدم القدرة على الجمع بين اهتمام الإنسان بالسماء والأرض معًا في وقت واحد، ولنا بعد ذلك أن نتصور إطارًا عامًّا ثالثًا، لا هو يدير نفسه على محاور الدين كما نزل، ولا هو يديرها على محاور الواقع الطبيعي كما يقع، وإنما هو يبني لنفسه بيتًا من أوهامه وأحلامه، كما ينسج العنكبوت فلا هو ينعم بما رسمته له السماء، ولا هو يتقيد بواقع الأرض، ونحن إذ نقول ذلك عن الإنسان الحالم بحياته، نخرج — بالطبع — ذلك الضرب من الأحلام التي تبنى على ضرورات الواقع وقوانينه؛ لأن مثل هذه الأحلام كثيرًا ما كانت أسسًا لبناء حياة جديدة.
فرغ الشاب الموهوب من هذا البيان الرابع، فما وسعني إلا أن أزيده ثناءً وتقديرًا، ثم توليت عنه الشرح والتعليق، فقد كان فيما قدمه تخطيط يشبه رسوم المهندسين بالخطوط البيضاء على ورقات زرقاء، ظاهرها بسيط لكنها — برغم بساطتها تلك — تقام على أساسها أعقد ناطحات السحاب وأدقها وأعلاها، نعم، لقد أنار لنا الطالب العلمي النابغة مصباحًا، وعلى ضوء ذلك المصباح، أستطيع أن أجيب عن أسئلة كثيرة: فمثلًا، سؤال: ماذا يكمن في صميم قولنا إن أوروبا «نهضت» في القرن السادس عشر، نهضة نقلتها من عصور مظلمة إلى عصور مضيئة؟ جواب: الفكرة التي تكمن في صميم هذا القول، هي أن الأوروبي كان يهمل الأرض وشئونها، لتستوعبه السماء وغيوبها فلما نهض نهضته تلك تحول ببصره من أعلى رأسه إلى ما تحت قدميه، وعُني بالدنيا ومشكلاتها فعمرت الأرض ولم تضارَّ السماء. سؤال: ماذا يكمن في صميم قولنا إن الحياة الفكرية والثقافية في مصر خلال مرحلتها الراهنة، تدفع المصري إلى الخلف، بعد أن كانت تلك الحياة في الجيل الماضي تحاول دفعه إلى الأمام؟ جواب: تكمن في صميم قولنا هذا فكرة مؤداها أن رواد الفكر والثقافة في الجيل الماضي كانوا يشدون أبصار الناس إلى أرض الواقع الحي، بدل أن تستغرق كلها في النظر إلى أعلى، فجاء رواد الفكر والثقافة في هذا الجيل، ليصرفوا أنظار الناس عن واقعهم وحقائقه، ونموذجهم في ذلك هو ما كانت عليه مصر خلال القرون الثلاثة (١٦–١٩) التي اكتفى الدارسون فيها بتقويس ظهورهم على صحائف يحفظونها اليوم لتسميعها غدًا. سؤال: لماذا فشل التعليم (بالنسبة إلى ما يُبذَل فيه من جهود المخلصين) في يومنا؟ جواب: للسبب نفسه، وهو إغماض العين عن الطبيعة وما يبنى عليها من علوم، والاتجاه بمعظم الجهد نحو الإعداد لحياة آخرة.
ولو كان هنالك تناقض بين أن يمسك الإنسان بالحياة من طرفيها: أولاها وأخراها معًا، لقلنا إنهم معذورون في إيثار الخلود على الزوال، لكنه لا تناقض بل إنه لأساس مكين من أسس العقيدة الإسلامية أن يحيا الإنسان حياته بأولها وآخرها، وفي هذه المناسبة أذكر شيئًا سمعته ممن لم أكن أتوقع أن أسمعه منه، حدث ذلك سنة ١٩٣٦م حيث ذهبت من إنجلترا إلى ألمانيا في رحلة سياحية مدة أسبوعين، وبينما نحن في سفينة تجول بنا في بحيرة هناك، جاءني دليل المجموعة السائحة التي كنت أحد أفرادها، وعرف أني مصري مسلم، فاسمع ماذا قاله ذلك الشاب الألماني في تعليقه، قال: إنني أتصوَّر الكاثوليكية والبروتستانتية (في المسيحية) والإسلام، وكأني أرى أمامي ثلاثة فروع من جذع واحد: الفرع الأوسط هو الكاثوليكية في الجنوب الأوروبي، وهي للآخرة أكثر منها للدنيا، والفرع الثاني — فرع البروتستانتية — يمتد في الشمال الأوروبي، وهو للدنيا أكثر منه للآخرة، والفرع الثالث — وهو الإسلام — يمتد جنوبًا عبر أفريقيا وآسيا، وهو للدنيا والآخرة معًا في توازن جميل.
واتجهت إلى زميلي طالب العلم، معترفًا له بفضله ورجاحة عقله، وقلت: إننا الآن يا زميلي قد أصبح في مقدورنا إعادة النظر إلى حياتنا الفكرية والثقافية على ضوء المخطط الذي وضعته بين أيدينا، فنرى تلك الحياة وكأننا ننظر إلى تفصيلاتها تحت المجهر، فهنالك جماعة تتجه هي، وتشد الكثرة الكاثرة من الجمهور، نحو أن يكون المثل الأعلى هو أن نستجير بالسماء وخلودها من الأرض وعوابرها النواقص الفانيات (ونحن هنا نتحدث من ناحية الفكر والثقافة) ولو جاز لي أن أقدر بالأرقام نسبة تلك الجماعة ومن يسيرون في ركبها لقلت إنها لا تقل عن تسعين من كل مائة في أفراد الشعب الراشدين، وهنالك جماعة أخرى تقع في النقيض، لكنها قليلة، قليلة حتى ليستطيع عدها بالعشرات لا بالألوف ولا بالمئات، وديدنها الاكتفاء بحياة الدنيا، مع تعميقها بالعلوم والفنون والإنتاج والثراء والعيش الرخي المستريح، ولا يسير في ركاب هؤلاء أحد من جمهور الناس، وأما الجماعة الثالثة، فهي وإن تكن أقلية ضئيلة من حيث عددها، فهي ذات صوت مسموع إلى حد كبير، وهي جماعة تحرص أشد الحرص على أن يعيش الناس حياتهم كما أراد لهم الله أن يعيشوها، وأعني أن تجيء الحياة بكل امتلائها على الأرض، وبكل ما يرضي الله، ابتغاء حياة الآخرة بما وُعد فيها المؤمنون، وليس الجمع بين الطرفين ممكنًا فحسب، بل هو علامة من أبرز ما يميز عقيدة الإسلام.
ولو كان المجتمع سويًّا في فكره وثقافته، لاتحدت «الرؤية» في الإطار العام، ثم انحصر اختلاف الرأي تحت مظلة المبدأ المشترك، لكن مجتمعنا اليوم قد أصابه التواء، فتعددت الرؤى، فتفسخت أوصاله، وتصدعت جدرانه، وكمنت جذور ذلك التصدع في أننا لم نتفق على الألف باء، التي هي في هذه الحالة، ماذا يكون وضع الإنسان بالنسبة للإطار العام ذي الدرجات الثلاث.
قلت للطالب النابه: لقد جئتني أول الأمر، تسألني هل يمكنك أن تتلقى مني بيانًا لحقيقة «الفلسفة» ما هي؟ وتساءلت إن كان في مستطاعك أن تكون على فهم جيد واضح للمراد بهذا الاسم العجيب، الذي يتبادله الناس ليرفعوا قدره إلى أعلى عليين مرة، ثم ليهبطوا به إلى أسفل سافلين مرة أخرى، فأرجأت جوابي عن سؤالك حتى نفرغ معًا من محاورة نجريها لنستوضح — معًا — صورة حياتنا الفكرية والثقافية كما نحياها، ولم أرد أن يكون حوارنا في غير موضوع، فاخترت لك مشكلة عينية من مشكلاتنا الحادة، وهي مسألة تحديد النسل وضرورته، وها نحن قد انتهينا معًا بعد صعودنا في المحاورة درجة بعد درجة، إلى نتيجة عامة وشاملة.
ونعود الآن إلى سؤالك الذي جئت من أجله، وهو: ما الفلسفة؟ وجوابي هو أن الفلسفة منهج فكري، يبدأ دائمًا من السطح الفكري الذي يعيشه الناس، ثم يأخذ في الغوص تحت هذا السطح، ليصل آخر الأمر، إلى حقيقة عامة وشاملة تفسر ذلك الذي يجري على السطح — من جهة — وتشير بالتالي إلى ما كان ينبغي أن يكون، والحوار الذي أجريناه اليوم معًا، هو مثل متواضع للفكر الفلسفي كيف يعمل.