هذه الأجهزة وحرية الإنسان!
في مجلة «مايند» (العقل)، التي هي بين المجلات الفلسفية من أرفعها مستوًى، إن لم تكن أرفعها جميعًا، قرأت منذ بضع سنوات، مقالة في فلسفة الأخلاق، طرح فيها كاتبها سؤالًا طريفًا يبعث على التفكير، والسؤال يكاد يفرض نفسه على العقل في هذا العصر فرضًا. فالعجيب هو ألا نلتفت إلى المشكلة التي يثيرها، حتى ينبهنا إليها كاتب كالذي نشر المقالة المذكورة، وقد قصر ذلك الكاتب بحثه على جانب واحد من الموضوع، لكن قارئه سرعان ما يجد مجال التفكير قد اتسع حتى شمل جوانب أخرى كثيرة في حياة الناس العملية والنظرية على حدٍّ سواء.
والسؤال المحدد الذي ألقاه على نفسه وعلينا صاحب المقالة، هو عن مدى التبعية الأخلاقية التي يتحملها إنسان على أفعاله، إذا كان ذلك الإنسان قد تعرض للعملية التي يطلقون عليها اسم «غسل المخ» على أيدي أعدائه وهو أسير؛ و«المخ المغسول» — كما هو معلوم لنا — عبارة يشار بها إلى الحالة العقلية والوجدانية والإرادية، التي تبث في الإنسان بوسائل علمية، لتحل محل ما قد كان قائمًا عنده من قبل، فهذا الذي كان قائمًا يمحى و«يُغسَل» فيصبح كأن لم يكن؟ فإذا كان الفرد المعين يفكِّر على نحو ما تربى في بيئته وأمته الأصلية، وإذا كان ذا مشاعر خاصة نحو أشياء بعينها، بحيث يؤدي به ذلك كله إلى أن يسلك في حياته سلوكًا ذا صورة معينة، جاءت عملية «الغسل» فغيرت له هذا كله، لنضع مكانه أي شيء آخر يريد صاحب الشأن أن يضعه؟ ويخرج المسكين — دون أن يدري — وإذا هو قد اتخذ لنفسه «وجهة نظر» أخرى، فتكوَّنت له — بالتالي — أفكار أخرى ومشاعر أخرى، فيحب ما كان يكرهه قبل الغسل، ويكره ما كان يحبه، فإذا كان مواطنًا أمريكيًّا — مثلًا — وشارك في حرب فيتنام، على عقيدة بأنه بجِنِّه إنما ذهب ليحارب باطلًا، ثم وقع أسيرًا وتعرض لغسل المخ بالطرق العلمية، انتهى به الأمر إلى يقين آخر فيما يختص بالحق والباطل، وإنما ضربت هذا المثل لأنه مأخوذ من الواقع الفعلي، فكثيرون هم أولئك الذين قرأنا عنهم وعما قالوه بعد عودتهم إلى وطنهم الأمريكي من حرب فيتنام وما أصابهم فيها من أسر، وكيف تغير إطارهم الفكري والشعوري كله، نتيجةً مباشرةً لما أُجري عليهم من عمليات سيكولوجية.
والسؤال الذي طرحه الباحث في مقالته المذكورة، هو — كما أشرنا — على أي أساس تقام التبعة الأخلاقية، إذا كان الإنسان قد أصبح في حالة تجعله يريد إرادة غيره، إذ هو يريد ما أراد له غيره أن يريده، فيفعل الفعل، ظانًّا أنه حر الاختيار لما يفعله، مع أنه في حقيقة أمره، يفعل ما أريد له، ثم استطرد الباحث ليشمل بحديثه حالات التنويم المغناطيسي كذلك؛ إذ المنوم بهذه الطريقة، يؤمر بفعل أشياء، فينفذها وكأنما هو ينفذ ما أراده لنفسه، إلى أن تزول عنه آثار التنويم فيعود إلى وعيه. وخلاصة القول، فإن ذلك الكاتب — وهو مشتغل بفلسفة الأخلاق — يسأل: هل يعد الفاعل في هذه الحالات مسئولًا عمَّا يفعل؟ وصحيح أنه مع التقدم الذي حققه علم النفس في العصر الحديث، أصبح في حدود المستطاع بدرجة أكبر جدًّا مما كان في مقدور الإنسان قبل ذلك، أن يشكل سلوك من أراد تشكيل سلوكه، وعلى الصورة التي يريدها له، والتجارب على الحيوان في هذا المجال كثيرة وناجحة، ويكفي أن نذكر في هذا الصدد ما يستطيعه مدرب الحيوان في «السيرك»، فلا الأسد يصبح بين يديه أسدًا، ولا الفيل يظل فيلًا، بل كلٌّ يفعل ما رسم له المدرب أن يفعله.
على أن قارئ ذلك المقال، لا يكاد يفرغ من قراءته حتى تنفسح أمامه آفاق السؤال، إلى الحد الذي يتعجب معه من ذلك الباحث أن يقصر الحديث على المخ المغسول في ظروف سياسية أو عسكرية، مما يتكرر حدوثه في عصرنا؛ إذ ماذا تكون الثقافة الخاصة بأي شعب من الشعوب، إذا لم تكن ضربًا من صب النشء في قالب فكري وشعوري وإرادي، يضمن لذلك النشء أن يشبوا على غرار آبائهم، فيتجانسون معهم فكرًا وشعورًا وسلوكًا؟ حتى ليعد الخارج على النمط المألوف الموروث «منحرفًا» يستحق العقاب والتقويم، فإذا ما بلغت «التربية» بناشئ حد كمالها، رأيته يفكر كما يفكر الآخرون، ويشعر كما يشعر الآخرون، ويسلك كما يسلك الآخرون، وهو في كل ذلك يظن أنه حر الإرادة يختار لنفسه بنفسه فكره ووجدانه وسلوكه، مما يذكرنا بما قاله «اسبينوزا» عن الحجر الملقى، لو كان ذا شعور ونطق، لقال إنه قد سار في مساره، وسقط على الأرض حيث سقط، بحُر إرادته وبمحض اختياره، ولو عرف حقيقة أمره لعرف أن اليد التي قذفت به، هي التي رسمت له مساره وبقوة الدفع التي لا بد معها أن يسقط حيث سقط.
وإذا كانت الثقافة الإقليمية في مجموعها، تكون غلافًا يحيط بعقل الإنسان ووجدانه وإرادته، ليحميها من المؤثرات الخارجية التي قد تفتتها فتمحو معالمها، ولكنه في الوقت نفسه غلاف يقيد حركتها ويكتم أنفاسها، فيحرم الإنسان الحبيس انطلاقة الإدراك وحرية الإرادة، أقول إنه إذا كانت الثقافة الإقليمية تصنع ذلك الصنيع في أبنائها، فإن خطورة الانغلاق تزداد فداحة، حين يحتفر الإنسان لنفسه داخل ذلك المعتقل الثقافي جحرًا يلوذ به، فعندئذٍ تزداد الظلمة ظلامًا، ويزداد الغطاء كثافةً، فيحجب عنه كل قبس من ضياء! فيعيش الحبيس في أوهام كهفه وهو يظن أنه إنما يواجه الحق الذي لا ريب فيه، فالطريقة التي يربى بها الناشئ، والأشياء التي يعاقب عليها أو يثاب، والمقارنات والمفاضلات التي تجري أمامه، والتي تجعل شيئًا أفضل من شيء — وفكرة أصح من فكرة وعقيدة أصدق من عقيدة — وهكذا، تنتهي بذلك الناشئ إلى «وجهة نظر» على أساسها يصدر بعد ذلك أحكامه، بحيث يصعب جدًّا أن تقنعه بأن ما عنده إنما هو «وجهة نظر» نشأ عليها، وكان يمكن أن ينشأ في ظروف أخرى فتتكون له «وجهة نظر» أخرى.
الإنسان هو حصيلة ما يراه ويسمعه ممن يحيطون به، وذلك هو ما جعل ديكارت يتساءل — عندما أراد أن يكون على يقين من صحة المعرفة التي جمعها على مدار أيامه — يتساءل: من ذا أدراني بأن المعرفة التي جمعتها معرفة صحيحة؟ إن مقدارًا كبيرًا منها قد جمعته حين كنت لا أملك القدرة الناقدة التي أمحِّص بها تلك المعرفة كلما تلقيت شيئًا منها، ومن هنا أخذ يفرغ رأسه من كل ما يحتويه، باحثًا عن ركيزة يقينية يستند إليها فيما يعود إلى قبوله أو إلى رفضه من تلك المعرفة التي جعلها موضع شك حتى يثبت له صوابها على أساس مكين، وكان الإمام الغزالي قبل ذلك بخمسة قرون، قد وقف من علمه وقفة شاكَّة شبيهة بوقفة ديكارت، باحثًا — هو كذلك — عن ركيزة يستند إليها في يقينه بما يعود فيوقن به، وكلا الرجلين بحث عن الركيزة المنشودة داخل نفسه، أي فيما يدركه إدراكًا مباشرًا غير قائم على برهان، إذا ما استبطن شعوره من داخل، وكان الفرق بينهما هو أنه بينما رأى ديكارت ركيزته في أنه «يفكر»، فقال مبدأه المشهور: «أنا أفكر فأنا موجود.» رأى الغزالي ركيزته في أنه «يريد»، فإذا جاز لنا أن نصوغ مبدأه في عبارة ديكارتية، كان ذلك المبدأ هو: «أنا أريد فأنا موجود.»
ولماذا أقول هذا؟ أقوله ليزداد القارئ إيمانًا بما نزعمه له، وهو أن الإنسان إذا ما ترك نفسه للمعرفة التي حصلها إبان طفولته وصباه وما بعدهما، دون أن يراجع تلك المعرفة مراجعة نقدية تميز له ما كان صوابًا فيها وما كان باطلًا، أصبح وكأنه يقضي حياته في كهف مغلق معتم معزول، أقامه له من تولوا تزويده بتلك المعرفة على امتداد حياته، ثم تركوه حبيس ظنونه، التي قد يصدق منها ما يصدق ويكذب ما يكذب. وكما طرح الباحث الذي أشرنا إليه في أول حديثنا هذا، سؤاله عن مدى التبعية الأخلاقية التي تقع على صاحب «المخ المغسول»، فالسؤال نفسه يجوز طرحه بالنسبة إلى ما يفعله الإنسان مدفوعًا بما لقنوه إياه منذ أخذ يلثغ بالتحدث مع ذويه ومن يحيطون به جميعًا.
وكان الإمام الغزالي، ثم كان الفيلسوف ديكارت، على حق حين أراد كل منهما أن يحذر الناس من عدم التفرقة بين ما هو معرفة ظنية تحتمل الخطأ، ومعرفة أخرى أقيمت على منهج يؤدي بصاحبه إلى معرفة صحيحة لا يأتيها شك من أي جهة من جهاتها، وحتى إذا كان المنهج الذي يطالبان به عسير المنال في أغلب الأحيان، لأنه إذا تيسر تحقيقه في المجال العلمي، فليس هو بذلك اليسر في المجالات الأخرى التي يكتفى فيها عادةً بدرجة من الدقة أقل، أقول إنه حتى إذا كان ذلك المنهج عسير المنال بكل دقته فلنقنع منه بما استطعناه، كما فعل الدكتور طه حسين في كتابه عن الأدب الجاهلي، حين رسم لنفسه طريقًا يعالج به موضوعه، منتهجًا منهج ديكارت، وهو أن يبدأ بالشك فيما يعرفه، والذي يعرفه في تلك الحالة هو أن شعراء الجاهلية الذين روى عنهم التاريخ — كامرئ القيس مثلًا — كان لهم وجود فعلي في الفترة التاريخية التي نُسبوا إليها، فبدأ الباحث بالشك في هذه الحقيقة حتى يثبت صدقها على المنهج الذي فصله ديكارت، فهو إن لم يكن قد استطاع تطبيق المنهج بحذافيره، بادئًا من حقائق أولية تُدرَك في باطن النفس إدراكًا مباشرًا؛ لأن طبيعة الموضوع الذي يبحثه لا يتيسر لها أن تنصاع لتلك الخطوات، فلا أقل من أن يأخذ من المنهج كل ما استطاع أخذه من الحرص والحذر.
«غسل المخ» — إذن — اسم جديد لحقيقة قائمة منذ أن أقام الإنسان نظمه الاجتماعية، فانخراط الفرد في جماعة ليكون عضوًا فيها، يستلزم أن يعد بالتربية إعدادًا يتنازل به عن كثير من مقوماته الشخصية الخاصة لكي يتجانس مع الآخرين في عرف مشترك، فكل فرد — آخر الأمر — هو بمثابة من ألبسوه منظارًا ملونًا باللون الذي تقرره الجماعة، لم يسع حامله إلا أن يرى الأشياء زرقاء أو خضراء أو ما كان من لون المنظار، والمثل الأعلى في مجتمع ما، هو أن يتجانس لون المناظير عند الأفراد، لكنه كثيرًا ما يحدث لمجتمع معين أن ينقسم على نفسه في الرؤية العامة، نتيجةً لانقسامه في الثقافات التي يتشرَّبها، وذلك هو ما حدث لنا في مصر — وفي الوطن العربي بصفة عامة — حين اصطدمنا حضاريًّا بحضارة الغرب التي هي حضارة العصر، فعندئذٍ تشعَّبنا شُعبًا تبعًا للدرجة التي أتيح بها لكل فرد أن يغترف من حضارة الغرب الجديدة، فأصبح منا من كاد يتحول كله تحولًا يجعله غريبًا خالصًا في رؤيته، ومنا في الطرف الآخر من كاد ألا يذوق قطرة واحدة من إناء الغرب، وبين الطرفين تدرجت الظلال، على أنه كان من الممكن — إلى عهد قريب — أن نرى حياتنا الفكرية والثقافية في مصر، وكأنها قد شطرتنا شعبتين، لكل منهما رؤية شديدة الاختلاف مع رؤية الشعبة الأخرى، فإحداهما سلفية تقيس الحاضر بمقاييس الماضي، والأخرى عصرية مستقبلية تجعل حضارة العصر وأسس ثقافته معيارًا لها، لكن ذلك الانقسام قد أخذ — والحمد لله — يضيق انفراجه، منذ أخذت جامعة الأزهر وضعها الجديد من جهة، وازدادت عناية الجامعات الأخرى بالتراث من جهة أخرى، وإذا قلنا هذا كنا كمن يقول إننا قد اتجهنا نحو أن تكون مناظيرنا موحدة اللون، لكن «اللون» ما زال قائمًا بطبيعة الحال، يجعل لنا رؤية تختلف كثيرًا أو قليلًا عن رؤية الأوروبي أو الأمريكي — مثلًا — اختلافها عن الروسي والياباني كذلك، وبقدر ما تكوَّنت مناظير الناس بحكم النشأة والتربية وظروف البيئة، يكون القيد الذي يحد من حرية الفكر والشعور والإرادة.
وكان ذلك كله — في الشعوب الحرة — لا يحرم الأفراد من هامش عريض يُترَك للفرد ليحيا في رحابه مطلقًا من القيود، فيكون حرًّا في فكره، حرًّا في توجيه مشاعره، حرًّا في إرادته فيفعل ما يحلو له أن يفعل، فهو إن تجانس مع سائر الأفراد في أمور حيوية تقتضيها الوحدة القومية، يظل له جانب من حياته ينفرد بنفسه فيه، فيتميز عن سواه بفكره وبعاطفته وبطرائق سلوكه، حتى أخرج لنا عصرنا هذا السيل من أجهزته التي هي نعمته ونقمته في آنٍ معًا، وأخص بالذكر من تلك الأجهزة جهازين لو تركناهما يسيران في طريقهما بلا وعي منا، لأجهزا على كثير جدًّا من حرية الإنسان، وأعني بهما الراديو والتليفزيون.
هما نعمة — كما قلت — أنعم بهما الله على بني آدم، فمن ذا في العصور السابقة كانت أحلامه تستطيع أن تشطح في تهاويم الخيال، حتى تبلغ بها حدًّا يظن عنده الحالم أن الإنسان — كل إنسان — سيمسك بين أصابعه بجهاز صغير، فإذا العالم كله في قبضة يده، يغمزه بطرف أصابعه هنا، فهو في أمريكا يستمع إلى أهلها، ثم يغمزه أخرى هناك، فهو في روسيا أو ما شاء من أطراف الأرض، أين من هذا خاتم سليمان ومصباح علاء الدين؟ أين منه قمقم الجن الذي ينبثق أمام المحظوظ ليقول له: شبيك، لبيك، أنا عبد بين يديك؟ هي نعمة أنعم الله بها على بني آدم في هذا العصر، عن طريق علمائه، ثم زادت الأعجوبة عجبًا حين جاء الجهاز الآخر: التليفزيون، فأضاف اللون … اللون! اقرص على أذنيك لتصحو وتتنبه … إنه اللون ينتقل إليك عابرًا آلاف الأميال، لترى ما تراه ملونًا بالأخضر والأحمر والأزرق! فلماذا — إذن — نستكثر من أولدس هكسلي أن يتنبأ بيوم تنتقل فيه الرائحة، فتجيئك الزهور بأريجها؟ هي نعمة كبرى أنعم بها الله على الإنسان في هذا العصر عن طريق علمائه، وقل ما شئت فيما نتج عن هذين الجهازين من معلومات تكدست بها رءوس الناس، من القابع في خيمته هناك في جوف الصحراء، إلى ساكن المدينة.
لكنها نعمة لم يشأ لها الإنسان أن تكون له نعمة خالصة، يزداد بها الناس علمًا ومعرفةً وثقافةً وتهذيبًا، فمزجها بشر من طبعه حتى صارت على يديه، في بعض حالاتها، نقمة تضيع معها تلك البقية التي كانت بقيت للفرد من حرية، ليفكِّر كيف شاء، ويشعر كيف أراد، ويسلك كيف استطاب، فإذا كان للعلم في عصرنا فضل النعمة، فقد كان للسياسة في عصرنا أيضًا إثم النقمة، وذلك حين تخطط السياسة لنا ما تريدنا أن نراه وأن نسمعه، ويومًا بعد يوم، وشهرًا بعد شهر، وعامًا بعد عام، وإذا إرادات الناس قد «صُنعت» لهم، وإذا أفكار الناس قد حفظت في علب جاهزة، وإذا مشاعر الناس قد رسم لها الطريق، وإذا الجميع آلات تدور كما يراد لها أن تدور.
أهي محض مصادفة عمياء ضلت طريقها في ظلمة عماها، أن نرى في هذا العصر ما لم يشهده التاريخ كله، ولا شهد مثقال ذرة منه، أن يشهد هذا التقارب الذي جمع أطراف الدنيا في جهاز صغير يمسك به الإنسان — كل إنسان وأي إنسان — وأن يشهد التقارب كذلك، بين شعوب الأرض جميعًا، وهي مجتمعة في هيئة الأمم المتحدة وفروعها وفي مؤتمرات تعقد كل يوم هنا وهناك، على «القمم» تارة، وفوق السفوح طورًا، حتى لقد قيل — بحق — إن الكوكب الأرضي قد أصبح قرية ذرية، أقول: أهي مصادفة عمياء أن يشهد عصرنا هذا التقارب الشديد بين أجزائه وأطرافه، ثم يشهد في الوقت نفسه، ما لم يشهده في أي عصر مضى من عصور التاريخ من التنافر بين أبنائه؟ إنه ليحدث كل يوم، كل ساعة، كل دقيقة، أن تفتك جماعات الناس بعضها ببعضها الآخر، غيلةً وغدرًا، بالقنابل، وبالحرائق، وبالخطف، وبكل ما يسع الخيال أن يتصوره من وسائل، لماذا؟ لأن السياسة قد أرادت، أو لأن ألوان الجلود قد اختلفت، أو لأن العقائد الدينية قد تباينت، أو مَن يدري؟ لعل يومًا قريبًا سيأتي لتفتك جماعات الناس بعضها ببعضها الآخر؛ لأنهم لم يتفقوا مزاجًا في ألوان الثياب وفي صنوف الطعام!
لا، لم يكن اجتماع هذين النقيضين في عصر واحد مصادفةً عمياء، وإنما هي أجهزة الإعلام وما تفعله بالرءوس، فإذا كان التقارب المعاصر بين شعوب الأرض ظاهرة أملاها «العقل» ويرحب بها العقل، ويتمنى لها المزيد، فإن التنافر الذي يبث كل تلك العداوة بين الشعوب، بل وبين أجزاء الشعب الواحد أحيانًا، إنما هو ظاهرة أخرى تمليها النزوات والأهواء والغرائز الحيوانية، وجاءت أجهزة الإعلام لتخدمها بتوجيه من رجال السياسة، فهذه الأجهزة تعبأ بمواد مختارة، لتعبئ بدورها أدمغة الناس بما يشعل فيهم التحزب والتعصب وضيق الأفق، ولا عجب أن القابض على هذه الأجهزة، قابض في الوقت نفسه على عقولهم وقلوبهم وعزائمهم وكل ما هو حيوي في كيانهم، لذلك نرى أنه إذا حدث انقلاب في بلد ما، أول ما يفكر فيه المنتصرون هو أن يحتلوا الإذاعة والتليفزيون؛ لن ذلك معناه الإمساك بزمام الجمهور فكرًا ووجدانًا.
إنه لا حيلة للمتلقي من هذين الجهازين، إلا أن يتلقى، فالآذان مفتوحة لتسمع والأعين مفتوحة لترى، إنه لا مناقشة ولا حوار، فحركة مرور الأفكار والمؤثرات النفسية تشبه حركة المرور في اتجاه واحد، فالاتجاه واحد من الجهاز إلى العين أو إلى الأذن، ثم لا رجوع ولا مراجعة، بل ولا مهلة للتفكير والتدبر، الأصوات والألوان تنزل على المتلقي كما ينزل المطر على السائر في فلاة، ليس هنالك ما يحميه من شجر أو جدران أو أي ضرب من ضروب العمران.
أول أركان الحرية هو النقد، أن تكون أمام المتلقي فرصة الفحص والتمحيص لما يتلقاه، لتكون له — بالتالي — مبررات القبول ومبررات الرفض، أما أن تجيئنا البضاعة مغلفة بأغلفة عازلة، تحول دون التحليل والتركيب والتقليب، ليتبين الجيد من الرديء، فمعناه أننا لا نلبث أن نكون كالدمى في مسرح العرائس، يحركها من يحركها وهو في الخفاء، ومن هنا نلحظ الفرق الكبير في تكوين الإنسان بين أن يكون مصدره الكتاب، وأن يكون مصدره هذه الأجهزة، فالقارئ يتفاعل مع الكاتب، يسرع تقليب الصفحات، أو يقف ويتمهل عند جملة واحدة بضع ساعات يناقش محتواها. إنه في الكتاب يملك زمام فكره وشعوره. أما والمصدر جهاز من هذه الأجهزة، يصب في أذنك الصوت، وفي عينك الضوء، صبًّا متلاحقًا، لا تملك له إيقافًا ولا إسراعًا ولا إبطاءً، ومحتوم عليك أن تقبل الجمل بما حمل، جيده مع رديئه، فمصير ذلك تبعية وعبودية وتمزق وفراغ.
بدأت حديثي بتلك المقالة التي طرح فيها صاحبها مشكلة المسئولية الأخلاقية ماذا يكون مداها عند مَن تعرض لعملية غسل المخ، بحيث أصبح إرادة غيره لا إرادة نفسه. أيظل مسئولًا عمَّا يفعل؟ ثم استطرد معي الحديث، فرأيت أن الأثر المتروك في مخ مغسول بالمعنى الحديث، يشبه الأثر المتروك في حالات أخرى كثيرة، وآخرها حالة المتلقي من الراديو ومن التليفزيون سيلهما المنهمر. دون أن يكون له فيما يتلقاه حول أو قوة، فالنتيجة واحدة، وهي أن ينتهي هو الآخر بمخ مغسول، ويصدق عليه السؤال نفسه الذي طرحه الباحث: هل تظل لمثل ذلك المتلقي مسئوليته الأخلاقية كاملة كما كانت؟ فإذا سأل سائل: لماذا جعلت المتلقي أمام الراديو أو التليفزيون مفقود الإرادة، وفي وسعه أن يبدل قناة بقناة، وموجة بموجة، أو أن يغلق الجهاز ويستريح؟ والجواب على ذلك هو أن الانتقال من قناة إلى غيرها، ومن موجة إلى موجة، إنما هو بمثابة استبدال سيد بسيد آخر، وأما إغلاق الجهاز فليس شبيهًا بإغلاق الكتاب؛ لأنك تغلق الكتاب لتأتي بكتاب آخر، على حين أنه لا آخر نلوذ به في حالة الإذاعة والتليفزيون.
وماذا تريد لنا أن نصنع؟ أريد أن نبقي لهذه الأجهزة على نعمتها وأن نلتمس وجهًا للخلاص من نقمتها، ونقمتها أساسًا هي تلك الحرية السلبية، وطريق الخلاص موجود، يتلخص في أن نسمح لكل ضروب الفكر والاتجاه أن تعلن عن نفسها، فبدل أن تكون الخطة مرسومة على أساس وحدانية الخط والهدف، ترسم على أساس تعدد الخطوط وتعدد الأهداف القريبة، التي تلتقي جميعًا عند هدف قومي واحد بعيد المرمى.
وهذا يستلزم أمرين: أولهما أن يكون المجلس الأعلى، المشرف على هيئة الإذاعة والتليفزيون مستقلًّا في قراراته عن الحكومة استقلالًا حقيقيًّا، لا استقلالًا شكليًّا يكتفي فيه بأنه مكتوب على ورق، فإذا هو استقل على هذا النحو، كانت هنالك فرصة أن يكون محايدًا، لا في مجال السياسة وحده، بل محايدًا في شتى مجالات الرأي، وعندئذٍ لا يكون للحكومة حق استخدام تلك الأجهزة أكثر مما يكون لأي مواطن ذي رأي فيه رجاحة الوزن التي تبرر أن يظفر بحق التعبير عن رأيه عن هذا الطريق، وأما الأمر الثاني فهو عندي بمثابة المبدأ الأساسي الذي تقام، أو ينبغي أن تقام عليه أجهزة الإعلام، وهو ألا تعرض المادة التي تقدم في تلك الأجهزة على أنها هي وحدها الاتجاه الفكري الصحيح، وأما ما عداها فضلال باطل؛ لأنها لو عرضت بهذه الروح، كانت بمثابة غسل لمخ المتلقي، غسلًا يثير السؤال الأخلاقي الذي أوردناه في أول هذا المقال، وهو: هل يكون صاحب المخ المغسول مسئولًا من الناحية الأخلاقية عمَّا يقوله أو يفعله بعد ذلك طالما هو قد أصبح مصنوع الإرادة، أي إن الفكر عنده هو فكر غيره، والإرادة عنده هي إرادة غيره؟ وإنما الطريقة الصحيحة والعادلة، هي أن تعرض المادة التي تقدمها أجهزة الإعلام عرضًا لا يوحي إلى المتلقي بأن يقول: هذا صحيح، بل يوحي له أن يقول: هل هذا صحيح؟ فإذا ترك المتلقي مكانه من الجهاز الإعلامي، ومثل هذا السؤال هو الذي يشغل ذهنه، كان بهذا قد وضع عقله ووجدانه وإرادته على أول الطريق الذي ينتهي به إلى أن يكون حرًّا في فكره وفي اتجاه وجدانه، وفي إرادته التي يختار بها بعد ذلك ما يفعله وما يرفض فعله.
أجهزة الإعلام في هذا العصر أدوات سلطانها على الناس جبار، ونحن الذين نصنع من ذلك السلطان شيطانًا يحيل المستقبلين بضرباته عبيدًا، أو نصنع منه رسولًا يبشر بالحرية، بل ويزرعها زرعًا في عقول الناس وقلوبهم.