ردة في عالم المرأة «٣»
كنت قد اعتزمت أن أمسك عن الكتابة إلى ما بعد الصيف! وذلك لأني شعرت بأن طاقتي قد استُنفِدت إلى آخر قطرة فيها، فباتت الراحة أمرًا يفرض نفسه عليَّ فرضًا، ولكن حدث أمران أغرياني معًا بأن أضع بين يدي القارئ كلمة قبل سفري إلى حيث أقضي أشهر الصيف لأستريح، أما أحد الأمرين فهو ما استباحته أقلام عن شخصي، بما أعتقد أنه أبعد ما يكون القول عن الحق وعن العدل، وأما الأمر الثاني فهو كثرة ما تلقيته من رجاء استئناف الكتابة، وإنما تلقيت ذلك الرجاء من أفراد لا يربطني بأحد منهم إلا ما يربط قارئًا بكاتب، ولقد أحسست من نغمة كلماتهم — سواء جاءتني تلك الكلمات مسطورة في رسائل أم جاءت منطوقة في أحاديث تليفونية — بأنهم ربما أخذتهم خشية بأن يكون انقطاع كتابتي لم يكن بإرادتي.
ولأمر ما، وجدتني أردد لنفسي عبارة صيغت معي على غرار ما صاغ هاملت عبارته المشهورة «أكون أو لا أكون؟ ذلك هو السؤال.» لكنني بدلت من كلماتها لتجيء مطابقة لما كنت فيه، فأصبحت: «أكتب أو لا أكتب؟ ذلك هو السؤال.» ولم يكن الأمر مع هاملت ومعي مجرد لعب بالألفاظ على سبيل التفكُّه، كلا، بل كان جادًّا فيه عمق الجد ورزانته ورويته وهمومه وتبعاته، وذلك برغم الفارق البعيد في طبيعة الموقف بين هاملت وبيني، فهاملت حين عاد إلى وطنه من غربته، وجد أن أباه قد مات، ثم أخذته الوساوس بأن أباه إنما قتل غدرًا بيد عمه، ليتزوج ذلك العم أرملة أخيه، وليتربع على عرش الدنمارك مكان أخيه، فلما استيقن الأمير الشاب — هاملت — بأن أمه وعمه مسئولان عن جريمة قتل أبيه، أخذته الحيرة الشديدة ماذا هو صانع إزاء موقفه ذاك المعقد العجيب؟ وهنا وردت عبارته: «أكون أو لا أكون؟ ذلك هو السؤال.» بكلمات أخرى: «أأحيا أو لا أحيا؟ تلك هي قضيتي.» وذلك لأن حياة الحي ليست مجرد شهيق وزفير بالرئتين، ونبض القلب وامتلاء المعدة بطعام وشراب، وإنما حياة الحي — إذا هو اختار لنفسه أن يحيا — إنما هي تبعات ثقال لا بد من حملها، منها واحدة تتصل بالموقف الذي وجد نفسه فيه، وأعني وجوب أن يثأر لأبيه، بغض النظر عمَّن يقع عليه الثأر، فقد يقع في هذه الحالة على عمه أو على أمه أو على كليهما، لأن المسألة هنا هي مسألة «العدل» قبل أي شيء آخر، وماذا تكون الحياة بغير عدل تقام له الموازين؟
وأما موقفي أنا، حين أخذت أردد لنفسي: أكتب أو لا أكتب؟ ذلك هو السؤال، فلم يكن فيه قتل ولا ثأر، لكن كانت فيه حيرة كحيرة هاملت، لا بين لفظتين، بل هي حيرة بين التصدي لتبعات الواجب مهما نتج عن ذلك التصدي من صعاب، وبين استرخاء خامل يضمن لصاحبه الدعة والعافية وراحة البال، فإذا اخترت أن أكتب، لم يكن معني ذلك — عندي — أن أسكب بالقلم قطرة مداد أنثرها في أسطر لا تغير من حياة الناس شيئًا، إذا كانت تلك الحياة — باعتراف هؤلاء الناس أنفسهم — مليئة بجوانب فيها من الضعف ما يوجب لها أن تتغير، لا، إنني إذا اخترت الشطر الأول من اللامعادلة (أكتب أو لا أكتب) لم يكن معنى ذلك عندي إلا أن أكتب جادًّا، وصادقًا، ومخلصًا، لأكشف من حياتنا عما هو مختل معيب، ويريد له الناس أن يتغير، أو قل إنه كان يجب على هؤلاء الناس أن يريدوا له ذلك التغيير، وأما إذا وقع اختياري على الشطر الثاني من تلك اللامعادلة — وهو ألا أكتب — كان ذلك كفيلًا لي بالسلامة والنجاة من الأذى، ولكنه في الوقت نفسه اختيار يجردني من أخص خصائص الإنسان، ألا وهو الضمير الحي، الذي لا يأذن لصاحبه أن يستريح، إذا هو أحس أن ثمة واجبًا ينبغي له أن يُؤدَّى لعل حياة الناس أن تصلح بأدائه. وأنا أسأل القارئ هنا سؤالًا، وأكتفي منه بأن يجيب عنه في سره، وهو: هل صادفت في بلدنا مواطنًا واحدًا راضيًا كل الرضا عما نحن فيه؟ وإذا كان جوابك بالنفي، قدمت إليك سؤالي الثاني، وهو: من الذي تقع عليه التبعة في أن يبرز أمام الأبصار والعقول مواضع الخلل، إن لم يكن هذا الابن أو ذاك من أبناء الوطن، وكل منَّا بحسب ما حباه الله من قدرة على الرؤية وعلى تشخيص العلة، وعلى وصف العلاج والمشاركة في أدائه إذا استطاع؟ وليس بي حاجة هنا إلى القول، ثم إلى تأكيد القول، بأن مواطنًا ما، إذا هداه إدراكه إلى فكرة ما تختص بالكشف عن مواضع الضعف في بنياننا القومي، توطئة لبحثها ومعالجتها، ثم دفعه ضميره ألا يسكت عما رآه، فنشره بين الناس، أقول: إنه إذا رأى مواطن منا رأيًا وأفصح عنه، لم يكن معنى ذلك — بالبداهة — أنه رأي محتوم الصواب، كما يكون الصواب محتومًا في المعادلات الرياضية، وفي بعض العلوم الطبيعية، بل كان ذلك معناه أن الرأي المطروح هو ما أسعفت به قدرات صاحبه، وبعد ذلك يكون لكل مواطن آخر، إذا كان مؤهلًا للبحث والنظر في المسائل العقلية، حق المحاورة والاقتراح، والتعديل، فالحياة لنا جميعًا وهمومها، إنما تقع بأثقالها على عواتقنا جميعًا، وليس الأمر في هذا حكرًا لأحد دون أحد بحكم ارتفاع المنصب أو قوة الجاه.
وإذا كان هذا هو الضمير الحي وما يمليه على صاحبه، فما الذي جعلني أردد لنفسي تلك العبارة: «أكتب أو لا أكتب؟ ذلك هو السؤال.» فيمَ كانت حيرتي، ما دام الأمر أوضح من الشمس، وهو أن أي مواطن يهتدي إلى رأي يراه في إصلاح حياة الناس، ثم يدفعه ضميره إلى الإفصاح عن رأيه ذاك ليكون ملكًا للجميع يناقشونه ويفكرون فيه لعلهم واصلون به إلى ما فيه الخير، أقول: فيمَ كانت الحيرة إذا كان ذلك هو حق لكل مواطن قادر، بل هو واجب على كل مواطن قادر؟
وجوابي هو: إن ما أوقعني في الحيرة، أو ما يشبه الحيرة، بين أن أكتب وألا أكتب، هو ما قد حدث بالفعل، حين نشرت رأيًا منذ قريب، ولم يصادف ذلك الرأي قبولًا عند طائفة من الناس، فلو كنَّا حقًّا نعرف للإنسان — أي إنسان وكل إنسان — حقه في حرية التفكير والتعبير، لاكتفى أولئك الرافضون للرأي المعروض بأن يفندوه، أوبأن يرفضوه في صمت إذا لم تكن لهم القدرة على إقامة الحجة دفعًا لما يرفضونه، لكن الصورة التي جاء عليها رفض الرافضين، أظهرت في جلاء كيف يمكن في أي وقت أن تُهدَر حقوق الإنسان بيننا، فلم تكن صورة الموقف هي صورة مواطن يحاور مواطنًا آخر في مسألة مشتركة بينهما، لكونها مسألة تدخل في شكل البناء الاجتماعي، بل كانت صورة الموقف هي أقرب إلى صورة الإعصار، أثاره المعارضون للرأي ونفخوا فيه، لعل صاحب الرأي يختنق به فيموت. وحسبي هنا أن أذكر جانبًا واحدًا من تلك العاصفة، وهو جانب أذكره، لا سعيًا به نحو فائدة أرجوها لنفسي، بل أذكره بحثًا عن حياة نحياها بحيث يأمن الإنسان محصنًا بحقوقه، وهي حقوق فرضتها الديانات على الناس، قبل أن يعود الإنسان إلى فرضها من جديد، في الإعلانات الدولية عنها، والجانب الواحد الذي قلت إني سأذكره مكتفيًا به هو أن بعض خطباء المساجد، استحلوا أن يشهروا بي علنًا في خطبة الجمعة ذاكرين اسمي مشفوعًا بصفات تدينه وتشينه، والسؤال الذي أطرحه على أصحاب الرأي من المواطنين، وبصفة خاصة رجال القانون، هو هذا: هل يجوز قانونًا، وحمايةً لحقوق الإنسان، أن يتخذ خطيب المسجد من التشهير بمواطن معين باسمه، موضوعًا لخطبته؟ ولنلحظ هنا أن الدولة، ممثلة في إحدى وزاراتها، هي المشرفة على المساجد، أو على أكثرها فيما أعلم، إنه لو جاء مثل هذا التغريض والتحريض مكتوبًا في صحيفة أو كتاب، لكان أمام المتهم فرصة أن يرد دفاعًا عن نفسه، ولكن كيف يتاح له هذا الرد والدفاع إذا جاء الاتهام على ألسنة خطباء المساجد، وأود أن أكرر القول بأنني لا أذكر هذا الجانب من جوانب العاصفة، سعيًا وراء نفع لشخصي، بل أذكره ليكون بمثابة موضوع مطروح للنظر، من حيث هو موصول بمسألة حقوق الإنسان.
وقد كنت أرغب في أن أضيف إلى هذا الجانب الواحد من جوانب العاصفة جوانب أخرى، لا تقل أهمية وخطورة عنه في موضوع حقوق الإنسان كذلك، لولا أن مجال الحديث لا يتسع، فأقول على سبيل اللمح والإيجاز: هل من الحق والعدل أن تفتح الصحافة أبوابها لمن أراد أن يتهجم ويسخر ويشتم ويهين؟ وأن تغلق تلك الأبواب دون من أراد الموافقة والتأييد؟ ومرة أخرى أؤكد بأنني لا أستهدف بما أذكره هنا، فائدة لشخصي، بل الهدف هو «حقوق الإنسان» وكيف تصان؟ وهل يجوز أن يصادر على حرية الرأي والتعبير عنه؟ لا سيما إذا كان صاحب ذلك الرأي يحمل وراءه تاريخًا طويلًا شريفًا نظيفًا مجاهدًا، ولا يبتغي من جهوده مالًا ولا جاهًا؟ أقول: هل يجوز أن يصادر على حرية الرأي؟ والتعبير عنه في حالة كهذه؟ بأحكام تأتي من المناصب العليا؟ فتأتي إلى جمهور الناس وكأنها أحكام القدر؟ أو أن الحق والعدل كانا يقتضيان أن تتكافأ أهمية المناصب العليا التي أصدرت أحكامها مع دقة البحث والتقصي، والعناية في تحليل النص الذي هو مناط تلك الأحكام، حتى تجيء الأحكام إلى جمهور الناس مستندة إلى تحقيق دقيق، فتعلو بذلك كلمة الحق، وترسخ بذلك جذور العدل.
تساءل هاملت: أأكون حيًّا أو لا أكون؟ واختار الأولى — فوقعت عليه تبعاتها — وللحياة الحرة الكريمة تبعات، وتساءلت أنا بطريقته، أأكتب أم أكف عن الكتابة؟ ما دامت تلك هي العواصف التي تثار لتعصف بمن كتب؟ وأنا أعني أن تؤخذ عبارة «من كتب» بحرفيتها؛ لأن الصورة التي كتبت داعيًا لها، هي صورة قائمة بالفعل في مئات الألوف من المواطنات، من الوزيرة، والسفيرة، وأستاذة الجامعة، فنازلًا إلى صغار الطالبات والعاملات، هي صورة متحققة بالفعل في تلك المئات من ألوف البشر الحي الذي تشهده الأبصار، ومع ذلك لم يقل أحد في ذلك شيئًا، فلا خطباء المساجد خطبوا، ولا الصحف فتحت أبوابها لمن يهجم ويشتم، ولا المناصب العليا أنزلت أحكامها، لكن ذلك قد حدث لأنني كتبته، نعم! لقد تساءلت أمام العاصفة: أأكتب أم أكف عن الكتابة؟ ولم يطل بي التساؤل إلا قليلًا، واخترت أن أكتب متحملًا للكتابة تبعاتها.
وللكتابة تبعات، إذا أردتها، لا بمعناها الذي يبدأ بالقلم وينتهي بالقلم، بل بمعناها الذي يبدأ بعقيدة وموقف وهدف، لينتهي ذلك كله إلى قلم يجريه على ورق، ومن هذا المعنى تجيء التبعات، إذ الأرجح جدًّا أن يعرض الكاتب أفكارًا ليست هي التي سادت وتواضع عليها الناس فناموا واستراحوا، وليكن معلومًا أن الإنسان بطبعه ينفر من فكرةٍ تُغير من أوضاع حياته، إذا كانت تلك الأوضاع قد أراحت جنبَيه، وهو بطبعه يتجنب بواعث التفكير؛ ولا عجب أن رأينا أساطير الأقدمين تنسب التفكير — عادةً — إلى أصحاب الشر بكل صنوفه، أما الخيرون فهم الطيبون الذين يحيون بقلوبهم أكثر مما يحيون بعقولهم، والسر في ذلك كله خوف الناس من الفكرة الجديدة تأتيهم لتغير من حياتهم ما قد اطمأنوا إليه واستراحوا.
للكتابة المسئولة تبعاتها وهمومها، وقد اخترت أن أكتب، فإلى اللقاء بعد أشهر الصيف، إذا شاء الله لنا لقاءً.