أنت تنفخ في رماد
أحقًّا يا مصر أنت كما يقول عنك بنوك اليوم؟ أحقًّا إننا نوجِّه إليك النداء فلا تسمعين؛ لأن الموتى لا يسمعون؟ أحقًّا إننا إذا أردنا أن ننفخ في نارك لتنير كنا كمن ينفخ في رماد؟ أحقًّا أصابك هرم ليس بعده عودة لشباب؟ اللهم لا! لكن هذا القول أو ما يشبهه، هو الذي حملته إليَّ خمس رسائل في يوم واحد، وكانت الرسائل الخمس من خمسة أبناء، تفاوتت أقلامهم، وتباعدت مصادرهم، لكنهم تلاقوا عند نقطة واحدة، هي التعجب من رجل مثلي يحاول بقلمه ما أحاوله؟ ولو أوجزت ما قالوه في عبارة من عندي، لقلت إنهم مشفقون على هذا الكاتب الذي يتوهم أن كلماته ستذهب إلى أبعد من الورقة التي خط عليها تلك الكلمات! لكن لماذا؟ هكذا سألت نفسي غاضبًا، ألأن كلماتي أضعف من أن تجاوز سن القلم؟ أم لأن آذان من سيتلقونها بها صمم؟ أما إذا كانت الأولى فكيف إذن بلغت كلماتي أصحاب تلك الرسائل ذاتها؟ وأما إذا كانت الثانية فبماذا تعلل أنهم نهضوا من فراشهم، وجلسوا إلى مكاتبهم، ونشروا أوراقهم، وحملوا أقلامهم، ثم كتبوا إليَّ ما كتبوه، وأخرج كل من جيبه بضعة قروش ليشتري بها طابع البريد الذي أرسل به الخطاب؟
وأعود إلى الرسائل الخمس مرة أخرى، وأعيد قراءة بعض سطورها فأجد أن أصحابها كأنما أرادوا أن ينفوا التهمة عني وعن أنفسهم جميعًا، فلا الضعف في كلماتي، ولا الصمم في آذانهم، إنما العلة في «مصر»، وكأن مصر هذه لا هي هم، ولا هي أنا، بل هي شيء كالمسرح تدور عليه أحداث الرواية ونحن المتفرجون، والذي يلفت النظر في تلك الرسائل هو أن ثلاثًا منها قد لجأت إلى بيتَي الشعر القائلين:
وكل الفرق بين تلك الرسائل الثلاث في ذلك وهو أن اثنتين منها اكتفتا بذكر البيت الأول، وأما الثالثة فذكرتهما معًا.
تركت الرسائل أمام مبعثرة وأرسلت بصري — أو ما بقي منه — خلال زجاج غرفتي حيث النيل ينساب في هدوء وشموخ وكبرياء، أتدري ماذا كانت أول صورة مرت بخاطري؟ إنها صورتنا ونحن أطفال نلهو بعدسة زجاجية، نسلِّط عليها أشعة الشمس، فإذا ما تجمعت تلك الأشعة في بؤرة واحدة، أحرقت السطح الذي تجمعت عليه، إذا كان قابلًا للاحتراق كقطعة الورق مثلًا؛ ولقد حدث لي ذات يوم أن لهوت بالعدسة مثل ذلك اللهو، مسلِّطًا أشعة الشمس على يدي فلسعتها النار، ومثل تلك اللسعة أحسستها الآن، وكأن الرسائل الخمس حين اجتمعت في لحظة واحدة، تجمَّع منها لهب كلهيب النار، ومن تلك الصورة الأولى استدعيت صورة تالية، هي صورة ذلك المكان من قريتنا، الذي شهدنا أطفالًا نلهو بالعدسة الزجاجية، حتى نحرق قصاصات الورق، وقد نشوي جلودنا معها. وأخذت الخواطر تغترف من ذكريات القرية ما تغترف، فلعل تلك القرية التي ولدت فيها، وقضيت بها بضعة الأعوام الأولى من حياتي، ثم إجازات الصيف كلما حانت، أقول لعلها كانت هي المخبار المركز الذي شهدت فيه نماذج التفاعل بين الناس، وما أكثر ما شهدته في ذلك المخبار، شهدت المحبة والعداوة، شهدت اللين والشدة، شهدت الرحمة والقسوة، فإلى جانب صورة الولد يحتضن أباه ليلوذ به من دواعي الذعر، رأيت صورة الولد الذي قتل أباه وهو نائم، انتقامًا لنفسه من ظلم وقع عليه في قسمة الأرض بين إخوة منهم أشقاء ومنهم غير أشقاء، وإلى جانب الفتاة تطيع والديها في غير تذمر، رأيت الفتاة تعصي والديها اللذين أرادا إرغامها على زواج لا تريده، إلى الحد الذي ألقت معه بنفسها من سطح الدار لتسقط وقد فارقت الحياة أو فارقتها، وإلى جانب الجماعات التي رأيتها تلتقي لتصلح بين خصمين أو بين زوجين أو بين أسرتين، سمعت كذلك بجماعات جعلت مسلاتها تدبير المكائد. وهكذا كان مخبار القرية أقوى الينابيع التي استقيت منها خبرتي بالناس؛ وربما لو كنت سئلت وأنا بعد في سن المراهقة، أو بعدها بقليل: هل يمكن لهذه القرية بكل تناقضاتها أن تأتي عليها لحظة معينة فإذا بها حقًّا قرية موحدة تضم أسرة واحدة وأهدافها واحدة؟ لأجبت بأن ذلك بعيد الاحتمال، لكن استمع إليَّ في كلمة صدق أرويها.
إن قريتي تلك، التي ولدت بين أرضها وسمائها، وخبرت فيها ما خبرته على قصر الفترات التي عشتها فيها هي ميت الخولي عبد الله، وهي من قرى دمياط. ولقد لبثت من قرى الدقهلية حتى بلغت أنا من العمر خمسين عامًا أو نحو ذلك، ثم اقتُطِع من الدقهلية جزؤها الشمالي ليكون محافظة دمياط، وبهذا انتقلنا نحن من صدر حنون إلى صدر حنون؛ وقد تذكر قريتنا في كتب التاريخ أحيانًا باسم منية عبد الله، وحدث لي وأنا في العشرين تمامًا أن رغبت في القيام ببحث علمي أرصد به تلك الثورات الكثيرة المتناثرة في أنحاء مصر، ضد الوجود الفرنسي بمصر أيام حملة نابليون، ولجأت إلى أستاذنا المغفور له شفيق غبريال ليهديني إلى المراجع التفصيلية في ذلك، فبينما أنا أقرأ وأسجل، وإذا بعيني — وا فرحتاه — تقع على ثورة في الشمال الغربي من دلتا النيل، يقودها ويشعل نارها ويستبسل فيها أهل قرية تسمى ميت الخولي عبد الله!
فهل تصدقني إذا أنبأتك كيف طفرت من عيني دمعة؟ أين إذن ذهبت ضروب التنازع بين أهلها، التي لا بد أن قد كان منها يومئذٍ مثل ما هو فيها الآن؟ كيف اندمجت الجماعة في صوت واحد، وهدف واحد، وجهاد واحد، وروح واحدة؟ فيا أصحاب الرسائل الخمس، تلك هي مصر وهي في قريتها الواحدة كشأنها في واديها بأسره من شماله إلى جنوبه.
تلك واحدة وأخرى حدثت في الأعوام الأولى من الستينيات بفاصل زمني بين اللحظتين بلغ ما يقرب من أربعين عامًا، وكانت الدولة وقتئذٍ تحتفل بانتصارات مصر التاريخية، كلٍّ في مناسبته، وبين تلك الانتصارات كان انتصارنا على الحملة الصليبية السابعة، التي جاءت إلى مصر من جهة دمياط، وعندما أخذت الهيئات المختلفة ولجانها المتخصصة تعد في أوائل الستينيات — كما ذكرت — للاحتفال بتلك الذكرى، كنت عضوًا في لجنتين من لجان الفنون، إحداهما لجنة المتاحف والأخرى لجنة المقتنيات الفنية، وكان لكل من اللجنتين دور في الإعداد لذكرى انتصارنا ذاك؛ ففضلًا عن اللوحات الفنية التي رسمها الفنانون لتلك المناسبة، أردنا إعادة النظر إلى دار ابن لقمان بالمنصورة، وهو المكان الذي سُجن فيه الملك لويس التاسع بعد القبض عليه، فلما حددنا لأنفسنا يومًا للذهاب إلى المنصورة في سبيلنا إلى غايتنا المنشودة، رأيت لنفسي أن أقضي بضع ساعات أطالع فيها تفصيلات ما وقع في تلك الحادثة التاريخية، وما كدت أقلب صفحة بعد صفحة حتى سبقتني عيني إلى سطر ورد فيه اسم قريتي ميت الخولي عبد الله؛ فقفزت إلى ذلك الموضع لأعلم أنه بينما كان لويس التاسع في طريقه من دمياط إلى حيث لا أذكر، ربما كان قاصدًا إلى المنصورة، وأظنه كان ذاهبًا بسفينة في النيل، أخذته الحمى، مما اضطر معه معاونوه إلى نقله إلى أقرب قرية ليستقر بها حتى يشفى، وكانت ميت الخولي عبد الله هي تلك القرية، وإلى هنا فلا فضل في ذلك للقرية وأهلها، لكن فضلها وفضلهم يبدأ من هنا، وذلك أن الملك المريض قد شملته الرعاية الإنسانية إلى آخر مداها، في المنزل الذي اختير له لينزل فيه، ولكن أهل القرية بينما كانوا يضطلعون بذلك الواجب الإنساني الذي لا تفرقة فيه بين عدو وصديق، لم يفتهم أن المريض هو نفسه قائد الحملة الصليبية التي جاءت غازية لبلادهم، وأنه إذا ما بلغ حد الشفاء من مرضه، عاد فاستأنف غزوته، فدبروا وتدبروا في روية وذكاء وعلى مهل، ماذا هم صانعون بذلك «الصيد» السمين؟ ولقد أحكموا خطتهم حتى إذا ما جاءت اللحظة المرتقبة، وجد الملك لويس التاسع، نفسه — برغم جنوده وأعوانه — أسيرًا في أيدي المقاومة المصرية، وسيق إلى المنصورة حيث أُودع دار ابن لقمان سجينًا، إلى أن يقضى في أمره. قرأت ذلك فيما قرأته يومئذٍ، وأنا أتأهب للذهاب مع الزملاء إلى المنصورة، وأرجو أن يلتمس لي القارئ عذرًا، إذا وجد هفوات في تفصيلات الرواية التي رويتها، فالذاكرة قد لا تسعف باليقين، لكن جوهر الرواية هو ما أردته هنا، وهو فرحتي بقريتي فرحة دمعت لها عيني هذه المرة أيضًا، حين تمثلتها في تلك اللحظة التاريخية تدبر فتُحكِم التدبير وكأنها رجل واحد، وقلب واحد، وضمير واحد، وهدف واحد، وليس أمامها من هدف إلا مصر وعزة مصر.
لم تكن قريتي في وقفتها عندما أسرت لويس التاسع سنة ١٢٥٠م، وحينما تزعمت ثورة على حملة نابليون بعد سنوات قليلة من وصولها، وكان وصولها في ١٧٨٩م، إلى قرية من أربعة آلاف قرية، تتشابه كلها في جوهرها الأصيل، وإن اختلفت فيما بينها بعد ذلك في مصادر الرزق أو في مظاهر السلوك، وذلك الجوهر الأصيل هو «مصر». ليكن بيننا من نوازع العيش ما يكون، لكن انظر إلينا في لحظات الحرج، التي هي اللحظات التي عندها تتبدى الأمة على حقيقتها أمة واحدة، لا اختلاف فيها بين إنسان وإنسان، انظر إلينا أيام الثورة العرابية، وانظر إلينا أيام ثورة سعد زغلول، وانظر إلينا أيام ثورة ١٩٥٢م، وانظر إلينا أيام حرب ١٩٧٣م، نعم، نعم، وانظر إلينا عند هزيمة ١٩٦٧م، أما عن الثورة العرابية فقد سألت جدتي لأبي ذات يوم مازحًا: كيف تعرفين عمر ولدك الأكبر؟ قالت أعرف ذلك من أني كنت عندما أهدهده وهو في عامه الأول، كنت أتغنى بقولي: «اللهم انصرك يا عرابي.» ومن هذه الإجابة الساذجة تظهر لنا حقيقة كبرى، وهي أن موجة وجدانية واحدة شملت الشعب بأسره، حتى بلغت أمًّا ريفية وهي تغني لرضيعها، وتلك هي وحدة الشعب، في لحظة الحرج، وأما عن ثورة ١٩١٩م، فحسبنا تلك الإجابات الساذجة أيضًا، التي كان الساخرون بنا والناقمون علينا، يتندرون بها، وهي الإجابات التي يرد بها الفلاح البسيط أينما كان، عندما يوجهون إليه السؤال أيام الانتخابات للبرلمان: تنتخب من؟ فيجيب أنتخب سعد زغلول؛ فمهما كان لتلك السذاجة من دلالات أخرى، فلها أيضًا هذه الدلالة الصارخة، وهي أن موجة وجدانية واحدة تلف الأمة كلها ساعة الحرج؛ وأما عن ثورة ١٩٥٢م عند الإعلان عنها، ثم عن هزيمة ١٩٦٧م وبعدئذٍ عن حرب ١٩٧٣م، فلست أطالبك أيها القارئ إلا بأن تلقي السؤال على نفسك أنت من باطن، لتسمع منها الجواب.
نتلقى أنباء القتال بلاغًا بلاغًا عندئذٍ ستجيبك النفس بجواب هو هو الجواب الذي تجيب به كل نفس مصرية على صاحبها إذا ما وجَّه إليها السؤال؛ وتلك هي مصر في وحدتها، في جوهرها، في قدرتها الفائقة على نسيان كل شيء عند الساعات الفواصل، إلا شيئًا واحدًا هو «مصر»، فيا أصحاب الرسائل الخمس، الذي حسبوني أنفخ في رماد، إنه هو ذلك الجوهر المصري النفيس الكامن في صدورنا جميعًا الذي نتوجه إليه بالخطاب كلما أردنا استنهاض الهمم.
وأنتقل الآن من تلك الرسائل الخمس، التي عزفت كلها على وتر واحد، هو الوتر اليائس، ذلك اليأس الذي تظلم الدنيا في وجهه، فلا يرى نارًا ونورًا، بل كل ما يراه هو الرماد، أنتقل إلى رسالة سادسة أرسلها مهندس كان في رسالته بارع التصوير، لكنها براعة إن أنصفته أديبًا يحسن التصوير، فهي لا تشفع له مهندسًا يقيم العمران، فقد قدم في رسالته صورتين، يصور في إحداهما حالة اللامبالاة اليائسة التي شملت الناس، فيقول ما معناه: إن مجتمعنا قد بات شبيهًا بجماعة من الناس جلسوا على مقهًى كل منهم مشغول بمشغلته؛ واحد يشرب قدح الشاي، وآخر يأكل الساندوتش، وثالث يتصفح جريدة اليوم؛ ثم يحدث أن يكون في المقهى زبون آخر، بلغ به الضيق بمشكلات حياته أن جاء ومعه مسدس وأخرجه وصوَّبه نحو دماغه لينتحر، لكن أحدًا من الجالسين لم يأبه له، فجن جنونه من هذا الإهمال لشأنه فوجَّه مسدسه نحو الآخرين ليفتك بهم بعد أن كانت نيته بادئ الأمر أن يزهق روح نفسه. تلك صورة، وأخرى يصوِّر بها سكان البيوت المتداعية في القاهرة وهي تُعَدُّ بعشرات الألوف كيف يمسكون قلوبهم بأيديهم كلما سار قطار، أو اهتز الهواء بأي عامل آخر خشية أن تنقض منازلهم فوق رءوسهم، ثم يضيف السيد المهندس إلى صورته تلك رومانسية؛ إذ يضيف يأس المحبين من أن يجدوا شققًا تحميهم؛ ليقيموا فيها حياة زوجية هانئة سعيدة.
وعن الصورة الأولى، صورة المقهى وزبائنه وحامل المسدس، أقول للسيد المهندس: ما الذي أثار الغيظ في صاحب المسدس الراغب في الانتحار حين رأى بقية الجالسين يستمتعون، كل منهم بما يمتعه، أحدهم يرشف من كوب الشاي ما يرشفه، وآخر يطعم بما يأكله، وثالث يقرأ الصحيفة … ماذا في هذه المجموعة الهانئة مما يثير الغيظ لأنهم لم يتحركوا لإسعافه عند تصويبه لمسدسه نحو دماغه … وهل صوَّب لينتحر أو صوَّبه لينقذه الآخرون؟ كنت أفهمك لو أنك جعلت سائر المجموعة الجالسة رجالًا ضاقت نفوسهم هم الآخرون وطفقوا يشكو بعضهم إلى بعض سوء الحال. لكن العكس هنا هو الصحيح، وهو أن الجالسين على المقهى كانوا آكلين شاربين قارئين هانئين، ومعذرة يا أخي لو قلت لك إن تصويرك هذا هو في حد ذاته دليل على ظلم الشاكي من حالة مصر الحاضرة أكثر منه دليلًا على وجاهة الشكوى، وللأسف هذا هو ما أراه وأسمعه في كثير جدًّا من معارض الشكوى في مثل هذا المجال. وأما عن الصورة الثانية التي قدمتها عن البيوت المتداعية وأزمة الإسكان فأنا الذي أسألك وأنت مهندس: ما هو الحل الذي تراه يا أخي؟ إن الظلام دامس، وهذا صحيح، ولكن لو وقف الناس جميعًا يلعنون الظلام ولا يفعلون شيئًا، فواجب المهندس لكونه مهندسًا، أن ينصرف بجهده بحثًا عن مصباح يزيح به ذلك الظلام.
حياتنا مليئة بالمشكلات، لكنها مشكلات لا تندرج كلها في صنف واحد، فمنها مشكلات ممكنة الحل لولا أننا مقصرون في الإرادة أو في الجهد أو في حسن التدبير، وفي هذه الحالة إذا زعق فينا زاعق منا حاثًّا على جمع العزيمة وبذل الجهد وإحكام التدبير، فلا ينبغي أن يقال له: خلِّ عنك، فأنت تنفخ في رماد، ومنها مشكلات عسيرة الحل، وتتطلب صبرًا مقرونًا بالعمل الدائب على تذليل الصعاب، وفي هذه الحالة لا يجوز إثارة القلق والفزع؛ لأن ذلك لا يحل من الإشكال شيئًا، وأما الضرب الثالث من المشكلات فهو ذلك الذي يطلب المستحيل، وهنا يكون العيب عيب الشاكي لا عيب المشكلة في ذاتها، وإنه ليبدو لي أن أصحاب الرسائل الخمس البائسة يقعون في الضرب الأول، وأما المهندس فهو بمشكلة الإسكان يقع في الضرب الثاني، وبمشكلة المجنون حامل المسدس يقع في الضرب الثالث، ولكن هؤلاء جميعًا يا مصر: من يئس منهم ومن شكا، من صرخ منهم ومن صمت، من تندر منهم ومن سخر، هؤلاء جميعًا يا مصر هم بنوك وهم مخلصون، فإذا جد جد وناديت سترينهم يفعلون ما فعلته قرية عرفتها وانتميت إليها، حين أسرت ملكًا فخمًا ضخمًا جاء بحملته ليغزو أرضها، وحين أشعلت ثورة على قائد أفخم وأضخم جاء هو الآخر بحملته وفي حسابه أن يستهين بحرماتها، فَقَرِّي يا مصر عينًا بأبنائك؛ من رضي منهم ومن سخط، ومن رفع الصوت منهم ومن صمت، فهم جميعًا بنوك وهم مخلصون.