نماء وانتماء
العلاقة اللفظية بين «نمى» و«انتمى» — حتى وإن لم تكن اللفظتان من أصل لغوي واحد — تغريني بأن أقيم رباطًا سببيًّا وثيقًا بين شعور الكائن الحي بالانتماء لبيئة معينة من جهة والعوامل التي ساعدته على النمو — من جهة أخرى — وبعبارة أخرى: أقول إن الكائن الحي إنما ينتمي — بمحض فطرته — إلى حيث يجد الظروف مواتية لنمائه؛ وإذا كان الأمر كذلك فليس انتماء المصري إلى مصر — مثلًا — بحاجة منَّا إلى «وعظ» (كما نفعل الآن) بقدر ما هو بحاجة إلى أن نوفر للمصري عوامل النمو والازدهار في بلده، فينتمي هو بعد ذلك مدفوعًا بفطرته.
ذلك أن انتماء الكائن الحي إلى بيئته أمر فرضته الحياة نفسها، ولا فضل لنا فيه؛ فلقد استطاع علماء البيئة أن يضبطوا الرابطة بين أنواع الكائنات الحية وبيئاتها ربطًا تمكنوا به من أن يستدلوا أحد هذين الطرفين من الطرف الآخر، بمعنى أننا لو عرفنا تفصيلات البيئة كان في وسعنا أن نستدل منها تفصيلات الكائن الحي الذي يعيش فيها، وكذلك لو عرفنا تفصيلات الكائن الحي المعين كان في وسعنا أن نستدل منها في أية بيئة يحيا.
وإذا كان ذلك كذلك بالنسبة إلى صنوف الأحياء على اختلافها فهو يصدق أيضًا على الإنسان، لولا أن هذا الإنسان يضيف إلى تلك الرابطة الطبيعية بين البيئة وكائناتها الحية — نباتًا وحيوانًا وإنسانًا — عوامل تزيدها قوةً ورسوخًا؛ إذ هو يضيف إلى الألفة الفطرية حبًّا واعيًا يدفعه إلى خدمة وطنه ورعاية ذلك الوطن والقتال من أجل حمايته والسعي إلى تقدمه ما استطاع إلى ذلك من سبيل. فالإنسان وحده — دون سائر الكائنات الحية في علاقاتها ببيئاتها — هو القادر على «التضحية»، وهو على وعي بتلك التضحية من أجل وطنه الذي نشأ فيه، أي إنه هو وحده القادر على أن يجعل الأولوية للوطن على المواطن لإدراكه أن أبناء الوطن يولدون ويموتون، يجيئون ويذهبون، وأما دوام الوجود فهو للوطن الذي إليه ينتمي هؤلاء الأبناء.
على أن هذا الانتماء إلى رقعة بعينها من الأرض، إذا كان أمره موكولًا في جزء كبير منه إلى الفطرة، التي قد لا تفرِّق في هذا الصدد بين إنسان وحيوان ونبات، فهنالك ضرب من الانتماء ينفرد به الإنسان، وأعني به الانتماء الثقافي الذي يدخل به الفرد في مجموعة متكاملة من الأفكار والقيم والأعراف والتقاليد، يحيا بها وتحيا به، فهل تظل — على مدى أعوامه — تسري في حناياه، حتى تتحول عنده إلى وجود غير محسوس، كأنه الهواء يتنفسه وهو لا يراه، ومِن تلك المجموعة التي يسري كيانها في كيانه، يصبح الفرد منتميًا إلى حيث ينمو، كأن يصبح المصري مصريًّا، ثم تتسع دوائر انتمائه، كلما اتسع نطاق تلك المجموعة من الأفكار والقيم والأعراف والتقاليد، ومن هنا يكون المصري في وقت واحد مصريًّا عربيًّا إسلاميًّا أفريقيًّا إنسانيًّا، على أن ما أريد له أن يكون واضحًا هو أن الإنسان حين ينتمي إلى ثقافة بعينها، بما يصاحبها من قيم وأفكار، فهو إنما ينتمي إلى ما يزيده نماءً وازدهارًا، مؤكدًا العلاقة القوية بين تنمية الإنسان وانتمائه، فهو ينتمي إلى حيث ينمو.
وعند هذا الموضع من سياق الحديث، أذكر سؤالًا ورد إليَّ من قارئة جامعية، ألقت به على ضوء خبرة كابدتها في التدريس، وكأنها أحست من خبرتها تلك، صعوبة أن يتشكل المتعلم على نحو ما يريد له القائم بتعليمه، فتسأل في ختام رسالتها: من هو «المعلم» الذي نحن بحاجة إليه، وما دوره في التنمية؟ وإنني لأجيب على هذا السؤال إجابة مجملة أولًا، ثم أنتقل إلى تفصيلها. وأما الإجابة المجملة فهي أننا بحاجة إلى معلم قادر على تنمية تلميذه — أي على تربيته — بحيث يؤهله لأن ينتمي إلى الدوائر المتدرجة التي نريد لأنفسنا أن ننتمي إليها وهي دوائر — على تعددها وتدرجها — لا بد لها أن تتبلور في قطبين، أولهما هويته القومية، وثانيهما هو العصر الذي يعيش فيه، وأنتقل بعد هذا الإجمال إلى تفصيل.
لقد أسفلت القول بأن الإنسان «ينتمي» إلى حيث «ينمو» وفي هذا الضوء يتحول السؤال المطروح علينا ليصبح سؤالًا كهذا: كيف نوفر ظروف النماء للمواطن لكي ينتمي؟ وكأني بالسؤال وهو في هذه الصورة يرسم لنا طريق الإجابة؛ إذ ما علينا إلا أن ننظر في عالمنا المحيط بنا، لنرى كيف تقدم مَن تقدم، وكيف تخلف من تخلف، فإذا ما وقعت على العناصر التي تكفل لصاحبها صعودًا على السلم الحضاري كان لنا في تلك العناصر نفسها ما يحقق لنا هدفين في وقت واحد، هما: التنمية والعصرية معًا، فيبقى علينا بعد ذلك أن ننظر في الطريقة التي يتشرب بها أبناؤنا وبناتنا تلك العناصر دون أن تصاب هويتنا القومية بالمسخ والتشويه.
فما الذي يميز — في عصرنا هذا — بلدًا نما وارتقى وأسهم في إقامة الصرح الحضاري، الذي هو نفسه «العصر»، بحيث إذا غابت تلك الخصائص المميزة عن بلد آخر، عُدَّ متخلفًا أو — على أحسن الفروض — عُدَّ واحدًا مما يسمونها بالبلدان «النامية»، التي هي لا تزال في طريقها تسعى نحو أن تنمو وترتقي وتسهم في البنيان الحضاري بنصيب. هنالك جوانب تميز البلد الأرقى، ليست موضعًا لاختلاف الرأي، من أهمها أن البلد الذي حقق النمو، هو ذو «علم» وما يلحق العلم من تقنيات (تكنولوجيا)، وإن درجة العلم وتقنياته لتزيد مع كل بلد دقة وتقدمًا، أو تنقص، بحسب درجات «النمو» المتفاوتة، وبهذا المقياس يكون البلد المتخلف، أو الذي هو لا يزال في طريقه يسعى لينمو حتى يبلغ حدًّا يؤهله للدخول في عصره أخذًا وعطاءً، أقول إن أهم علامة تُميِّز بلدًا كهذا، هي فقره، فيما يقدمه من «إبداعه» إلى دنيا العلم والتقنيات، وأكرر «من إبداعه»؛ وذلك لأنه قد يكون في البلد المتخلف أو «النامي» علم وعلماء لكنه — في هذه الحالة — علم منقول وعلماؤه حفظة لما ينقلونه عن المبدعين؛ وكذلك قد تجد في مثل ذلك البلد المتخلف أو النامي عددًا من أبنائه مهروا في استخدام التقنيات العصرية، لكن تلك التقنيات هي من إبداع الآخرين، بل ويحدث في حالات كثيرة، أن تكون تلك القدرة على تشغيل التقنيات، قد جاءت نتيجة للتدريب الذي تولَّاه أولئك الآخرون.
وكذلك لا اختلاف في الرأي على فارق آخر يميز بلدًا نما، عن بلد في طريقه إلى بلوغ تلك الدرجة من النمو، وهو حالة «التعليم» كمًّا وكيفًا، ففي البلاد التي نمت بالفعل لا وجود للأمية في أبنائها، وأما الأخرى التي هي في طريقها تسعى، ترى الأمية جاثمة على عقول أبنائها بدرجات متفاوتة، تزيد هنا وتقل هناك، ذلك من حيث الكم، وأما من حيث الكيف، فيمكن إيجاز الفرق بين النوعين، بقولنا إن التعلم عند الأولين ينتهي بالمتعلمين إلى قدرة على الابتكار، وأما في النوع الثاني فيكاد يقف بالمتعلمين عند مجرد الحفظ الأصم والمحاكاة.
وفارق ثالث بين المجموعتين، وهو فارق ربما يكون ناتجًا عن صفة الابتكار التي ذكرناها، هو أن بلاد النوع الأول، أسرع خطًى في حركة التغير من بلاد النوع الثاني، فأبناء المجتمعات الأولى لا يترددون كثيرًا في تغيير ما يرونه في حياتهم معوقًا للسير نحو الهدف المقصود، في حين أن أبناء مجتمعات الصنف الثاني يوشكون أن يجعلوا لتلك المعوقات أولوية على تحقيق الأهداف، وقد يبدو هذا القول منطويًا على مفارقة تشكك في صوابه، لكنه مع ذلك قول صحيح، وتظهر لنا صحته إذا ذكرنا أن تلك المعوقات، في كثير جدًّا من الحالات، هي نفسها الرواسب التي بقيت من ماضٍ ذهب زمانه ولكن تلكأ منه في نفوس الناس شيء من قداسة وأريج، فإذا رأيت الناس يعارضون في تغييره، فاعلم أنهم لا يصنعون ذلك من حيث هو حائل يحول دون التقدم، بل يصفونه من حيث هو ماضٍ له في نفوسهم سحر وتمجيد.
وهذا نفسه ينقلنا إلى فارق رابع، بين مَن تقدم مِن الشعوب ومَن جمد، وأعني به نظرة كل منهما إلى تمجيد الماضي كيف يكون. أما الأولون فيرون أن ذلك التمجيد إنما يكون بالسير على منهج الأسلاف، في أن يغيروا ويتغيروا ليسيروا من حاضر استنفد أغراضه إلى مستقبل جديد، وأما الآخرون فيرون التمجيد في أن يبقى الماضي على حاله، ليكون الحاضر في نسخة ثانية من ذلك الماضي، ثم ليجيء المستقبل نسخة ثالثة، وهلم جرًّا، وبعبارة أخرى أقول: إن «الزمان» عند الصنف الأول من الجماعات لا بد أن يكون له معناه، ومعناه هو أن يجيء اللاحق مختلفًا عن السابق، وأما جماعات الصنف الثاني، فالأغلب فيهم أن يسقطوا من حسابهم الزمان وفعله، فليس لديهم ما يمنع أن يظل كل شيء على صورته التي كان عليها إلى أبد الآبدين.
وهذا الفرق بين الجماعتين، هو نفسه الفرق الذي نشأ حين تنبهت جماعات الصنف الأول إلى فكرة «التقدم»، ولم تتنبه إليها جماعات الصنف الثاني، اللهم إلا أن تردد كلمة «تقدم» وكأنها تردد لفظًا أُفرغ من معناه، وما معناه إلا أن يكون الحاضر — حتمًا — أفضل من الماضي، وأن يكون المستقبل — حتمًا كذلك — أفضل من الحاضر. ولعله مما يثير دهشة من تفوته دقة المعاني أن يقال له إن فكرة «التقدم» هذه حديثة حداثة أوروبا في صورتها الجديدة، بعد النهضة، وأما قبل ذلك، فقد كان معيار الكمال عند الأوروبيين، كمعيار جماعات الصنف الثاني اليوم، وهو أن يبحث عن الكمال فيما «كان» لا فيما سوف يكون.
ثم نضيف فارقًا خامسًا إلى الفوارق التي ذكرناها بين النوعين من الجماعات، وهو هذه المرة فارق خاص بالفرد وموقفه من المجتمع الذي هو عضو فيه، وإنه لفارق تترتب عليه نتائج كثيرة بعيدة المدى في أثرها على صورة الحياة، ومن أهم تلك النتائج صورة الحكم، والعلاقة التي تصل الحاكم بالمحكوم، فبينما الرأي المأخوذ به في تسيير الحياة عند الصنف الأول من الجماعات هو — في الأعم الأغلب — حاصل جمع الآراء التي بيديها أفراد الشعب، ويتمثل ذلك الحاصل في عملية التصويت عند اتخاذ القرار، أو عند انتخاب من ينوبون عن الشعب في المجالس النيابية، يكون الرأي المأخوذ به في تسيير الحياة عند الصنف الثاني هو — في حقيقة الأمر — لرجل واحد، أو لعدد قليل من أصحاب النفوذ.
وبعد أن عرضنا طائفة من أوجه الاختلاف بين النوعين من الجماعات بين تلك التي تمت لها التنمية بالفعل (والأمر هنا نسبي) من جهة، وتلك التي لا تزال في طريقها تسعى، من جهة أخرى، فإن سؤالًا يطرح نفسه علينا هو: أهي ضروب من الاختلاف، مستقل أحدها عن بقيتها، أم هي ضروب من الاختلاف، لو تعمقناها لوجدناها تلتقي كلها عند جذر مشترك، أنبتها جميعًا كما تنبت فروع الشجرة من جذورها؟ والجواب عندي هو الترجيح بأن يكون البديل الثاني هو الأقرب إلى الصواب. وإذا كان الأمر كذلك، فإن سبيل الإسراع لعمليات التنمية في البلاد التي لم تقطع من طريق التنمية إلا شوطًا قصيرًا يكون أيسر منالًا؛ إذ ما علينا في هذه الحالة إلا أن نبدل من شجرة الاختلافات الثقافية جذرها، فتتبدل على مر الأيام فروعها. والأرجح عندي أن يكون ذلك الجذر الذي منه انبثقت ضروب الاختلاف بين بلاد تقدمت وأخرى تخلَّفت، إنما هو منهج النظر، سواء أكان ذلك في مجال التفكير العلمي، أم كان ذلك في مجال الحياة على نطاقها الواسع والتبديل المطلوب إجراؤه في ذلك المنهج، ليلحق البلد المتخلف بالبلد المتقدم، هو أن تستمد المعرفة من قراءة الطبيعة قراءة مباشرة، بدل أن نقرأ ما كتبه السلف، فإذا وجدنا أنفسنا أمام مشكلة اجتماعية أو اقتصادية أو كائنًا ما كان نوعها، فالمنهج الصحيح هو أن نقابل تلك المشكلة في واقعها الحي لننظر في طريقة حلها حتى إذا ما وصلنا إلى الحل، وسئلنا كيف عرفتم أن ذلك هو الحل الصحيح أشرنا إلى الواقع الفعلي الذي استندنا إليه، بدل أن نأخذ حلولنا من كتابات تركها لنا الآباء، وأن نشير إلى تلك الكتابات كلما أردنا إقامة الدليل على صحة ما نقدمه من حلول للمشكلات.
إلى هنا كان اهتمامنا فيما أسلفناه موجَّهًا نحو تحليل الخصائص الأساسية التي لا بد من زرعها في عقولنا ونفوسنا، لكي يتاح لنا أن ننمو نموًّا ينبع من الباطن، ولا يقتصر على كونه محاكاة آلية من الظاهر، وبقي علينا أن نسأل: وماذا عسانا أن نصنع لنتحول من الداخل، تحولًا نستبدل به اتجاهًا باتجاه، ومزاجًا بمزاج، ومنهجًا بمنهج؟ والجواب على ذلك هو ضرورة أن يتغير كثير جدًّا من المضمون الثقافي والفكري الذي نحياه، وأن تكون وسيلتنا إلى ذلك التغيير التعليم من ناحية والإعلام من ناحية أخرى.
ولا يكفي في هذا الصدد أن يقال لمعاهد التعليم ولوسائل الإعلام عليكما بالثقافة والفكر الشائعين في حياتنا، فغيرا منهما لتجعلاهما وسيلتين للتنمية، ثم لتجعلاهما — بالتالي — وسيلتين للانتماء؛ لأن الإنسان — كما أسلفنا — إنما ينتمي إلى حيث يجد النماء، بل لا بد لنا أولًا، أن نكون على بينة واضحة، ما الذي نعنيه بالثقافة وبالفكر، حين نطالب لهما بوجوب أن يتغير منهما شيء كثير، عن طريق التعليم، ووسائل الإعلام؛ وذلك لأن «الثقافة» و«الفكر» لفظتان من تلك الألفاظ، التي يستبيح كل إنسان لنفسه أن يخلع عليهما ما شاء له من معنًى، فيحق لنا بدورنا أن نتناولهما بالتحديد والتوضيح، لتظهر لنا من تلقاء نفسها تلك العلاقة الوثيقة القائمة بين الثقافة والفكر من ناحية والتنمية بكل جوانبها، من ناحية أخرى، وإذا قلنا عن بلد إنه ينمو ويزدهر، فقد قلنا كذلك إن ثمت إمعانًا من أبناء ذلك البلد في حب الانتماء إليه.
ولنبدأ ﺑ «الثقافة» نحدد معناها في أوجز عبارة ممكنة، لنعقب عليها ﺑ «الفكر» نحدد له معناه، فنقول: إن الإنسان يتحرك في حياته العملية والنظرية معًا، على درجتين تتواليان صعودًا، ويتوازى معهما طريق يأتي منه التوجيه الذي يهتدي به صاعد الدرجتين، وأما هاتان الدرجتان، فالسفلى منهما هي التي يحدث عندها تجميع المعلومات المتفرقة عن المجال الذي يقضي فيه الفرد المعين شئون حياته، وأما الدرجة العليا فهي التي يحاول عندها الإنسان أن يستخرج من تلك المعلومات المتفرقة تعميمات وتبلغ هذه التعميمات ذروتها على أيدي رجال العلوم عندما يستخرجون قوانين العلم التي على منوالها تحدث الأحداث.
لكن الإنسان بعد أن تجتمع لديه أكداس من المعلومات المتفرقة عن دنياه، ثم يجتمع لديه كذلك عدد كبير من قوانين العلم في المجالات المختلفة، تواجهه مشكلة الاختيار بين ما قد تجمَّع لديه من ذلك كله، فماذا يفعله وماذا يكف عن فعله، فهو — مثلًا — قد عرف فيما عرف، كيف يفجر البارود، وكيف يستخرج الطاقة من الذرة لكنه بحاجة إلى مقاييس تبين له متى يجوز تفجير البارود، أو تفجير قنبلة ذرية، ومتى لا يجوز، فأين له بتلك المقاييس؟ ها هنا يأتي دور الطريق الذي يوازي الدرجتين المتصاعدتين، ففي ذلك الطريق يوجد ما نسميه بالقيم، وهي التي تحدد للإنسان ما يجوز له فعله بالمعلومات التي جمعها، وها هنا يكون ذلك الشيء الذي نطلق عليه اسم «الثقافة».
على أن للثقافة جانبًا ثانيًا غير مجموعة القيم الهادية للإنسان في اختياره لما يفعله، وأعني به جانب «الفكر»، الذي يقصد به طائفة من أفكار ذات طراز فريد، إذ هي أفكار لا تندرج تحت أي علم من العلوم، ثم هي في الوقت نفسه ليست من نوع «القيم» التي نستمدها من مصادرها الثلاثة الرئيسية، التي هي: الدين، والفن، والأدب، فهي أفكار من قبيل: الحرية، والعدالة، والمساواة، والديمقراطية، الوطنية، التذوق الفني، فهي كما ترى معانٍ لها خطورتها البالغة في حياة الناس، ثم هي في الوقت نفسه مما يتعذر تحديده؛ ولذلك تعددت فيها التأويلات عند مختلف المفكرين.
وإذا ضممنا مجموعة القيم إلى مجموعة الأفكار التي من هذا القبيل الذي ذكرناه، تكوَّنت من حصيلة الجمع بينهما ثقافة الفرد المعين، وفي هذه الحصيلة عند صاحبها، تكمن القوة الدافعة له بأن يفعل شيئًا معينًا ويحجم عن فعل شيء آخر.
وفي ضوء هذه التحليلات، أعود إلى السؤال الذي وجهته القارئة الجامعية تسأل به عن نوع المعلم الذي نحن بحاجة إليه، وماذا يكون دوره في التنمية؟ فأقول إن المعلم الذي يحقق لنا آمالنا هو الذي يستطيع أن ينفذ إلى «الثقافة» الكامنة في أفئدة تلاميذه، والتي هي مستقاة من حياتنا الجارية كما هي واقعة، أن ينفذ إلى تلك الثقافة الكامنة، فيغير منها، في جانبَيها جانب القيم وجانب الأفكار التي لها قوة التوجيه، بحيث يصبح ما يضمره الناشئ في نفسه من تلك القيم والأفكار دافعًا له نحو حياة عصرية في إطار هويته المصرية العربية، فإذا تحقق له ذلك التغيير وجدنا شبابنا يتجه إلى الابتكار والإنتاج وعلمية النظر وديمقراطية العلاقة بينه وبين مواطنيه — وذلك بحكم عصريته — ثم وجدنا ذلك الشباب في الوقت نفسه مشدودًا إلى قوميته، منتميًا إليها بدفعة طبيعية؛ إذ التنمية والانتماء صنوان، فهما بمثابة السبب ونتيجته.
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فنسأل: ومن الذي يغير ما بأنفسنا؟ وكيف؟ ونجيب: الذي يغيره هو التعليم والإعلام، وذلك بما يدخلانه من تعديلات في رؤيتنا الثقافية؛ إذ هي تعديلات تتجه بنا نحو أن ننمو — بأوسع معاني التنمية، كما تتجه بنا — بالتالي — نحو أن ننتمي.