مثقف يحاكم نفسه

لست أومن بالخوارق، اللهم إلا ما يدخل منها في نسج الدين، واسم الخوارق يطلق على ما يخرق قوانين الطبيعة كما رصدها الإنسان في علومه، أي إنني بعد أن أومن، أعمق إيمان يستطيعه بشر، بكل ما قد أوردته مصادر عقيدتي الدينية من تلك الخوارق؛ فإنني لا أتبرع من عندي بخارقة أخرى أضيفها، وأقول ذلك لأنني أعلم بأن التاريخ كله لم يعرف قومًا اكتفوا بما جاءتهم به أصول ديانتهم من معجزات جاوز بها أصحاب الرسالات حدود ما ألفه الناس من ظواهر، فكانوا يضيفون من عندهم أشياء أبدعها لهم محض خيالهم، على وهم منهم بأنه كلما زادت خوارق الطبيعة في عقيدة دينية، ازداد البرهان قوةً على صدق تلك العقيدة، ويفوتهم في هذا الصدد أن اطراد قوانين الطبيعة — لا خرقها — هو معجزة المعجزات، إلا ما شاء الله.

لا، لست أومن بالخوارق يتبرع بها الخيال البشري مما يبدعه هو، ثم يزعم لها صدق اليقين، لكن العقل وأحكامه — في ذلك وفي غير ذلك — شيء، ودفعة الوجدان للإنسان، وهو مضغوط بعوامل المواقف في واقع الحياة شيء آخر، فربما أيقنت مع العلم الحديث بأن أحلام الإنسان لا تنبئ بغيب لم يولد بعد، وإنما تعيد أصداءً مما قد وقع بالفعل في حياة الحالم، لكنني برغم يقيني ذلك؛ قد أجدني أميل بمشاعري — كلما رأيت حلمًا ذا مغزى — نحو أن أقرأه قراءة مستقبلية، ولعلي بذلك لا أريد حرمان نفسي من قدرتها على اختراق حجب الغيب، حتى لا أكون أقل شفافية من أنفس الآخرين.

ومن هذا القبيل ما حدث لي ليلة أمس، فقد جاءني في الحلم طيف صديق عزيز، توفي منذ بضع سنوات، والحق أنه كان بيني وبينه تلك الرابطة التي يصفو معها إخلاص الأصدقاء، والفرق بين صداقة وصداقة في ذلك الصفاء، هو أبعد مما بين القطبين، جاءني طيف ذلك الصديق الذي عرفت في صداقته كيف يكون الصديق، فرأيته مكفهر الوجه، غاضبًا عاتبًا، وبادرني بسؤاله في نبرة حادة، قلما عهدتها فيه أيام أن كان، قال: أين ذهبت بأوراقي التي تركتها عندك وديعة؟ فسألته بدوري، والدهشة تملأ نفسي: أي أوراق؟ قال: ألا تذكر تلك الورقات القليلة التي أعطيتك إياها لتتولى عني نشرها في الناس؟ قلت له: صدقني، إنني لا أذكر من كل ذلك شيئًا. قال: ألا تذكر حين زرتك في ساعة متأخرة من الليل، وأيقظتك من نعاسك؛ لأترك معك غلافًا أصفر، طالبًا منك — وأنا في لهفة العجلان — أن تنوب عني في نشره في لحظة مناسبة؟ لقد سألتني: وماذا به؟ فأجبتك بأني أحسست دنو الأجل، فأخذت أحاسب نفسي ماذا قدمت يداي في حياة أشرفت على السبعين، ثم عنَّ لي أن أخط ملامح سريعة مما دارت به خواطري في ذلك، لعلها تنفع الغافلين.

سرحت بالذاكرة في الحلم، وطيف الصديق لم يزل هناك في غضبه وعتابه، ثم قلت: لعل ظلالًا خافتة تعود إليَّ الآن، وإذا كان غلافك الأصفر ما يزال بين أوراقي، فأعترف لك بأني لم أقرأ ما فيه، ونسيته نسيانًا تامًّا. فقال في صوت مرتفع: انهض الآن وابحث عنه. حاولت التخلص، لكنه عاد إلى صياحه، وأخذ يهزني هزًّا شديدًا: قم الآن، الآن، وابحث عن الغلاف واقرأ ما فيه، وانشره إذا توسمت فيه ما ينفع الناس. وبهذا القول ذهب عني خدر النعاس، واستيقظ وعيي دفعةً واحدة، وها هنا شعرت وكأنني أمام قوة غيبية لا أملك ردها، ونهضت من فراشي وكان الوقت بعد منتصف الليل بقليل، وليس من عادتي أن أترك فراشي قبل فلق الفجر، مهما تكن الدواعي، أما هذه المرة، فقد أحسست بقوة دافعة، ولم يكن في وسعي إلا أن أستجيب.

انتقلت إلى غرفة مكتبي، ووقفت أنكت رأسي بأصابعي، لعلي أعين الذاكرة على هدايتي إلى مكان الغلاف الأصفر، ولبثت نحو ساعة، أنظر في ورقة هنا، وفي ورقة هناك، أقرأ واحدة وأمزق أخرى، وأتسلل ببصري بين الأضابير بحثًا عن غلاف أصفر، وشاء لي الله أن أفتح ظرفًا كبيرًا منتفخًا بما حوى، لأرى ماذا به، فإذا الغلاف الأصفر يلمع بين الأوراق. أخرجت من الغلاف محتواه، وهو تسع ورقات صغيرة، وبعد أن قرأتها — وهي بغير عنوان — لم أجد أمامي اختيارًا إلا أن أحقق لصديقي بغيته بنشر ما كتبه، وربما كان آخر ما جرى به قلمه قبل أن يدهمه المرض فالموت، وأضفت العنوان من عندي، وهو العنوان الذي تراه على رأس مقالتي هذه: «مثقف يحاكم نفسه»، وهاك ما كتبه، أنقله كما وجدته، وقد لا أتفق معه في كل شيء، وحسبي أن أشاركه في الاتجاه العام، كتب يقول:

لقد سمعتني أخاطب نفسي ذات ليل طويل أعتم، شبيه بموج البحر كليل امرئ القيس، تغمرني منه موجة في أثر موجة، وكأنه موج لم تكن له بداية ولن تكون له نهاية، وكأن ذلك الليل — مرة أخرى كليل امرئ القيس — قد أرخى سدوله عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي، ولئن كنت لا أعرف شيئًا عن هموم امرئ القيس ماذا كانت، فقد كنت أعرف همومي في ليلتي تلك، وما همومي ليلتئذٍ إلا ضمير يتأرق، ويلهبني بعذابات سوطه، جزاءً وفاقًا، على ما فرطت فيه أو أفرطت.

نعم، سمعتني أخاطب نفسي قائلًا: ها قد دنوت من الأجل، فماذا صنعت — يا نفسي — بعمرك الطويل؟ أعطاك الوهاب عقلًا وقلبًا وبيانًا وقلمًا، فماذا فعلت بكل هذه؟ انفتحت عيناك على حياة أكثرها نفاق وكذب، وستتركين الحياة وشيكًا، وهي — كما وجدتها — مليئة بالنفاق والكذب، وعيت — يا نفس — إذ وعيت على حياة خاملة راكدة، وسترحلين والحياة كعهدك بها، خاملة راكدة، فماذا صنعت أنت بعمرك الطويل؟ رأيت — يا نفس — أرباب الفكر والقلم، أول ما رأيتهم، يقيمون الشهرة على حبة من الجد تجاورها حبات من الدجل، وستغمضين العين وأرباب الفكر والقلم كما وجدتهم أول مرة، يقيمون الشهرة على حبة من هناك وحبات من هنا، فماذا صنعت أنت — يا نفس — بعمرك الطويل؟ أعلم أنك تواضعت فتواريت، وكأنك لا تدركين أنك بين قوم لم يذكروا التواضع مادة في دستورهم، فكان أن حسبت الصغار كبارًا. وأنفقت عمرك عابدة لأصنام وسترحلين — يا نفس — صغيرة تعبد الأصنام.

فأجابتني النفس قائلة: وماذا كنت تريدني أن أصنع؟ إنني كلما هممت ببذل الجهد ردتني خيبة الأمل؛ إن بضاعتي — كما تعلم — هي كلمات، وقد أصبحت أشك في أن يكون للكلمة تلك القوة التي زعمها مَن زعم، لقد قالها هاملت حين همس لنفسه مزدريًا: كلمات، كلمات، كلمات؟ وكأنه أراد أن يضيف إلى ذلك قوله: وماذا تجدي الكلمات؟ فما أسهل علينا أن نتكلم، وكذلك ما أسهل على من نتجه إليه بكلامنا أن يضع إصبعين في أذنيه.

فقاطعت نفسي قائلًا لها: لا، لا تلقي بالتهمة على الكلمات وعجزها، وما هي بعاجزة أن تصنع المعجزات، ليست الكلمات مدادًا منثورًا على ورق، بل الكلمات أفكار، وبالأفكار شق الإنسان أجواز السماء حتى جاوز موقع الشمس، الكلمة فكرة والفكرة وعي وإدراك وخلق، في البدء كانت الكلمة، رسالات السماء جاءت إلى الإنسان في كلمات، الكلمات هي التي تفجَّرت في حياة الإنسان ثورات نفضت عنه الغبار ليستقبل حياة جديدة، كانت الثورة الفرنسية هي كلمات فولتير وقد تفجَّر بارودها، وكانت كل ثورة — صغيرها وكبيرها — بمثابة انفجار للقوة الكامنة في كلمات، لقد كانت كلمات شهرزاد سحرًا في مسمعي شهريار فأمسك عن سفك الدماء ليستمع، الصلاة كلمات، والتسبيح كلمات، والشعر كلمات، والغناء كلمات، فبالكلمات عبد العابد، وبالكلمات أنشد المنشد فانتشى واشتعل وجدانه … لا يا نفس، ليس العيب في الكلمات إذا جاءت من أفواه قائليها مشحونة بالصدق والعزيمة والنية الخالصة لوجه الحق، وإنما العيب هو في كلماتنا نحن التي قالها فينا أصحاب اللسان والقلم؛ لأنها في كثير من حالاتها جاءت باردة هامدة منافقة كاذبة.

ومضيت في حديثي إلى النفس، مجيبًا لها عن سؤالها: وماذا كنتَ تريدني أن أصنع؟ كنت أريدك — يا نفس — أن تلتزمي ما تعاهدنا عليه منذ الصبا.

أتذكرين؟ أتذكرين ونحن معًا في مطارح الغربة نتلفت حولنا، فنرى لكل فرد من ملايين الأفراد قدرته وكرامته وعزة نفسه؟ أتذكرين يوم رأينا معًا ذلك الصف الطويل من الرجال والنساء، كلٌّ ممسك بصحنه في يده، يتقدمون خطوة بطيئة بعد خطوة بطيئة ليصلوا إلى حيث وجبة طعامهم وشرابهم، فلمحنا في الصف خادمًا ووزيرًا، والخادم في دوره يسبق دور الوزير، فلا الوزير أقلقه أن يقف وراء الخادم، ولا الخادم أخافه أن يقف أمام الوزير، أتذكرين؟

أتذكرين ما قلته لك عندئذٍ: إنه حتى لو حدث في بلادنا أن رضي الوزير بموقفه من الصف، لما رضي له الخادم، وإذا نحن ترجمنا هذا الكلام بمقياس أوسع، لقلنا إنه حتى لو رضي صاحب السلطة في بلادنا بأن يلزم حدوده تجاه الشعب العامل، لما رضي ذلك الشعب العامل إلا أن يفسح له الطريق. أتذكرين يا نفسي كيف تعاهدنا عندئذٍ أن نحاول التغيير بكل ما في وسعنا من جهد وجهاد؟ فماذا صنعت، وها نحن قد بتنا قاب قوسين من الأجل؟ إن شيئًا لم يتغير، لا على يديك ولا على يدي أحد سواك؟ فما تزال كتلة الشعب تعالج أمورها كما كانت تعالجها منذ أمد طويل.

ومرة أخرى أجابت النفس: وماذا كنت تريدني أن أصنع، فهل أزحزح الجبل؟ إنك تعلم، كما أعلم، أن الخطوة الأولى في سبيل التغيير، هي أن يشعر الناس بوجوب أن يتغيروا! فماذا أنت صانع إذا وجدت الناس قد مُلِئت صدورهم بفكرة قائلة إنه إذا كان لا بد من تغير، فإنما يكون التغير بالسير إلى الوراء؟

وهكذا ترى الناس في بلادنا أحد رجلين: فإما هو راضٍ بما هو فيه، وإما يريد أن يغير ما هو فيه، بالسير إلى الوراء! فالكمال كان في أمس، ولن يكون في يومنا أو في غدٍ! إنهم يسمون الرجوع تقدمًا، ويسمون اللاعقل اعتزازًا بالتراث.

قلت لنفسي: يا نفسي لو كان الناس على صواب لما كان بنا حاجة إلى أصحاب فكر وأرباب قلم، ففيمَ يعمل الفكر، وبماذا يجري القلم، إذا كان كل شيء على ما يرام — كما يقول — وكانت الحالة «معدنًا»، ولم يكن في الإمكان أبدع مما كان؟ إن «الفكر» — بحكم تعريفه — هو حل للمشكلات، وإذا لم تكن مشكلات فلا فكر، فأنت — يا نفسي — حين وصفت الناس بأنهم على ما هم عليه، كنت بمثابة من يضع أمامنا مشكلة تريدين لها حلًّا، وهذا هو ما أردت أن أقوله حين سألتك ماذا صنعنا، وماذا صنع المثقفون جميعًا بكل ما قالوه وكتبوه، إذا بقيت مشكلتنا على حالها التي كانت عليها بالأمس وما قبل الأمس؟

قالت لي نفسي: إنك يا صاحبي تنحو عليَّ وعلى نفسك باللائمة لهذا الجمود الراكد الذي يغشى حياتنا، وتنسى ظروف التربة التي بذرنا فيها بذورنا، فبذورنا وبذور سوانا من أصحاب البيان والقلم إنما تسقط على صوان أخرس وأصم، نعم إنه صوان صلب عنيد، ولكنه بسبب تلك الصلابة فيه وهذا العناد، بات لا ينبت الشجر الأخضر.

سألتها: وماذا تعنين بتلك التربة الصماء؟

أجابت: أعني ما قلته لك مرارًا، وهو أن أمتنا قد أصبحت أمة من الدراويش؟ وأريد بالدروشة تلك الغيبوبة الثقافية التي تُفقِد صاحبها قدرته على دقة التوازن بين الأولى والآخرة؟ ولم تُصَبْ مصر بفقدان التوازن هذا إلا بعد الفتح التركي، وأما ما يزيد على ستين قرنًا قبل ذلك التاريخ فلم تشهد من المصري إلا متدينًا عاملًا، أو عاملًا متدينًا، كان المصري طوال عمره الطويل يتدين كما يتنفس، فهو بنَّاء للعمائر والهياكل متدين، وهو زارع لأرضه متدين، وهو نجار أو حداد متدين، وهو عالم أو فنان متدين، إنه كان أي شيء في حياته العملية المنتجة والدين بطانته، لم يكن الموقف في حياته موقف من يقول: إما عمل وإما دين، بل كان العمل والدين وجهين لعملة واحدة، ولبث الأمر كذلك خلال الحضارات المتعاقبة التي خاضها. كان كذلك — بالطبع — في عصره الفرعوني القديم، وكان كذلك يوم أن سقطت الشعلة من أيدي اليونان فالتقطتها مصر، لتكون هي الفيلسوفة المتدينة وهي العالمة المتدينة، وهكذا لبثت مصر تحمل كل حضارة تالية وفي قلب المصري إيمانه الديني، ولما نشأ الأزهر الشريف في القرن العاشر الميلادي، ظل ستة قرون يؤدي الرسالة المزدوجة: العلم والدين، وهو لا يفصل بين الحياتين: فهو عالم حين يتدين، وهو متدين حين يخدم العلم، حتى لا يكون العلم من علوم الدين.

وجاء الفتح التركي، فما أسرع ما انفجرت الشعبتان وكأنهما لم يكونا فرعين من جذع واحد، أو قل إن إحدى الشعبتين — شعبة العلم الأصيل — قد توارت، وبقيت شعبة الدين، وأصبح المتخرج في الأزهر رجل دين، أكثر منه رجل دين وعلم مندمجين في كيان واحد، فلما اقتحمت ديارنا حضارة الغرب وأطراف من ثقافته، منذ الحملة الفرنسية فصاعدًا، أخذنا ما جاءنا من الغرب من علوم وفنون وأفكار ونظم للتعليم والحكم وغير ذلك، لكننا أخذناه حفظًا وتسميعًا، ومن هنا استقلت الشعبتان إحداهما عن الأخرى، ودخلت ساحتنا صيغة زائفة باطلة، وهي الصيغة التي كانت تصول بها: إما دين وتدين وإما علم حديث وحضارة حديثة، هذه صورة موجزة، يا صاحبي، كما حدث، وهي الصورة التي نتج عنها الموقف الراهن، الذي هو: كتلة الشعب من الناحية الثقافية في ناحية، ومعها رواد يسوسونها على ذلك الطريق، وقلة قليلة جدًّا تشربت ثقافة العصر وحضارته من ناحية أخرى، فإذا كتب أفراد من هذه القلة القليلة ما يكتبونه، فلن يجاوزوا بكتاباتهم حدود أنفسهم، إنهم لن يخترقوا بكتاباتهم حاجز الصوت ليصلوا إلى آذان جمهور الشعب، وتلك هي التربة الصماء التي عنيتها حين قلت — يا صاحبي — إننا نحن وأمثالنا نبذر بذورنا لتقع على صوان صلب أصم وأخرس، فهو أصم بالنسبة إلينا، ولكنه مفتوح الآذان لآخرين، وهو كذلك أخرس بالنسبة إلى اللغة التي تتكلمها تلك القلة القليلة التي أشرت إليها، لكنه ناطق بالنسبة إلى لغة الآخرين.

قلت لنفسي: حقًّا لقد ألقيت لي الضوء فوضح الغامض، ولكن أنترك الأمر على هذه الحالة؟ وإلى متى نتركه؟ وماذا نحن صانعون لو أردنا أن نغيره؟

فأجابتني النفس قائلة: الآن قد تبدلت أدوارنا فبعد أن كنت أنا التي أسألك ماذا كنت تريدني أن أصنع؟ ردًّا على لومك وتأنيبك أصبحت أنت الذي توجه إليَّ السؤال: ماذا نحن صانعون في موقف قوامه جمهور عريض ورواده في ناحية وقلة قليلة جدًّا تريد التغيير في ناحية أخرى؟ وها أنا ذا أحاول الجواب عن سؤالك، مكتفية هذه المرة بنقطة واحدة ولكنها نقطة أساسية وجوهرية.

إنه لمن المفارقات التي تستوقف النظر أن نقول عن مصر اليوم إنها تبحث عن ذاتها. فبحث الإنسان عن ذاته لا يكون إلا في فترة المراهقة حين يتأهب المراهق للدخول في دنيا النضج بعد طفولة وصبا. وفي مرحلة المراهقة تتعدد المسالك والبدائل أمام المراهق، ولذلك فهو يظل فترة مأخوذًا بالتردد والحيرة ماذا يأخذ وماذا يدع، وهو إذا ما وقع باختياره على طريق معين دون سائر الطرق يكون بمثابة من رسم لنفسه الطريق لحياته المقبلة كلها؛ وشأن الأمم كشأن الأفراد حين يكتنفها موقف متعدد المسالك والبدائل، وعلى الأمة أن تختار لنفسها مسلكًا بذاته يحقق لها ذاتها. ويقول مرة أخرى إنها لمفارقة تستوقف النظر أن نقول عن مصر العريقة إنها في موقف من لا يزال يختار لنفسه في الحياة مسلكًا يتميز به.

لكن شيئًا من تلك المفارقة الغريبة يزول إذا تذكرنا أن ما يشبه المراهقة قد يعاود الفرد الواحد ويعاود الأمة الواحدة كلما صادفته أو صادفتها صدمة قوية ارتجت لها جدرانها، فها هنا يكون الفرد أو تكون الأمة بمثابة مراهق لا يزال في أول الطريق، وعليه أن يختار أي طريق يسلك. وليس من شك في أن مصر حين اصطدمت بحضارة الغرب الحديث وبشيء من ثقافته اهتز بنيانها لأنها وجدت نفسها أمام حياة تختلف عن حياتها اختلافًا شديدًا، وكان أن ردة الفعل بموقف شاذ هو الموقف الذي نحياه اليوم، وأعني به أنها أخذت من الشجرة الجديدة ثمارها ورفضت جذعها وجذورها، أي إنها أخذت «نتائج» العلم و«نتائج» الصناعة و«نتائج» النشاط الفلسفي والفكري ومبدعات الأدب والفن والأشكال الخارجية للنظم كلها: سياسية وتعليمية واقتصادية، أقول إنها أخذت «نتائج» هذا كله ولكنها رفضت أن تحيا الحياة التي تعتمل فيها العوامل لتنتج لصاحبها تلك النتائج.

إننا نحن وأمثالنا يا صاحبي حين نفكر فإنما ندعو الناس إلى اصطناع شيء رفضوه وهو أن «يحيوا» الحياة التي من شأنها أن تنتج لهم علومًا وصناعات وتقنيات وآدابًا وفنونًا ونظمًا كالتي ينقلونها من الغرب معلبة جاهزة، ولقد رفض جمهورنا وعلى رأسه رواده أن يحيا مثل تلك الحياة ومع ذلك فهو يقبل الثمرة منقولة إليه، فإذا سألتني بعد ذلك وماذا عسانا صانعين؟ أجبتك بقولي: أكشف للمصري المعاصر عن حقيقة ذاته التي امتدت معه أكثر من ستين قرنًا ولم تغب عنه إلا إبان الفتح التركي وما بعده، ترتفع عن ذلك المصري الحديث حيرته وتردده، فيعرف طريقه وهي نفسها الطريق التي سار على منهاجها أكثر من ستين قرنًا، وأعني طريق المتدين العالم العامل.

قلت لنفسي: الآن قد ازددت وضوحًا؛ لماذا ينسد الطريق بيننا نحن وأمثالنا ممن يفكرون ويكتبون من جهة وبين جمهور الشعب ورواده من جهة أخرى، نعم لقد ازددت وضوحًا لكني كذلك قد ازددت قلقًا؛ إذ بات واجبًا علينا أن نبحث فيما يساعدنا على كشف عناصر الذات المصرية الأصيلة لنضعها أمام أبصار الناس لعلهم يهتدون، فماذا ترين يا نفسي؟

قالت النفس متثائبة: لقد حان موعد النوم لنستريح، طاب مساؤك يا رفيقي.

كان ذلك ما حملته الورقات التسع الصغيرة التي تركها صديقي، ولقد وضعتها كما جاءت، وإذا حق لي أن أضيف إليه جملة واحدة من عندي قلت: إن هذا الذي كتبه صديقي، هو ما تمنى كثيرون أن يكتبوه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤