ثلاثة أصوات
هي ثمانية أسابيع لم تزد على ذلك يومًا ولم تقل، قضيتها وراء البحر، أطلب الراحة والعلاج: الراحة لمن لا يعرف كيف يستريح، والعلاج لما ليس منه شفاء، وماذا تكون ثمانية أسابيع بالقياس إلى عمر طال بصاحبه نحو أربعة آلاف من الأسابيع؟ إنها كنصف الدقيقة منسوبة إلى يوم ذي أربع وعشرين ساعة، إذن، فما كان ينبغي لها أن تغير من عادات حياتي شيئًا، ولكنها فعلت، وذلك عندي هو موطن العجب.
فقد كنت خلالها، إذا ما أردت أثناء ظلمة الليل، أن أضغط على مصباح النور المجاور لمخدعي، مددت إلى المفتاح ذراعي اليمنى، فلما عدت إلى داري بالقاهرة، والتمست خلال الليلة الأولى نور المصباح، مددت ذراعي اليمنى كما كنت أفعل هناك، ولبثت لحظة أتحسس الحائط بأصابعي دون جدوى، فأسأل نفسي في عجب: أين ذهب مفتاح النور؟ ثم استيقظت الذاكرة لتنبئني بأنني الآن قد بت في القاهرة، حيث تمد الذراع اليسرى إلى مفتاح الضوء. ونهضت من فراشي إلى حيث أريد، فأنساني الشيطان مرة أخرى، واتجهت بخطواتي إلى اليمين، مع أن الطريق إلى باب الغرفة يتجه نحو اليسار، وكان مصدر الخطأ هو تلك البقية الضئيلة الباقية من حياة لم تدم أكثر من ثمانية أسابيع.
ولما أصبح بي الصباح، «تصفحت» الصحيفة اليومية، ولقد وضعت كلمة «تصفحت» بين الحواصر، لألفت النظر إلى أنني إنما أردت الكلمة بمعناها الدقيق، فلعل هذه الكلمة لم تخلق في اللغة إلا من أجلي ومن أجل أمثالي، الذين لا يستطيعون من القراءة — بحكم الضرورة — أكثر من نظرة تلقى على الصفحة كلها، لعلها تلتقط منها عنوانًا ضخمًا هنا، أو عنوانًا ضخمًا هناك، فقراءتي باتت تصفُّحًا، ورحم الله أيامًا، لا بل أعوامًا تعد بالعشرات، لم يكن يرضيني من قراءة ما أقرؤه، إلا أن أستوعب المكتوب لفظًا لفظًا، أم أقول قراءة تستوعبها حرفًا حرفًا؟ وكنت إذا ما تبينت في المادة المقروءة أهمية خاصة، فعلت ما هو أكثر من ذلك؛ إذ كنت أثبت في قطعة من الورق — وأحيانًا على هامش الصفحة التي أقرؤها — كلمة تدل على كل فكرة وردت خلال السطور، ثم أعيدها، وأترك الصفحة التي أمامي، وأشخص ببصري إلى سقف الغرفة، لأعيد رءوس الأفكار التي وردت في السياق، فلم أكن أقرأ لأتسلى، بل كنت أقرأ لأعرف.
ذهب هذا كله، وأصبحت قراءتي «تصفحًا»، ولماذا أقول هذا؟ أقوله لأعلن به أنني أعترف مقدمًا بأن ما سوف أذكره الآن، قد لا يكون صوابًا، وأن تكون علة الخطأ هي أن قراءتي للصحيفة اليومية التي أشرت إليها، لم تكن في الحقيقة قراءة يعول عليها، وإنما كانت «تصفُّحًا»، الأغلب فيه أنه يؤدي بصاحبه إلى الباطل أكثر مما يؤدي به إلى الحق.
نعم فقد أصبح بي الصباح الأول بعد غياب لم يطل أكثر من ثمانية أسابيع، فلما «تصفحت» الجريدة اليومية، خُيِّل إليَّ كأن فكرة لمعت أمامي، لم أدركها بمثل ذلك الوضوح الناصع من قبلُ، وهي أن ثلاثة أصوات تنبعث من الصفحات، ولا أقول إنها أصوات «متنافرة» بل أقول إنها كانت على الأقل — كما بدت لي — تستقل بعضها عن بعض، كأن كل صوت منها يتعمد ألا يكون له شأن بالصوتين الآخرين، وتلك الأصوات الثلاثة هي: صوت «الدولة» فيما تنشره من حقائق، وصوت «الجمهور» فيما يبثه من الأنين والشكوى، وصوت «الكتَّاب» الذي يخيل إليك أنه آتٍ من المريخ أو من زحل.
أما أول الأصوات — صوت الدولة — فهو بغير شك أضخمها جرسًا وأعلاها نبرةً، وأشدها رنينًا، وأميز ما يميزه هو ضخامة الأرقام التي يندر ألَّا تراها متصدرة في المقال، أو في البيان، أو فيما شاء أصحابه أن يسموه (وأذكِّر القارئ بأنني لا أجاوز ببصري حدود العنوان. بحكم الضرورة) فالأرقام هي بالملايين ومئات الملايين، وإذا تواضعت كانت عشرات الألوف ومئاتها: فالمساكن الجديدة قد شُيِّد منها كذا ألفًا، والتليفونات التي تجيء على الطريق هي كذا من عشرات الألوف، والأرض التي يُنتظَر زرعها بعد أن كانت جدباء هي كذا مليونًا من الفدادين، وهكذا قل في جميع نواحي الحياة صغيرها وكبيرها على السواء، ولست أشك في صحة الأرقام المذكورة، لكني أقول إنها — بسبب صدقها — تبشِّر بما يشبه الجنة على الأرض.
فإذا ما أدرت صفحة وما بعدها، جاءك الصوت الثاني، الذي لا بد أن يكون صاحبه قد غض بصره عن أرقام الصوت الأول؛ لأن ذلك الصوت الثاني لا يُسمِعك إلا توجعًا مما يلاقيه، ومع التوجع ضراعة أن تمتد إليه أيدي الغوث لعله يظفر هو وعياله بأقل من القليل، لماذا؟ ألم تصل إليه قطرات من ذلك الفيض الغزير الذي تعلن عنه الدولة بأرقامها، وهي أرقام لا تعرف إلا الملايين ومئاتها، والألوف وعشراتها؟ أم أن مشكلات حياتنا قد أصبحت كالبحر المحيط، وما وجوه الإصلاح إلا كاغترافنا من مائه بملعقة لنجففه، فإذا هو باقٍ على حاله بحرًا محيطًا؛ كنت ذات يوم أتحدث إلى واحد من أصحاب الأنين والشكوى، فقلت له خلال الحديث: إنك يا صاحبي تنظر إلى صفحة من الكتاب وتترك الصفحة التي تقابلها، فتشكو مما يزحم الطرقات من أكوام الرمل والزلط، وتترك ما يقابل تلك الأكوام من عمائر تقام، وتشكو من غلاء اللحوم والفاكهة وغيرها من مواد الغذاء، وتترك ما يقابل ذلك من أن أحد الأسباب التي أدت إلى ذلك، هو أن ملايين كانوا لا يأكلون فأكلوا، فنافسوك في الطلب، فارتفعت الأسعار، وتشكو من قلة الأيدي العاملة داخل بيتك وخارجه، وتترك أن العلة إنما تعني أن تلك الأيدي كلها تعمل وتكسب المال، حتى لم يعد يسيرًا عليك أن تجد منها يدًا خالية لتسعفك.
لكننا الآن لسنا في مجال هجوم ودفاع، وكل ما يعنيني بهذه السطور التي أقدمها، هو أن أبين للقارئ ماذا صنعت بي ثمانية أسابيع قضيتها وراء البحر، ولم تكن هذه أول مرة أقضي فيها الأسابيع وراء البحر، بل هي عادة ألفتها منذ أعوام لا أدري كم يبلغ عددها، فما الذي جعلني هذه المرة أقرأ الصحيفة اليومية، فكأنما أتبين فيها — للمرة الأولى — أن من صفحاتها تنبعث ثلاثة أصوات، ولا يأبه صوت منها بالصوتين الآخرين، كأن كلًّا منها في وادٍ منعزل: فالدولة بصوتها الضخم القوي العريض مشغولة بملايينها في وادٍ، والجمهور بأنينه المتوجع في وادٍ ثانٍ، وأصدقاؤنا الكتَّاب في وادٍ ثالث، وأقل ما أزعمه لتلك الأصوات الثلاثة، هو أنها أبعد ما تكون عن أن تؤلف معًا معزوفة موسيقية تستريح لها الأذن.
كنت أحدثك عما وجدته في الصحيفة من توجُّع الجمهور وضراعته، وها أنا ذا أكمل لك حديثي عن الصوت الثالث، وهو صوت الكُتَّاب بمختلف صنوفهم، وحسبي أن أقول إنني رأيت انشغالًا بالآخرة أكثر من الانشغال بالأولى، ووجدت ما يشبه معركة قائمة: هل كان فلان يرجع بأصوله الأولى إلى بلاد واق الواق، أو كان يرجع بتلك الأصول إلى جزيرة الشيطان؟
ترى هل أزالت عني تلك الأسابيع الثمانية حجابًا فوضحت الرؤية أمامي، أو أضافت لي حجابًا إلى حجب فضللتني؟ لقد جلست على مسمع من التليفزيون عشية ذلك اليوم، لأسمع الأخبار، فكنت كمن أدرك للمرة الأولى أننا لا نقدم الأخبار مرتبة وفق أهميتها الموضوعية الحقيقية، كما رأيت الناس يفعلون وراء البحر، بل نرتبها بمقدار قربها أو بعدها عن أصحاب المناصب العليا، فمقابلات السيد رئيس الجمهورية، والأخبار المتعلقة بالوزراء وكبار المسئولين، تسبق أنباء حرب اشتعلت نيرانها في أرض تهمنا، أو أنباء زلزال ارتجت له الأرض فقضى في لمح البصر على عشرات الألوف من البشر، والله أعلم منَّا أين الصواب في ذلك وأين الخطأ. لكن ذلك لا يمنع الإنسان من عرض رأيه على الناس، وهم أحرار في رفضه وقبوله، ورأيي هو أن مقياس الصواب في هذه الحالة وأمثالها، هو أيهما أنفع أثرًا في تربية الشعب تربية إنسانية مرهفة الحس، يقظانة الضمير؟ وأحسب أنني إذا حرصت على تقديم الأهم قبل المهم، يومًا بعد يوم، وعامًا بعد عام، كنت بذلك أقرب إلى تربية الشعب في سلامة الإدراك، وفي رؤية النسب الصحيحة بين الأشياء والحوادث.
وإن ذلك ليغريني بذكر شيء، قرأته في صحيفة الصباح، وسمعته في تليفزيون المساء، وهو شيء تعمدت بادئ الأمر ألَّا أتورط في ذكره أو الإشارة إليه، لكنني أحسست — حين حانت لحظته المناسبة — بأن واجبي هو أن أقول الحق كما أراه، ولتشفع لي سني التي بلغت ما بلغته، إن لم تكن النية الحسنة وحدها شفيعًا كافيًا، وإنما قصدت بهذا ما قرأته وما سمعته عن «منحة» العيد للعاملين، بتوجيهات من السيد الرئيس، وإني لأستأذن السيد الرئيس بكل ما عرفناه فيه من إخلاص ونزاهة وجدية وصدق، أستأذنه في أن أطرح السؤال الآتي: هل نعمل على تربية الشعب تربية ديمقراطية صحيحة، وعلى بث روح العزة والكرامة والاعتداد بالنفس، حين نعلن في مناسبات الأعياد عن «منحة» للشعب العامل، بأمر من رئيس الجمهورية؟ من الذي يمنح من؟ ومن أي مال يمنحه؟ إنني — معاذ الله — لا أستهدف قطع الأرزاق، ولكنني لا أستريح ضميرًا حين أرانا نعيد صور الماضي الذي ثرنا عليه لنغيِّره، ذلك الماضي الذي كان الحاكم فيه يقول للناس إنه «ولي النعم»، وواجبنا هو أن نمحو من الوجود محوًا، كل أثر يوحي للإنسان بأنه تابع يتلقى الصدقة من سيده، إذا أراد سيده أن يتصدق عليه، ومغفرة إذا كنت على خطأ.
وأعود إلى الأصوات الثلاثة التي لا يلتقي صوت منها بصوت وكلٌّ في وادٍ يهيم، إنك إزاءها لا تعرف هل لك أن تتفاءل أو عليك أن تتشاءم؟ فإذا أردت تفاؤلًا، فاقرأ صوت الدولة بأرقامها، وإذا أردت تشاؤمًا فاقرأ صوت الجمهور، وإذا أردت أن تفقد هويتك وأن تسبح في بحر النسيان وغياب الوعي، فاقرأ بعض ما يكتبه «الكاتبون»، صوت الدولة يضعك على أرض تجري فيها أنهار العسل واللبن، وصوت الجمهور يملأ سمعك بالأنين، ويملأ قلبك بالحسرة والأسى، ومع بعض الكرام الكاتبين لا تعرف أين أنت، ولا تدري وأنت معهم متى ولماذا.
مع كل صوت من الأصوات الثلاثة خريطة لمصر، لكن خريطتها هنا ليست هي خريطتها هناك، ومن يقصر رؤيته على خريطة واحدة منها، لم يعرف شيئًا عن أهل الخريطتين الأخريين، فأنين الخريطة الثانية لا تسمع أصداؤها في الخريطة الأولى، وأرقام الخريطة الأولى لا تعيها الخريطة الثانية، وأما أصحاب الخريطة الثالثة فهم في عالم آخر، وعلى سبيل التفكُّهة أروي ما قاله لي صديق كان أستاذًا للجغرافيا الاقتصادية في كلية التجارة، وقد ورد في كتاب له يدرسه طلابه، عن محصول البن أنه يهم الناس جميعًا، من الزارع والتاجر إلى رجل الشارع وسيدة الصالون وهي تحتسي قهوة الصباح، فجاءه طالب ليقول له مازحًا: لقد بحثت يا دكتور في كل خريطة عندي عن السيدة التي تحتسي القهوة في صالونها، فلم أجد لها أثرًا.
الفرق بعيد بين أن تتعدد الأصوات في جماعة من الناس، تعددًا يجعل كل صوت منها مقطوع الصلة بالأصوات الأخرى، وأن تتعدد الأصوات في جماعة أخرى تعددًا لا يمنع أن تجيء تلك الأصوات بمثابة التنويعات على لحن واحد، في الحالة الأولى تنتج عن الأصوات ضجة، وفي الحالة الثانية تنتج عنها معزوفة موسيقية، في الحالة الأولى قد يمحو كل صوت أثر الصوت الآخر، وفي الحالة الثانية يزداد كل صوت قوة بفعل الأصوات الأخرى، وفي الحالة الأولى تجيء حركة المجتمع أقرب إلى حركة الذي يقفز قفزته إلى أعلى، ليعود إلى موضعه من الأرض حيث كان، وفي الحالة الثانية تجيء حركة المجتمع شبيهة بحركة من يقفز قفزته إلى أمام، حتى إذا ما عاد إلى موقع من الأرض، وجد نفسه قد تقدم بمقدار ما قفز.
المثل الأعلى لحياة المجتمع، هو أن يكون لكل فرد طابعه الخاص الذي يتميز به دون سائر الأفراد، وأن يختلف بصوته (أي برأيه) ما شاء له فكره أن يختلف؛ لأنه إذا تشابه فردان من البشر تشابهًا كاملًا، كان أحدهما زائدة لا مبرر لوجودها، ولكن شريطة أن يجيء اختلاف الأفراد، مماثلًا لاختلاف الآلات الموسيقية مع مختلف العازفين في سيمفونية واحدة، فما دامت الفرقة العازفة بكل أفرادها، تتبع «نوتة» واحدة، فاختلاف الأصوات عندئذٍ يكون قوة ولا يكون ضعفًا.
ولنقف هنا لحظة هادئة، نتأمل فيها هذه السمة التي هي من علامات الحياة السليمة القوية، نتأملها على مهل؛ لأنها مفتاح مهم للطريق السوي، إذا ما أردنا لأنفسنا هداية على الطريق، فحياة الناس في أمة بعينها، وفي أي مرحلة زمنية من مراحل تاريخها، إنما هي مجموعة مركبة من مئات الألوف من الأمزجة والأفكار والأعمال والهوايات والقدرات والميول والرغبات، ويستحيل ألا تجيء الحياة على صورة شديدة التركيب والتعقيد، ما دام لكل فرد من أبناء تلك الأمة الواحدة اتجاهاته وملكاته واختياراته، ولكن هذه الكثرة الغزيرة من مناحي الحياة وطرقاتها، كثيرًا جدًّا ما تلتقي كلها في جذور واحدة، إبَّان العصر التاريخي الواحد، بحيث يستطيع المؤرخ بعد ذلك، بشيء من نفاذ البصيرة، أن يصف ذلك العصر بالصفة التي تميزه دون سائر العصور، وذلك — بالطبع — إذا كانت تلك الحياة — كما قلنا — سليمة التكوين، واضحة الأهداف، سديدة الخطى، وأما إذا جاءت كثرة العناصر خليطًا مهوشًا، لا يتفق العازفون فيه على لحن واحد، كان الناتج شيئًا كالذي أصيبت به بابل القديمة، حتى امتنع عليها أن يكون لها كيان موحد، يطَّرد سيره ويصبح له تاريخ.
إنه لأمر معروف مألوف، في تاريخ الحضارات، أو في تاريخ الفكر، أن يبحث الباحثون عن الخصائص البارزة المميزة للعصور المختلفة، ولولا أن الحياة الاجتماعية، على الرغم من تباين أفرادها فيما يعملون، يظل لها المحور الواحد الذي تدور عليه رحاها، أقول إنه لولا ذلك، لتعذر أو استحال أن نميِّز عصرًا معينًا في حياة أمة معينة، أعني أن نميزه بصفة تحدد معالمه، وفي هذه المناسبة أذكر أنه قد صدر منذ بضع سنين، سلسلة من الكتب الإنجليزية يصور كل كتاب منها، الحياة الفكرية في أوروبا إبَّان قرن من الزمان، بادئةً من القرون الوسطى فصاعدة نحو عصرنا، ويكفي أن يقرأ القارئ عنوان الكتاب في تلك السلسلة، ليعرف الروح التي سادت خلال القرن المعين الذي يتحدث عنه الكتاب، فكتاب العصور الوسطى عنوانه «عصر الإيمان»، وكتاب القرن السادس عشر عنوانه «عصر النهضة»، ثم تتوالى العنوانات مع القرون: «عصر العقل»، «عصر التنوير»، «عصر التطور»، وأخيرًا «عصر التحليل»، وهذا هو القرن العشرون، فإذا قرأت كتابًا من تلك السلسلة، عرفت كيف تلتقي مناشط الفكر كلها — في القرن الواحد — عند محور أساسي واحد. وبديهي أن واحدية المحور قد نتجت عن واحدية الهدف عند الجميع.
وعلى هذا الأساس، أطرح السؤال الآتي أمام القارئ: بأي الخصائص نصف الحياة في مصر إبَّان هذه الفترة من تاريخها؟ إنه إذا وجد الجواب الصحيح، كنا بخير ونسير على هدًى، وأما إذا وجد مناشطنا واتجاهاتنا أقرب إلى الخليط البابلي الذي لا يجد ما يوحده على صوت واحد، ولغة واحدة، كان من حقنا أن نطالب بوقفة هادئة نراجع فيها أنفسنا، لعلنا نرسم طريقًا للسير، يترك المجال فسيحًا لكل فرد أن ينشط بما يحقق ذاته، لكنه في الوقت نفسه يربط الجمع برباط اللحن الواحد.
ولكن على فرض أنني كنت على صواب، حين قلت إن ثلاثة أصوات في حياتنا يزحم بعضها بعضًا، ولا يبالي صوت منها ما يصيح به صوت آخر، وبالتالي فإن حياتنا تلك قد جاءت بلا لون غالب يميزها؛ لأنها حياة بغير هدف واضح، فماذا نحن صانعون؟ إنه لا يكفي أن نشخص المرض — وإن يكن هذا التشخيص ذا أهمية بالغة إذا كان صادقًا — بل لا بد كذلك من التفكير في العلاج، فلو جاز لي أن أختم حديثي بإشارة سريعة إلى العلاج الذي أراه، توحيدًا للهدف، وتوحيدًا للصوت، أو قل توحيدًا للنغمات المتباينة في معزوفة واحدة، لقلت: إنه لا بد أولًا من الإيمان بوجوب المشاركة الفعالة في أسس حضارة عصرنا وثقافته، ثم صب هذه الأسس في قالب الشخصية المصرية العربية، فإذا أدركنا تلك الأسس على حقيقتها، وأدركنا معها مقومات الشخصية المصرية العربية، عرفنا كيف نقيم إطارًا للتربية والتعليم على هذا الأساس، وإطارًا للحياة السياسية على هذا الأساس، وإطارًا للفن وللأدب على هذا الأساس، وإطارًا للنظم الاجتماعية من الأسرة فصاعدًا على هذا الأساس، وفي كل مجال من تلك المجالات، لا بد بطبيعة الحال أن تتعدد شواغل الناس واهتماماتهم وأعمالهم، بمقدار ما يتعدد الأفراد، لكن هذا التعدد سينطوي كله تحت مظلة واحدة، هي تلك الصيغة التي تصورناها وصورناها وأقمنا مناشطنا على أساسها.
هي ثمانية أسابيع قضيتها وراء البحر، لم تكن أول مرة ولا عاشر مرة أقضي مثلها هناك، لكنني هذه المرة دون سابقاتها، عدت فأحسست بعدها بأن في حياتنا تتزاحم الأصوات، مما يكاد يبطل بعضها بعضًا.