رسالة في زجاجة
كنت يومها أعبر الأطلنطي في باخرة لها من الضخامة والفخامة ما يجعلها قصرًا عائمًا على سطح الماء، بدأت رحلتها على موج هادئ، فكانت تبدو وكأنها من الرواسي الرواسخ، التي تهزأ من الرياح العاتية، وسارت منسابة على بساط الماء ملكة فيها وقار السلطان ورصانة الأصل الثابت العريق، وانتشر راكبوها في ثياب ملونة زاهية تدل على قدر من الثراء، ولكنها كذلك — ببساطتها — تشير إلى ذوق مهذب رفيع، انتشر هؤلاء في أبهاء السفينة وممراتها وعلى سطحها وفي غرفها، انتشروا في مرح مطمئن وسمر هامس.
وما هو إلا يوم يمضي، حتى تتبدل الحال غير الحال، فقد غضب محيط البحر غضبته التي لا تقاس إليها تلك الغضبة المضرية التي أشار إليها الشاعر العربي القديم، وأصبحت السفينة التي كانت بالأمس أرسخ من الجبال، لعبة خفيفة يتقاذفها الموج، فموجة ترمي وموجة تلقف، لقد روعت ملكة الأمس الرزينة الرصينة الوقور، فباتت طفلة خائفة راجفة تبحث لها عن صدر يحميها؟ وأين ذهب المسافرون؟ لم يعد منهم أحد يقف مستندًا إلى السور ليرسل البصر إلى الأفق البعيد الراقد بين السماء والماء، أو أحد يجلس على كرسيه الطويل ينظر إلى لا شيء يتيح لفكره أن يتأمل؛ كلا ولا بقي في الأبهاء أو الممرات رفاق يلتقون في بشر ضاحك ويسمرون؛ لقد اختفى جميعهم في قمراتهم كأنهم الفئران التي أحست برعشة الزلزال فأسرعت إلى جحورها. أو قل إن ركاب السفينة جميعًا، قد أصبحوا هم وسفينتهم الضخمة الفخمة، وكأنهم بالنسبة إلى المحيط الغاضب — كما قال قائل — دود على عود.
ولأمر ما تذكرت عندئذٍ كريستوفر كولمبس، أأقول «تذكرت؟» لا، بل إن صورة كولمبس لم تبرح خيالي لحظة إلا لتعود فتمثل ماردة نصب عيني وخيالي معًا. إنني لم أعبر ذلك المحيط مرة رائحًا أو غاديًا، إلا وكولمبس رفيقي في السفر؛ وأظل مع كل لمعة ضوء أو نبرة صوت، أقول لنفسي: انظر كم صنع للدنيا رجل واحد بمغامرة جريئة واحدة، فلولاه لما كانت أمريكا بمعناها الذي نعرفه لها اليوم، وذلك يعني أنه لولاه لما نشأت هذه المرحلة الحضارية الجديدة، التي أصبحت هي «العصر» الذي يحياه الناس، لقد سمعت أستاذًا للتاريخ في محاضرة عامة يقول: «إن نتائج رحلة كريستوفر كولمبس عبر المحيط — وكان العرب يسمونه بحر الظلمات — لم تكتشف كلها بعد.» فلئن كانت هذه الحضارة الصناعية العالمية التكنولوجية التي تعج بها أرجاء الدنيا، هي النتيجة الأولى لتلك الرحلة، فإن نتائج هذه النتيجة لا يعلمها إلا علَّام الغيوب، فإذا تصورنا أن الصاروخ الذي أنزل أقدام البشر لأول مرة على سطح القمر، إنما قام برحلة خرقت الحجب، على نحو ما فعلت سفينة كولمبس حين عبرت المحيط، كان لنا أن نتساءل ذاهلين: إلى أين تنتهي بنا نتائج ما صنعه رجل واحدة بمغامرة جريئة واحدة؟
لا، إنني لم أعبر ذلك المحيط مرة إلا وذكرى تلك الرحلة الفريدة تملأ ما أمامي وما بين جوانحي، فلا أمل من تكرار السؤال على نفسي: هل ترى كم يمكن ﻟ «الواحد» أن يساوي؟ إن الواحد ليس دائمًا هو الواحد الذي نعرفه، بل إنه — بنتائج فعله — قد يساوي ألفًا، مائة ألف، مليونًا، مائة مليون، أو أذهب في سلسلة الأعداد ما شئت؛ وإذا كان ذلك هو شأن كولمبس معي كلما عبرت المحيط، فقد كان شأنه معي في تلك الرحلة التي أروي لك نبأها أشد وأعمق؛ وذلك أنني هذه المرة حين هاجت هائجة البحر على النحو الذي ذكرت وثبت إلى ذاكرتي عن كولمبس حادثة معينة، وهي أنه — كما قرأنا — في إحدى رحلاته بين إسبانيا والأرض الجديدة التي كشف عنها الحجاب (وأظنها كانت ثلاث رحلات) ماج البحر بموجه الغاضب بسفينة كولمبس؛ كما فعل بسفينتنا؛ حتى أوشكت على الغرق، وكانت لدى كولمبس أسرار عن رحلته لا بد أن ينقلها إلى ملك إسبانيا فجاء بزجاجة كبيرة ووضع فيها تقريرًا بما كان يريد أن يبوح به وختم على الزجاجة بسدادة قوية، وألقى بها في الماء، ويقال إن تلك الزجاجة قد عُثر عليها بعد ذلك بنحو ثلاثمائة عام، في موضع ما من الشاطئ الغربي لأفريقيا، وأذكر في هذه المناسبة أن الرسائل التي ترسل في زجاجات يلقى بها في البحر لعلها تبلغ أصحابها، طريقة معروفة — كما يبدو — لا سيما عند البحارة، فإذا ما تعرضت سفينة للغرق، فقد يكون بين راكبيها من تشتد به الرغبة في أن يبعث بكلمة أخيرة إلى من يحب: زوج لزوجة، أو والد لولده، أو حبيب لحبيبته يفعل ذلك وهو على شفا الغرق، ويعلم أن احتمال وصول الكلمة إلى مَن أُرسلت إليه أو إليها؛ احتمال بعيد التحقيق، لكن ماذا يصنع وليس أمامه إلا هذه الوسيلة، ولقد علمت أن زجاجات كثيرة من هذا النوع توجد عند الشواطئ، إنها ضرب من «الحمام الزاجل»، لولا أن الحمامة تعرف هدفها، وأما الزجاجة حاملة الرسالة فتظل تتأرجح مع الموج، والله أعلم أين يدفع بها ذلك الموج، ومتى تصل إلى يد بشرية، ثم كيف لها بعد ذلك أن تصل إلى غايتها المقصودة؟ لكن ما حيلة الإنسان ساعة الحرج؟
أخي المصري في هذه المرحلة من تاريخنا، إن هذه الرسالة أكتبها إليك في جوف سفينة يتربص بها الموت، فقد فغرت لها أواذي البحر أفواهها، وقد تبتلعها بمن فيها، بضربة واحدة، وكذلك قد يريد لها الله نجاة فتنجو، ودعائي هو أن أتم هذه الرسالة القصيرة إليك، وسوف أستودعها زجاجة كما فعل كثيرون غيري، فإذا بلغتك كان خيرًا، وإلا فقد شفيت نفسي من خاطرة تؤرقها منذ سنين، سأوجزها لك في كلمتين، ثم أفيض فيها القول ما استطعت، وما سمحت لي السفينة وهي في محنتها، وأما الخاطرة في إيجاز، فهي أن مصر لأول مرة في تاريخها الطويل قد عجزت عن الإبداع الأصيل حضارة وثقافة، كما عجزت كذلك عن تمثُّل ما يبدعه الآخرون، ولم يسبق لها قط أن أفلتت منها القدرتان معًا في آنٍ واحد، وتعليل ذلك قد يختلف باختلاف الأفراد، لكنه — عندي — هو أن زمام عقولنا قد أمسكت به أيدٍ لا تعرف لها وجهة إلا الوراء، وليس لأصحابها من قوة الرئات ما يأذن لهم باستنشاق الهواء البارد يأتيها من ناحية البحر، فنحن — من ناحية الحضارة والثقافة — أشبه بنا نحن ركاب هذه السفينة، نترنح على حافة الموت، وطوق النجاة الوحيد هو أن يهدي الله تلك الأيدي الممسكة بزمامنا العقلي، فتدير وجهها إلى أمام وتفتح النوافذ والأبواب على مصاريعها ليدخل إلينا الهواء من جهة الشمال.
هل رأيت على طول التاريخ — يا أخي — إنسانًا «تقدم» بخطوات إلى «الوراء»؟ هل رأيت بين الكائنات الحية جميعًا كائنًا واحدًا وضع له الله عينيه في قفاه؟ إننا نريد مصر أن تتقدم، أليس كذلك؟ فتعالَ معي ننظر بنظرة فاحصة إلى هذه الفكرة الهامة والبسيطة، وأعني فكرة «التقدم»، ثم نقارن ما نجده في معناها، بما يقوله ويعمله كثيرون اليوم من أصحاب الصوت المسموع في دنيا الفكر والثقافة، إننا نقول عن طالب العلم — مثلًا — إنه تقدم في دراسته، إذا كان هو اليوم أغزر علمًا منه بالأمس، ونقول عن مريض إنه تقدم في صحته، إذا كان في يومه أشد عافية منه عن أمسه، ونقول عن أوروبا إنها تقدمت في القرن العشرين عمَّا كانت عليه في القرن العاشر، وهكذا تطَّرد معك جميع الأمثلة عن معنى «التقدم» لتلتقي كلها عند نقطة واحدة، وهي أن تكون الحال في يومنا أفضل منها في أمسنا، على أننا نتحوط فنقول: إنه قد يحدث أن يكون الإنسان في جانب من جوانب حياته على درجة معينة من الارتفاع، ثم تصيبه نكسة فيهبط هبوطًا حادًّا، لكنه يأخذ بعد ذلك في التقدم، لكنه يظل رغم الخطوات التي تقدم بها، أقل مما كان عليه في أولى مراحله، ففي موقف كهذا يجب علينا — عند المقارنة — أن نوازن لا بين الحالة الراهنة والحالة التي سبقتها مباشرةً، بل بينها وبين نقطة البداية التي نزعم لها ارتفاعًا.
وعلى ضوء هذا الذي قدمناه، نسأل: إذا كنا نريد حقًّا لمصر أن «تتقدم» وجب أن نستهدف لها أن تكون اليوم أرفع درجةً من أي مرحلة سابقة في تاريخها كله، وأن نرفض رفضًا حاسمًا أن يكون الماضي هو معيارنا الذي نقيمه أمام أبصارنا مثلًا أعلى لنحتذيه. فلا بد — لكي يتم للتقدم المنشود معناه — أن يكون علماؤنا اليوم أعلى من علمائنا القدماء، وفقهاؤنا أفقه من الفقهاء الأقدمين، وكذلك قل في شتى ضروب المعارف والفنون، فهل هذا هو ما يبثه فينا اليوم رواد الكلمة المسموعة ذات الأصداء المدوية بين الجماهير؟ وما أدراك ما يومنا؟ إنه يوم يستطيع فيه صاحب الكلمة أن يدخل على الناس جميعًا بيوتهم، خلال قنوات جبارة حفرت في أجهزة الراديو والتليفزيون.
ولست أريد للأقدمين وأعلامهم — إذا أردت ذلك — أن تصم عنهم الآذان وتدار لهم الأكتاف، كلا، كلا، فلا أحياني الله ولا أنجاني من هذه العواصف التي ترج علينا السفينة رجًّا وتدفعها إلى مهاوي الهلاك، بل الأقدمون هم الأجداد والآباء الذين نحرص أشد الحرص على أن تكون سلسلة التاريخ موصولة بيننا وبينهم، وهي لا تكون موصولة إلا إذا وقفنا في كل ميدان من ميادين الحياة موقفًا يمكن تعقب خطواته التي تطور بها من ذلك الماضي إلى هذا الحاضر، والفرق بعيد بين هذا القول وبين قول آخر ينادي بأن يكون الأقدمون مثلنا الأعلى.
إن علة العلل في حياتنا العلمية والثقافية، وهي العلة التي أقعدتنا عاجزين عن امتصاص حضارة عصرنا وثقافته، وذلك لأول مرة في تاريخنا الطويل، فما من حضارة نشأت وارتفع بنيانها، إلا ونحن إما أن نكون المنشئين لها والرافعين لأركانها، وإما أن يكون غيرنا قد أنشأها فتولينا نحن الارتفاع بها في إبداع مصري أصيل، أقول إن العلة التي أعجزتنا هذه المرة، وأقعدتنا عن الاضطلاع بدورنا التاريخي العظيم، هي أننا لبثنا في الفكر على منهج قديم، في حين أن حضارة العصر تتطلب منهجًا جديدًا، وما أكثر ما ننخدع بالظواهر الحضارية الحديثة إذ نراها منتشرة في أرجاء أرضنا، فنقول: انظر! ها نحن أولاء قد عاصرنا عصرنا إلى آخر صيحة فيه، ويفوتنا الفرق الهائل الهائل الهائل بين أن تنشر الظواهر الحضارية على أرضنا من حيث الكم، ثم لا تتبدل في كياننا العضوي خلية واحدة من حيث الكيف، فعندنا من العلماء بدل العالم الواحد ما قد يبلغ عشرات الآلاف، في علوم الطبيعة والكيمياء والرياضة وغيرها وغيرها، وعندنا المهنيون بعشرات الآلاف كذلك، أطباء ومهندسون وغيرهم، وعندنا وعندنا، ولكن كل ما عندنا يتلخص (تقريبًا) في الحفظ والتسميع، وأبرع رجالنا هو من يتابع الجديد حفظًا وتسميعًا، فما الذي أدَّى بنا إلى ذلك الموقف العجيب؟ الجواب عندي هو أن حضارة الغرب حين دقت علينا أبوابنا، وفتحت علينا تلك الأبواب غير مستأذنة في الدخول، وفتحت لها المدارس والجامعات، وأرسلت في سبيل تحصيلها البعثات في سيل لم ينقطع، أخذنا «نحفظ» هذا الوافد الجديد حفظًا؛ لأننا حافظنا على «المنهج» كما كان قائمًا في القرون الثلاثة السابقة على هجمة الزائر الأوروبي الحديث، وتلك القرون الثلاثة السابقة هي على وجه الدقة أظلم ما شهدته مصر في تاريخها العلمي، وكان السائد فيها هو ألا يزيد «العلماء» شيئًا على أن يحفظوا ما في بطون الكتب القديمة، والنابهون من هؤلاء العلماء كانوا يضيفون إلى «الحفظ» شرحًا لما حفظوه، مرة أخرى أقول: جاء العلم الجديد إلينا عبر البحر، فقبلناه — أو اضطررنا إلى قبوله — لكننا ظللنا على المنهج نفسه الذي كنَّا عليه قبل مجيء ذلك العلم الجديد، وأعني منهج الحفظ والتسميع.
إنه لا رجاء لنا في تقدم مصر تقدمًا حقيقيًّا — يا أخي المصري — إلا أن نستبدل بالمنهج القديم منهجًا جديدًا، خلاصته أن نواجه مشكلاتنا كما هي ماثلة على أرض الواقع أو في سمائه، نواجهها لنقرأ تفصيلاتها على الطبيعة — كما يقولون — حتى إذا ما شاهدنا ما شاهدناه وأجرينا في معاملنا من التجارب ما أجريناه، تحددت طرق الحل لتلك المشكلات من وسائل الواقع ذاته، فالمشكلة كائنة في الواقع الحي، وكذلك حلها يستمد من الواقع الحي، وأما إذا جعلنا ارتكازنا على حفظ ما في الكتب وتسميعه، ثم اعترضتنا المشكلات على اختلاف أنواعها — علمية واقتصادية واجتماعية وغيرها — لم نجد أمامنا من سبيل إلا أن نبحث عن الحل فيما حفظناه وما نحن مستعدون لتسميعه.
أليس يلفت نظرك — يا أخي — أنه كلما اشتد حماسنا لإحياء ديننا الحنيف وشريعته، كان أول ما يطالب به المطالبون — وربما كان هو كذلك آخر ما يطالبون به — هو «الحدود» التي منها قطع يد السارق ورجم الزاني … إلخ، فهل سمعت منهم أحدًا أراد أن يحيي الدين وشريعته، من ناحية أن ندرس ظواهر الطبيعة، والطبيعة هي «خلق السموات والأرض» التي يأمرنا الكتاب الكريم أن نجعلها مدار التفكير، أي مدار البحث العلمي المحقق الدقيق، لتُبنى على نتائجه حياة جديدة، وهل العصر الحاضر شيء غير هذا؟
القرآن الكريم هو كتاب الله عند المسلم، والطبيعة بكل ظواهرها هي خلق الله، فهل يكمل ديني إذا قرأت الكتاب الكريم، ولم أقرأ معه الكتاب الآخر، وهو هذا الكون الفسيح بما فيه — ما استطعت إلى ذلك سبيلًا — إنك قد تجد من علماء المسلمين المجددين من يدعو الناس إلى هذا، وكأن المسألة منحصرة في دعوات ينادى بها من المنابر، وإلا فلماذا لم يبدأ هؤلاء العلماء بأنفسهم، فيخرطون أنفسهم في سلك الدارسين لجانب أو آخر من كائنات هذا العالم، في جماده ونباته وحيوانه؟ لقد كنت سمعت من صديق لي، هو أحد هؤلاء العلماء المجددين، أن الإسلام يرحب بصعود الإنسان إلى القمر (وكان ذلك الحديث عندما نزل أول رجل على سطح القمر) ثم أنبأني صديقي ذاك أن فضيلة الشيخ … الذي كان — رحمه الله — في طليعة الطليعة من علماء الدين، قد قال في مسألة الصعود إلى القمر: أعطوني تذكرة أسافر بها في صاروخ إلى القمر، تجدوني أول المسافرين، وهذا جميل منه بغير شك، لكني أقولها مرة أخرى: إننا لا نريد للأمر أن يقف عند حد الكلام، فلو كنَّا جادين فيما نقوله، لوجدت منَّا اليوم من يشتغلون بتلك العلوم وتطبيقاتها، جنبًا إلى جنب مع من يفعلون ذلك من بناة هذا العصر.
عندما أهلَّ علينا القرن الخامس عشر الهجري، سألني سائل: كيف تريد للمسلم الجديد أن يكون؟ فأجبته إجابة مستفيضة بما معناه أريد للمسلم الجديد في القرن الخامس عشر الهجري أن يكون على غرار المسلم القديم في مستهل القرن الهجري الأول، فإذا كان المسلمون الأولون قد انكبوا على كتاب الله الكريم قراءة ودراسة — فلنأخذ عنهم في ذلك على الأغلب — بل ولنضف إليه ما وسعنا، ثم إلى جانب ذلك فلنتجه — بمعظم جهدنا — لقراءة «خلق السموات والأرض»، كما أمرنا ربنا أن نفعل؛ لأنه إذا كان الأولون قد صنعوا الكثير بالنسبة للكتاب الكريم فهم لم يصنعوا إلا القليل بالنسبة إلى دراسة السموات والأرض، وإنني لأشعر بأنني عابد لله جل وعلا، إذا قرأت كتابه، وعابد له سبحانه، إذا قرأت خلقه في الأرض وفي السماء، فعظمة الخالق مسطورة بمداد خفي على صفحات الكون جميعًا، وعلى العابد أن يفك الرموز ليزداد بالله إيمانًا على إيمان.
إن لكل امرئ ما نوى، والله أعلم بنيتي، ولست أجد ختامًا لهذه الرسالة يا أخي المصري، بل ويا أخي العربي، ويا أخي المسلم، أفضل من إعادة صرخة كنت صرختها قبل هذا بقلمي، فقلت فيها:
هذه كلمة من القلب، أوجهها إلى أي مصري يصادفها، لأقول له: إنك أنت — يا أخي — وأنا، وجارك، وجاري، ومن شئت من سائر عباد الله، هو آية من آيات الخالق — جل وعلا — خلقه، وعدَّله، وسوَّاه إنسانًا، ليكون قبسًا من نوره في هذه الدنيا، وليكون مسئولًا أمامه — سبحانه — يوم الحساب، فمهما يكن مقدارك بمقاييس الناس، هنا، على هذه الأرض، فمقدارك عند الله، هو نفسه المقدار العظيم، الذي قسمه لمن يحمل الأمانة بعد أن عُرضت على السموات والأرض والجبال، «فأبين أن يحملنها وأشفقن منها» فلو أدركت في نفسك هذه المنزلة السامية، عند من خلقك كما خلق سواك، أدركت الأعماق البعيدة البعيدة، التي تنطوي عليها تكبيرتك عند إقامة الصلاة، وعند كل ركوع وسجود، الله أكبر، فليس غيره في هذا الكون الفسيح من هو أكبر منك إلا هو، لقد قال المسيح — عليه السلام — لمن توارى استصغارًا لنفسه، ما معناه: لماذا تخفي سراجك تحت الغطاء؟ نعم، يا أخي، لقد أراد لك الله أن تكون للنور، فلماذا تحجب عن الدنيا ما قد ألقى به ربك في قلبك من نور؟ إنه إذا خطرت في رأسك فكرة صالحة، فأعلنها في الناس شعاعًا شجاعًا، لينضاف إليه شعاع وشعاع وألف شعاع، ليصبح ذلك كله في حياتنا سراجًا وهَّاجًا يفيض بالنور، وإذا كان في وسعك عمل تؤديه؛ فيصلحك ويصلحنا معك، فقم لساعتك وأنجزه، لينضم إليه عمل، وعمل، وألف عمل، وإذا بأرضنا قد تبدلت غير الأرض، وإذا حياتنا قد تغيرت غير الحياة، لا، لا تقل: ومن أكون أنا في هذا البحر، الزاخر من البشر، لا، لا تقل: إنني عابر سبيل مع الغمار مغمور، لا تقلها، فأنت أنت خليفة الله في الأرض، حملت رسالته لتؤديها، وليس هناك من هو أكبر، إلا ربك وربي، ورب العالمين!
تلك كانت رسالتي، كتبتها إلى أخي المصري، وخطر الموت محدق بالسفينة وراكبيها، والتمست لها زجاجة استودعتها إياها، وأحكمت إغلاقها، وألقيت بها في المحيط، ترى هل تلقَّاها من تلقَّاها؟ أو هي لا تزال تتأرجح مع الأمواج صاعدة هابطة في دنيا العدم؟