جاهل بالسياسة يتحدث عنها
أما الجاهل بالسياسة الذي — رغم ذلك الجهل — يجعلها موضوعًا للحديث، فهو أنا فلست من دنيا السياسة في كثير أو قليل، إنني — بالطبع — أعيشها كما يعيشها الملايين، لكنني لا أملك القدرة على «تنظيرها»، فأنا أعيشها بمعنى أنني كسائر الناس، أنعم، أو أشقى بالحوادث كما تجري، لكن ذلك لا يعني أنني أستشف تلك الحوادث لأرى وراءها كيف تجمَّعت أو تفرَّقت لتنتج ما أنتجته، نعيمًا للناس في حياتهم العملية أو شقاءً، وهل كان يمكن — مثلًا — ألا يشقى مصري بنتائج حرب ١٩٦٧م، وألا ينعم بنتائج حرب ١٩٧٣م. هكذا تتجمع الحوادث أو تتفرق أمامي، كما يتجمع السحاب فجأة أو ينقشع فجأة، لكن رجال الأرصاد الجوية هم الذين يعرفون لماذا حدث ما حدث، وماذا كانت مقدماته وماذا سوف تكون نتائجه، أما أنا وأمثالي من سائر الملايين فيفاجئه المطر إذا نزل، وينعم بالشمس إذا أشعرته بالدفء في فصل الشتاء.
الفرق بعيد بين أن يعيش الإنسان العادي ظاهرة ما، وبين العالم حين يستخرج من تلك الظاهرة ما يكمن فيها من نظرية وقانون، فكلنا يعيش «الماء» يشربه، ويطهو به طعامه، ويغسل به ثيابه، لكن العلماء وحدهم هم الذين يعرفون ممَّ يتركب الماء، وكلنا يتنفس الهواء برئتَيه، ويمشي على رجليه، ويهضم الطعام بجهازه الهضمي، لكن عالم وظائف الأعضاء وحده هو الذي يعرف ماذا يحدث للرئتين إذ هما تتنفسان، وكيف تعمل عضلات الرجلين وما هنالك من عظام ومفاصل، وعلى أي نحو تعمل المعدة والأمعاء حين يتم للإنسان هضم طعامه … ومثل هذه الفوارق، بين أن يعيش الإنسان إحدى حالاته البدنية أو العقلية، وبين أن يتناول العلم تلك الحالات نفسها بالتحليل العلمي والتنظير.
وهذا الذي قلناه لنفرق به بين ممارسة الإنسان لحياته العملية في شتى أوضاعها من جهة، وأن يستخرج العلماء منها «علمًا بنظرياته وقوانينه من جهة أخرى» أمر معروف، أو قل إن معرفته لا تزيد عن معرفة الحروف الأبجدية إلا قليلًا، ومع ذلك فقد صادفت موقفين منذ عهد قريب، وجدت فيهما أعلامًا في الدراسة العلمية، وأعلامًا في الإبداع الفني، يتحدثون كما لو كانوا يجهلون كل شيء عن تلك التفرقة بين الموقفين، فمنذ عهد قريب امتلأت أعمدة الصحافة الأدبية بما أسموه الفلسفة ورجل الشارع، وأسهم في الحديث من يجوز له أن يسهم فيه ومن لا يجوز له ذلك الإسهام لأنه لم يؤهل له، وكان مما لفت النظر حقًّا أن نقرأ لبعض الأعلام في ميدان الدراسة الفلسفية، ما يفيد بأنهم يرون ضرورة أن يشارك رجل الشارع في الفلسفة لسبب عندهم بسيط، وهو أن رجل الشارع «يعيش» فلسفته! ومنذ عهد قريب كذلك، سمعت بعض الأعلام في مجال الإبداع الفني، يقولون ما معناه إن انعكاس البيئة المحلية في عمل الفنان، أمر ليس بذي بال؛ لأنه أمر مفروغ منه، ولماذا هو عندهم مفروغ منه؟ الجواب عندهم هو أن الفنان ورجل الشارع على حدٍّ سواء، «يعيشان» تلك البيئة، فالذي يجب أن يمتاز به الفنان، هو أن يجاوز تلك البيئة لكي يصبح «عالميًّا»، وهكذا فات هؤلاء الأعلام في الحالتين ذلك الفرق البعيد بين أن «يعيش» الإنسان حالة معينة، أو ظاهرة بذاتها، وبين أن يخرج العالم ما يخرجه من تلك الحالات والظواهر «علومًا»، أو أن يخرج الفنان منها ضروب الفن جميعًا.
لقد استطرد بنا الحديث، وكان موضوعنا الذي بدأنا به، هو ذلك الفرق بين أن «أعيش» الحوادث الجارية، وأن أنعم بها وأن أشقى، وبين أن يكون لي القدرة على «التنظير» السياسي الذي يخرج من تلك الحوادث نفسها ما قد أدى إلى حدوثها، وما لا بد أن ينتج عنها، ولقد قررت عن نفسي في فاتحة هذا الحديث، أنني وإن كنت أعيش مع الناس أحداث حياتنا الجارية، بنعيمها وشقائها، فلست بذي قدرة على عملية التنظير العلمي في مجال السياسة.
ولقد مررت في حياتي بخبرات مسست فيها مجال السياسة مسًّا رقيقًا، جعلني أحمد الله حمدًا كثيرًا على أنني نجوت من الخوض في تلك اللجج الرهيبة، وأقل ما أقوله في هذا الصدد، هو أن رجال السياسة ينهجون في عملهم — وربما في حياتهم العملية كذلك — نهجًا لم يخلق له عقلي، فقد حدث في أوائل سنة ١٩٤٦م أن اجتمعت هيئة الأمم المتحدة في أول اجتماع لها بعد إنشائها، عقب الحرب العالمية الثانية مباشرةً، بمدينة لندن؛ لأن مبناها في نيويورك لم يكن قد تم إعداده، ثم حدث لإحدى الدول العربية ألا يكون لها من أبنائها من سمحت الظروف بإرساله إلى لندن لحضور ذلك الاجتماع، إلا ثلاثة أعضاء، ممَّن يصلحون لتمثيل بلدهم في اللجان المختلفة، وكان عدد تلك اللجان ستًّا، فأرسلت سفارة تلك الدولة إلى السفارة المصرية بلندن، تطلب منها — إذا أمكن — اختيار ثلاثة مصريين من الموجودين في إنجلترا، ليكونوا أعضاء في وفد تلك الدولة في أول اجتماع لهيئة الأمم المتحدة، وكان أن اختارتني سفارتنا مع زميلين آخرين، ولبث انعقاد الهيئة الدولية ستة أسابيع، رأيت خلالها مكنة السياسة كيف تعمل وهي في أعلى مستوياتها، وذلك أن ألمع النجوم في دنيا السياسة من أرجاء الأرض جميعًا، كانوا حاضرين، فكانت تلك هي المناسبة الأولى — وربما كانت الأخيرة كذلك — التي «تفرجت» فيها على «السياسة» وهي على مقربة من بصري وسمعي.
فماذا رأيت؟ إني لأطلب المعذرة والمغفرة ممَّن جعلوا السياسة عملًا يرتزقون منه، أو يسعون إلى المجد عن طريقه؛ لأن تلك «السياسة» كما رأيتها في ألمع نجومها يومئذٍ، لم تزد في رأيي عن براءة الحواة، لأنه إذا أشكل على الحاضرين أمر، بحيث اختلفت في شأنه الدول — وخصوصًا القوية منها — فإن السعي كله إنما ينصب على إيجاد «صيغة» يرضى عنها الجميع، فليس الذي حلوه بسعيهم هو المشكلة نفسها كما هي قائمة على أرض الواقع، بل هو الصيغة اللفظية التي يرضى عنها جميع الأطراف، وجميع الأطراف إنما رضيت لأن الصيغة التي انتهى إليها التفكير السياسي، لا تلزم أحدًا بشيء!
وقد استمعت ذات يوم منذ أعوام قلائل، وبمحض المصادفة، إلى حديث في الإذاعة البريطانية، أجراه مذيع مع لورد كارادن، وهو الذي صاغ لمجلس الأمن سنة ١٩٦٧م، بعد حرب العرب وإسرائيل، القرار رقم ٢٤٢ الذي رضي به العرب — أو معظمهم — وإسرائيل معًا، ومع ذلك فنحن نعلم أنه هو نفسه القرار الذي لم يحل من المشكلة العربية الإسرائيلية شيئًا إلى اليوم، أقول إني استمعت إلى ذلك الحديث، وفيه سأل المذيعُ لوردَ كارادن: كيف وصلت إلى صياغة ذلك القرار؟ فأجاب اللورد بما معناه: كان الأمر يسيرًا، فقد سألت الجانب العربي: ماذا تريدون؟ فقالوا: نريد الأرض، وسألت الجانب الإسرائيلي: ماذا تريدون؟ فقالوا: نريد تأمين حدودنا، وبهاتين الإجابتين صنعت القرار، فأحد بنوده يطالب بعودة الأرض المحتلة إلى أهلها، وبند آخر من بنوده يطالب بضرورة أن تكون حدود إسرائيل آمنة، لكننا نسأل: أين هي — إذن — براعة السياسي البارع في هذا؟ والجواب هو أنه عرف كيف يصوغ ألفاظ القرار صياغة يوافق عليها الطرفان، لكن هل حلت تلك الصيغة «البارعة» شيئًا من مشكلتنا كما هي قائمة على أرض الواقع؟ لا، لم تستطع ذلك، فقد وجدت فيها إسرائيل من ثقوب متعمدة، يمكن أن تقول على أساسها إن المنصوص عليه هو أن تعيد «أرضًا» حتى ولو كانت مساحتها شبرًا مربعًا، وكان الظن عند الجانب العربي هو أن إعادة الأرض المحتلة إلى أهلها، لا تحتمل إلا معنًى واحدًا، هو أن تعاد «كل» الأرض المحتلة.
ومن العجيب أن رئيس وزراء بريطانيا السابق، هارولد ولسن، وقد كان زعيمًا لحزب العمال، زار إسرائيل ولم يكن حينئذٍ في الحكم، فسُئل هناك — ولعل ذلك السؤال قد جاء بعد اتفاق سابق — سُئل: هل تعني عبارة إعادة الأرض الواردة في القرار رقم ٢٤٢، كل الأرض أو بعض الأرض؟ فأجاب بقوله: لو كنَّا نعني كل الأرض لقلنا ذلك في القرار.
وتلك هي براعة السياسة كما يراها أصحابها، فتبقى المشكلات على حالها، وتنجح السياسة! على غرار أن يقال في المجال الطبي: نجحت العملية الجراحية، ومات المريض. إنني خلال الأسبوعين الماضيين، تابعت في الإذاعة البريطانية حلقات من مسلسل فكاهي، اسمه «نعم يا وزير» (ولاحظ أن «الوزير» في هذا العنوان لم تسبقه كلمة للسيادة، فلم يجعلوا الاسم نعم يا سيادة الوزير)، وهذا الاسم مشتق من أن الأمين في مكتب الوزير لا يجيب على شيء يقترحه الوزير إلا بهذه العبارة «نعم يا وزير»، والمسلسل كله نقد حاد للوزارة، والحق أني لا أعرف كيف كان مثل هذا النقد الجارح جائزًا في الإذاعة، لكن هذا هو ما سمعته، والمهم الذي أردت ذكره هنا، هو أنني سمعت في الحديث شخصين يتجادلان، ووردت فكرة «الدبلوماسية البريطانية» التي عُرفت بالبراعة، ما هي؟ فقال قائل منهما: هي أن نحطم ما هو سليم، فجادله زميله في ذلك، مطالبًا إياه بضرب المثل، فأجابه بأن ضرب له مثلًا دخول بريطانيا في الجماعة الأوروبية لتخريبها وإثارة العداوة بين أعضائها، فاعترضه زميله قائلًا: إذا كانت بريطانيا قد أرادت تخريب المجموعة، فلماذا دخلتها بادئ ذي بدء، فأجابه: دخلتها لتخربها، فأنت لا تستطيع تخريب شيء وأنت بعيد عنه؟ فأعاد زميله السؤال مصطنعًا الدهشة: ولكن لماذا؟ فأجابه: لكي تكون هناك لبريطانيا تلك الدبلوماسية البارعة التي عُرفت بها خلال فترة طويلة من تاريخها.
إنني لأعترف بكل صدق أنني كثيرًا ما حاولت مع نفسي، أن أحدد المعنى المقصود بكلمة «سياسة» فلم أجد لنفسي جوابًا مقنعًا، وابدأ معي بما يسمونه بالسياسة الداخلية، فابحث الأمر ما شئت، وافحص ما شئت، فلن تجد أمامك إلا مشكلات معينة مطروحة أمامنا تريد لها حلولًا، لكن تلك الحلول لن تكون أبدًا عند «السياسي» إنما هي دائمًا عند رجل العلم في كل ميدان على حدة، فإذا كانت المشكلة اقتصادية فحلها عند علماء الاقتصاد، وإذا كانت مشكلة في التعليم، فحلها عند علماء التربية، وإذا كانت مشكلة تتعلق بالحالة الصحية، فحلها عند علماء الطب بجانبيه الوقائي والعلاجي، وهكذا وهكذا، فإذا تولى العلماء في ميادين اختصاصاتهم حل المشكلات التي تعرض لهم في تلك الميادين، فماذا يبقى ﻟ «السياسي»؟ ذلك عن السياسة الداخلية، وأما ما يسمونه بالسياسة الخارجية، فقرارات يتخذها «الكبار» أو لا يتخذونها، وفي عباءة هؤلاء، يدور «الصغار» حول صياغات لفظية، تُنزَع منها الأشواك التي تخز الجلود، ليبقى السطح الأملس الناعم، الذي لا يؤذي أحدًا، فتوافق عليها الأطراف المتنازعة، وكان الله يحب المحسنين.
إنني مؤمن بالعلم، أولًا وآخرًا، وتأسيسًا على هذا الإيمان أعتقد أن ما لا تحله العلوم من المشكلات بكافة أنواعها، لا تحله التعاويذ، وما يسمونه حلولًا سياسية إنما هو ضروب من التعاويذ، ولست أتمنى للمجتمع الإنساني شيئًا إلا ما تمنَّاه له فرنسيس بيكون في كتابه الصغير، لكنه الكتاب العظيم الذي جعل عنوانه «أطلنطس الجديدة»، وهو ضرب من «المدينة الفاضلة»، غير أنه تصور الدولة المثلى أن تكون قائمة على العلم من ألفها إلى يائها، فبدل أن تكون حكومتها مؤلفة من وزارات كالتي ألفناها: وزارة الخارجية، ووزارة الداخلية، ووزارة النقل، ووزارة التعليم … إلخ، تكون وزارتها كالآتي: وزارة الكيمياء، ووزارة الفيزياء، وهكذا يكون لكل فرع من فروع العلم وزارة تقيم الأبحاث العلمية التي تحل بها المشكلات، وينتج عن ذلك فيما ينتج، أنه بدل أن تصب الحكومة سلطانها على البشر، تصبه على الطبيعة وظواهرها، فتلجمها بالعلم، ويصبح الإنسان سيدًا عليها بدل محاولته أن يكون سيدًا على أخيه الإنسان، وفيما يلي خلاصة شديدة الإيجاز للطريقة التي صوَّر بها «بيكون» دولته المثلى، دولة العلم:
بعد أن وصف الرحلة التي اتجهت بركابها نحو جزيرة أطلنطس نزل هؤلاء الركاب على الجزيرة ليجدوا قومًا غاية في البساطة والنظافة، وعرفوا من أهلها أن أروع ما في جزيرتهم هو ما يسمونه «بيت سليمان» فما «بيت سليمان» هذا؟ إنه هو مقر الحكومة، لكنها حكومة ليس فيها «سياسيون»؛ وذلك لأن مقاليد الأمور كلها في أيدي رجال العلوم، ولست ترى في «بيت سليمان» على أرض «أطلنطس الجديدة» إلا مراكز للبحوث العلمية، وتلك هي الحكومة، وأبواب تلك المراكز مفتوحة أمام أي فرد من أبناء الجزيرة، إذا كان لديه ما يبرر مشاركته في البحوث العلمية، على أن مناصب الدولة، علياها ودنياها، موقوفة على من أثبت جدارة في البحث العلمي على اختلاف ميادينه؛ إن حكومة الجزيرة هي بحق حكومة الشعب للشعب، تديرها الصفوة الممتازة من العلماء: علماء الهندسة، والفلك، والجيولوجيا، والنبات والحيوان، والكيمياء، والفيزياء، والطب، والاقتصاد، والاجتماع، والنفس … إلى آخر قائمة العلوم، ويعرض «بيكون» في كتابه صورة مفصلة لما شهده الزائرون للجزيرة من بحوث علمية قائمة في كل ميدان من ميادين العلم، والهدف البعيد الذي تتجه إليه تلك البحوث، لا يقف عند حدود المشكلات العارضة في حياة الناس، كما هي واقعة، بل إنها لتفعل ذلك ثم تجاوزه نحو ما يكشف للإنسان عن سر الكون العظيم، وإنه لمما يلفت النظر أن أشياء كثيرة جدًّا مما شُغل به الباحثون في «أطلنطس الجديدة» بغية الوصول إلى الكشف عن أسرار الطبيعة، هو مما ظهرت له نتائج فعلية تطبيقية في عصر الناس هذا، مما يشهد لفرنسيس بيكون بالبصيرة النافذة والخيال الخارق، ولقد كتب ذلك الكتاب الصغير العظيم سنة ١٦٢٤م، أي قبل موته بسنتين، وكان آخر ما كتب.
أردت بهذا كله أن أقول إن الكشف عن الحقائق، وحلول ما يعرض لنا من مشكلات، هو من شأن العلم لا من شأن السياسة، ولم يكن بيكون في كتابه «أطلنطس الجديدة» شاطحًا بخياله في عالم المستحيل، ولا كانت فكرته عن قيام حكومة العلماء حلمًا بعيد المنال، ففي حالات كثيرة، حدث بالفعل عندنا وعند غيرنا، أن عُيِّن وزير هو من «العلماء» في المجال الذي نيطت به وزارته، وأظن أن ما أسموه بالمعجزة الألمانية، والتي قصدوا بها إحياء ألمانيا الغربية بعد أن خرَّبتها الحرب العالمية الثانية تخريبًا، ظُنَّ أن لن يكون لها قيام بعده، إنما ترجع إلى جماعة «العلماء» الذين تولوا الحكم في ألمانيا الغربية بعد الحرب، فكان كل منهم أعلم الناس بما يعيد الحياة إلى المجال الذي تولَّى شئونه.
وهنا أعود بحديثي مرة أخرى إلى السياسة والسياسيين، محاولًا أن أعيد رسم الخريطة كما يمكن أن أتصوَّرها، لعلي أفهم ما لم أستطع فهمه من قبل، فليس الأمر كله — في الواقع الفعلي — هو أمر وزراء يتولون بعلومهم رسم الطريق نحو ما هو أرقى وأفضل، إذ يبقى السؤال: ومن الذي يحدد ذلك الذي عددناه أرقى وأفضل؟ بعبارة أخرى: إذا كانت حكومة العلماء من شأنها شق الطريق المؤدي إلى تحقيق الأهداف، فمن الذي يضع للأمة أهدافها؟ وما كدت أضع السؤال أمامي في هذه الصورة، حتى ازددت وضوحًا لحقيقة الموقف، فالذي يضع الأهداف هو — جمهور الشعب — في مجموعه. إن صدور الناس — عامة الناس — تنطوي على أمنيات ورغبات يود الناس لو وجدوها محققة، والأمنيات والرغبات ليست تحتاج من أصحابها إلى «علم»؛ إذ هي شعور مباشر بما ينقص حياتهم، فالجائع لا يحتاج إلى علم يبين له أنه جائع، والمقيدة حريته لا ينتظر علوم الفلك والكيمياء لتشعره بأن حريته مغلولة بقيودها، وهكذا تجيء الأمنيات والرغبات لتضطرب بها صدور الناس، علماء وغير علماء على السواء.
لكن القدرة على صياغة تلك الأمنيات والرغبات صياغة محددة تتخذ شكل «المبادئ» التي يمكن قراءتها وتصورها بالعقل، قدرة لا تستطيعها إلا قلة قليلة، فلنا أن نقول عن هؤلاء إنهم هم رجال السياسة، أو هم الأعلام من هؤلاء الرجال، لأن الكثرة الغالبة من المشتغلين بالسياسة، لم يكونوا هم الذين استقطبوا ما يدور في أفئدة الناس من أمنيات ورغبات، وصاغوها في مبادئ ونظريات، بل إن هذه الكثرة منهم تتبع ما صاغه لهم أعلام المفكرين في ميادين الفكر السياسي. وعلى أية حال، فالنتيجة العملية هي أن من تميزوا بتصورهم النظري الواضح للأمنيات والرغبات التي تموج في نفوس جمهور الناس غائمة غامضة، هم أنفسهم الذين تصدق عليهم صفات «السياسي»، وهم بالتالي الذين يتقدمون لينوبوا عن الشعب في المجالس النيابية. ولما كانت تلك الأمنيات والرغبات، التي يحسها أفراد الشعب ويعبر عنها نوابه من السياسة، قد لا تكون على صورة واحدة عند الجميع، فمن الناس من هو أسرع من الآخرين طيرانًا إلى مستقبل جديد، ومنهم من هو أشد استمساكًا من غيره بما هو قائم، أو حتى بما قد كان قائمًا في الماضي، أقول إنه لما كان جمهور الناس ليسوا على صورة واحدة فيما يتمنونه لحياتهم، نشأت «الأحزاب» ليعبر السياسيون في كل حزب منها، عن الصورة كما يريدونها هم، أصالة عن أنفسهم، ونيابةً عن جمهور الشعب الذي يشاركونه ذلك التصور، وكل الفرق بين الجمهور ونوابه — نظريًّا — هو أن الجمهور يحس الرغبة إحساسًا لا يستطيع ترجمته إلى مبادئ وأفكار، وأما ساسته فذلك التعبير عما يحسونه هو في مستطاعهم.
بهذا الفهم رسمت الخريطة — كما تجلت — أمامي، وخلاصتها إطار قائم على دعامتين: دعامة تحس الأهداف المنشودة وتعبِّر عنها، وذلك هو الجانب النيابي من الدولة، والدعامة الأخرى هي أولئك الذين يناط بهم رسم الطريق إلى تلك الأهداف حتى تتحقق وتصبح حقيقة واقعة، وتلك هي الحكومة التي أتمنى لها، كما تمنى بيكون في أطلنطس الجديدة، أن تكون كلها من «العلماء» بأدق معنى لهذه الكلمة، أي إنني لا أعني بالعلماء مَن حفظوا مادة علمية معينة، بل أعني بتلك الكلمة أولئك القادرين على البحث العلمي، بمناهج ذلك البحث التي يعرفها العلماء المبدعون، وذلك لأن عضو الحكومة مطالَب بما تُطالَب به مراكز البحث العلمي، بالنسبة إلى ما سوف يجده في ميدان وزارته من مشكلات تريد الحل.
الشعب هو الذي يضع الأهداف التي يريد تحقيقها في حياته، وذلك عن طريق نوابه وسائر القادرين على التفكير والتعبير من أعضاء الحزب المعين؛ إذ أهداف الشعب — كما قلنا — قد تتعدد صورها، وبالتالي تتعدد الأحزاب، على أن نتذكر هنا أن اختلاف الناس إنما يقع على الأهداف القريبة، التي هي بدورها وسائل تؤدي إلى هدف قومي بعيد وفي هذا الهدف القومي ينبغي أن تلتقي آمال الأمة بكل أحزابها.
إنه كثيرًا ما يقال إن الوزير رجل سياسي في المقام الأول، وله أن يستعين بمن يستطيعون العون من «العلماء»، لكنني بهذا التصور الذي عرضته أقلب الترتيب، فالوزير «عالم» في ميدان وزارته، ولكنه لا بد أن يستعين بالسياسي — من المجلس النيابي أو من خارجه — في معرفة الأهداف التي يتمناها أفراد الشعب، فالأهداف — كما ذكرت — هي من حق الشعب، وأما خطط تحقيقها فهي واجب العلماء، أو هي — في هذه الحالة — واجب الوزراء العلماء.
إنه ليلفت نظري فرق لغوي، أراه ذا دلالة مفيدة، بين الكلمة الإفرنجية، إنجليزية وفرنسية، وقد يكون في لغات أوروبية أخرى كذلك، التي تقابل كلمتنا العربية «سياسة»، فذلك الاسم عندهم يبدأ بمقطع معناه المدينة، ثم تمتد الإشارة طبعًا إلى من يسكنون المدينة، وهم الجمهور، وبهذا يكون معنى اللفظة عندهم هو: ما يتصل بحياة الناس، وأما الاسم العربي «سياسة» فيثير عندي أسئلة كثيرة، أولها (وأنا هنا أسأل عما لست أعرفه) هل استعملت كلمة سياسة أو سياسي في العصور العربية الأولى، وإذا لم تكن، فمتى دخلت باستعمالها المعروف الآن؟ والسؤال الثاني — وهو أهم — هل يراد بالسياسي أن يقوم بما يقوم به من يسوس الجياد، وبهذا المعنى يكون المراد بالسياسي «ترويض» الشعب على سلوك معين؟ أخشى أن يكون هذا المعنى كامنًا في نفوسنا، عندما استخدمنا هذه اللفظة فيما نستخدمها لتؤديه؛ لأنه لو كان الأمر كذلك، لكان للسياسة عندنا عكس ما للسياسة عند شعوب أوروبا، فبينما هي هناك تعني النظر فيما يتصل بحياة الناس، جعلناها نحن ترويضًا للناس على ما ليس يرغبون فيه، ومن يدري ربما كان من أجل هذا المعنى ﻟ «السياسة» قال الشيخ محمد عبده — فيما روي عنه — لعن الله السياسة وساس ويسوس وسائسًا ومسوسًا.
وللكاتب الناقد الفني «هربرت ريد» مقال عنوانه «سياسة بغير سياسيين» يرحب فيه بالسياسة إذا جاءت راعية للشعب في أمور حياته، لكنه يرفض رجال السياسة الذين يحوِّلون المسألة إلى حرفة يكسبون منها المال والمجد، ويحيطونها بكهنوت يوهمون به الناس، أنهم مستطيعون ما لا يستطيعه كثيرون.
وخلاصة الخلاصة، هي أني لو سُئلت في دنيا السياسة: أي المذاهب تختار؟ لأجبت بأني أختار كل اتجاه يجعل من رغبات الشعب أهدافًا، ومن الحكومة علماء يحققون بمنهجهم العلمي تلك الأهداف.