من خصائص الفكر العربي

١

إذا تحدثنا عن الفكر العربي وخصائصه، فينبغي أن يكون واضحًا منذ البداية أن تمايز الأمم في اتجاهاتها الفكرية لا يتضمن إنكارًا للتجانس بين أفراد البشر جميعًا في فطرة العقل، فالعقل لا اختلاف في طبيعته بين إنسان وإنسان، لكن هذا التجانس إنما هو في بنية العقل وإطار فاعليته، ولا شأن له بالمضمون الفكري الذي يملأ تلك البنية وهذا الإطار، ونقصد ببنية العقل وإطاره تلك القوانين الفطرية التي يعمل العقل على أسسها، وهي القوانين التي حددها أرسطو في ثلاثة: أولها قانون الهوية، الذي بواسطته يستطيع العقل أن يدرك بأن شيئًا معينًا يراه الإنسان الآن، هو نفسه الشيء الذي رآه بالأمس؛ وعلى قانون الهوية هذا يقوم علم الرياضة وتقوم علوم أخرى ومعارف لا حصر لها في حصيلة الإنسان، والقانون الثاني هو أن النقيضين ليس بينهما وسط، فالشيء المعين إما أن يكون هذا النقيض أو ذاك؛ لأنه لا ثالث بين هذين البديلين، كأن نقول عن اللون إنه إما أن يكون أبيض، وإما أن يكون لا أبيض، وهنا نلفت النظر إلى الفرق بين التناقض والتضاد، فأبيض ولا أبيض نقيضان ليس بينهما وسط، وأما أبيض وأسود فضدان، وقد يكون بينهما وسط هو اللون الرمادي، والقانون الثالث هو عدم التناقض، بمعنى استحالة أن يجتمع نقيضان معًا في شيء واحد وفي لحظة واحدة.

تلك هي القوانين الثلاثة التي على أساسها يعمل العقل البشري، وهو متضمنة في العمليات الفكرية التي ينشط بها العقل على تنوعها واختلافها، وهي التي لا ينفرد بها عقل بشري دون سائر العقول، وأما المضمونات التي هي من تلك العمليات الفكرية بمثابة اللُّحمة والسدى من قطعة النسيج، فهي التي تختلف من فرد إلى فرد، وتختلف بالتالي باختلاف الشعوب؛ والأمر في هذا شبيه بقولنا إن أنوال الغزل والنسج واحدة عند البشر جميعًا، لكن المادة المغزولة المنسوجة هي التي تختلف من شعب إلى شعب، فواحد يغزل الصوف وينسجه، والآخر يغزل القطن وينسجه، وأما الأنوال فهي واحدة في الحالتين، وهكذا الحال في تجانس العقل بين الناس، ثم في اختلاف المضمون الفكري وتنوعه، ولولا ذلك الاختلاف والتنوع في المضمون الفكري، لما استطعنا أن نميز الخطوط الفكرية عند أمة كالأمة العربية، من تلك الخطوط عند أمة أخرى، كالفرنسية أو الهندية.

٢

وأول ما يرد إلى الخاطر عند الحديث عن الفكر العربي وخصائصه هو طبيعة المكان الذي يحيا فيه العربي، والذي يمارس العربي فاعليته ونشاطه بين جنباته، وذلك المكان هو الصحراء الممتدة من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي، تتخللها واحات خضراء، تصغر حينًا، وتكبر حينًا آخر لتكون هي الأنهار ووديانها؛ فإذا عرفنا طبيعة ذلك الموطن الصحراوي الذي هو مسرح الحياة والنشاط للأمة العربية جمعاء، استطعنا أن نضع أصابعها على المعالم البارزة التي لا بد أن تكون هناك، مميزة للفكر العربي؛ وذلك لأن فاعلية العقل لا تتحرك في فراغ، بل إنها محصلة التفاعل بين المكان وساكنيه.

وحسبنا في هذا المقام جانبان من طبيعة الصحراء في تفاعلها مع الإنسان، وهما جانبان استخلصتهما ذات يوم، عندما كنت أقرأ وصفًا لرحلة قام بها رحالة أوروبي عبر الصحراء، فكان مما قاله أنه صادف في طريقه كومة كبيرة من علب الصفيح، كانت في الأصل علبًا حُفظ بها الطعام لجيش أوروبي في معارك قتاله، وكان ذلك منذ عدة أعوام قبل اليوم الذي شهدها فيه الرحالة، وهو يقول إن الذي استوقف نظره منها أنها كانت تلمع تحت أشعة الشمس، وليس على صفيحها شائبة من صدأ كأنها خرجت من مصانعها لتوها. وأما النقطة الثانية التي وقفت عندها حين قرأت وصف الرحالة لرحلته الصحراوية، فهي أنه لم يكن في مستطاعه إذا ما أرسل بصره إلى الأفق البعيد، أن يميز بين المرئيات أيها أقرب إليه من أيها، أي إن الامتداد الصحراوي من شأنه أن يمحو المسافة الفاصلة بين شيء وشيء كالذي تراه العين عندما تنظر إلى نجوم السماء، فلا يكون في وسعها — بغير استعانة بأجهزة العلم — أن تعرف بين نجمين أيهما أقرب إليها من الآخر.

وقفت عند هاتين الخاصتين من خواص الصحراء بالنسبة لساكنيها، فلم يكن عسيرًا أن أستدل منهما نتيجتين تظهران في تشكيل الفكر على مدى الزمن، عند أولئك السكان، أما النتيجة الأولى فهي صفة الثبات والدوام، وأما النتيجة الثانية فهي صفة الإطلاق الذي يتخلص من التغيرات النسبية في الأشياء، وبعبارة أخرى أقول إن ساكن الصحراء لا بد له أن يخرج من خبرته في تفاعله مع بيئته بميل يميل به نحو ما هو دائم وثابت، لا يتغير بتغير الأحداث الطارئة من لحظة في مجرى الزمن إلى اللحظة التي تليها؛ كما لا بد له كذلك أن يخرج من خبرة حياته، بميل يميل به نحو مجاوزة الأحداث النسبية العرضية إلى ما هو وراءها من وجود مطلق، لا فرق فيه بين بعيد وقريب؛ ومن هاتين النتيجتين نقول عن الفكر العربي إنه نزَّاع نحو الفكرة الثابتة وراء المتغيرات، ونحو المبدأ المطلق الذي منه تنبثق الكثرة النسبية في القواعد والتفصيلات؛ وعلى هاتين الخاصتين من الفكر العربي سنقيم رؤيتنا إلى واقع الفكر العربي، كما وقع بالفعل إبان تاريخه، لنرى في وضوح كيف تمثلت تانك الخاصتان في تشكيل الرؤية العربية.

ولعل الشاعر العربي القديم قد أجاد التعبير عن رغبة العربي العميقة مجاوزة العوابر الزوائل، التماسًا لما هو ثابت وصامد وأبدي وخالد، حين قال:

ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر
تنبو الحوادث عنه وهو ملموم

٣

وتذكرنا هذه الوقفة العربية من التغير والثبات بوقفة اليونان الأقدمين، فهم كذلك قد بدءُوا تاريخهم الفلسفي بهذه القضية الفكرية ذاتها وهي البحث وراء الظواهر المتغيرة عن الجوهر الثابت الذي لا يتغير، والذي يتجلى في تلك الظواهر المتغيرة، لكن بين العربي واليوناني فرقًا شاسعًا من ذلك البحث عن الثبات والدوام وراء ما هو ظاهر وعابر؛ وذلك أنه بينما اليوناني كان يجعل ذلك الثبات في مبدأ عقلي يفرضه هو لنفسه، ليفسر على مقتضاه كل ما تشاهده حواسه من متغيرات، كان الثبات والدوام عند العربي، هو الله — سبحانه وتعالى — الأحد الصمد الحي القيوم.

ومن هذا الاختلاف في نقطة البدء بين العربي واليوناني في الموقف الفكري لكل منهما، فبينما اليوناني — ومن بعده الفكر الغربي كله — يتصور العلاقة بين المبدأ الأول والمفردات التي تندرج تحته، على غرار ما يتصور النموذج الذي يضعه الصانع ليخرج مصنوعاته على غرارها، وبالتالي تكون درجة الكمال في كل فرد وفي كل كائن مفرد، متوقفة على الدرجة التي يقترب بها ذلك الفرد أو ذلك الكائن المفرد من النموذج الذي كان ماثلًا أمام الصانع، أقول إنه بينما كانت هذه هي الصورة التي تصوَّر بها الفكر اليوناني العلاقة بين المبدأ الأول ومفرداته، كان التصور عند العربي على خلاف ذلك؛ إذ جاء تصوره هذا من حقيقة كون الله سبحانه وتعالى خالقًا، وسائر الكائنات مخلوقات له، ولقد ترتب على هذا الاختلاف أن جاز للفلاسفة في الغرب أن يغيروا ويبدلوا من المبادئ الأولى التي يفترضونها أسسًا تتولد عنها النتائج، في حين أن العربي ثابت على تصوره؛ لأنه حقيقة أُوحي بها إليه، وليست اختيارًا من حقه أن يغير فيه، لكنه إلى جانب هذا الاختلاف الجوهري بين الوقفتين كان هنالك بينهما من التشابه ما لا يمكن إهماله، لأهمية ما ترتب عليه في التاريخ الفكري عند العرب والمسلمين، وهو أن الإطار العام الذي يجعل الحقيقة العامة تأتي أولًا، وتأتي بعدها مفردات الكائنات، هو إطار مشترك بين الجماعتين، ومن هنا سهل على العقل العربي أيام الخليفة المأمون أن يترجموا إلى العربية أهم جوانب الفلسفة اليونانية، وأن يتقبلوها، وأن يجروها في شرايين الثقافة العربية بعد ذلك، وحسبنا أن نحلل الناتج الفكري عند عباقرة الفكر العربي كالجاحظ، وأبي حيان التوحيدي، وأبي العلاء المعري، لنرى كم جاء ذلك الناتج الفكري الجديد وليدًا للعبقرية والعربية مطعمة بغذاء من الفلسفة اليونانية بعد ترجمتها إلى اللغة العربية؛ ولو كان هناك تنافر في الإطار الفكري بين الفريقين لما تقبل الذهن العربي تلك المادة الفكرية المنقولة إليه، كما لم تتقبلها ثقافات قديمة أخرى، كالهندية والصينية مثلًا، ولعل الشاعر الإنجليزي ردياردكبلنج، حين قال عبارته المشهورة: «الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا.» كانت الهند ماثلة له أمام ذهنه، بحكم حياته فيها؛ أما الشرق العربي فقد كان في كيانه العقلي ما يجعله قادرًا على تمثل الثقافة الغربية عندما نقلها هو بنفسه إلى نفسه من القرن الثالث الهجري.

٤

وإنه لمما يلفت النظر في التشابه بين اليوناني والعربي، نتيجة للتشابه القائم بينهما في تركيبة الإطار الفكري، من حيث البدء بما هو حقيقة شاملة ومطلقة، ثم النزول منها إلى الحقائق المفردة والجزئية، وذلك برغم اختلاف العربي عن اليوناني في طبيعة نقطة البدء تلك، أقول إنه لمما يلفت النظر في التشابه بين الجماعتين أنهما معًا قد برعا في الفكر الرياضي براعة بلغت الغاية القصوى في ذلك الميدان، على خلاف ما أبدياه من قدرة محدودة في العلم الطبيعي، وتعليل ذلك هو أن الفكر الرياضي ينصب في الإطار المنهجي الذي رأيناه قائمًا عند اليوناني والعربي كليهما، وأعني الإطار الذي يبدأ بما هو عام وشامل، نزولًا إلى ما ينتج عنه من مفردات جزئية، فكذلك يكون طريق السير في الفكر الرياضي، سواء أكان ذلك الفكر الرياضي في علوم الرياضة ذاتها كالحساب والجبر والهندسة، أم كان في مجالات ثقافية وعلمية أخرى، تختلف موضوعًا، لكنها تتفق منهجًا مع ذلك الإطار، كالفقه الإسلامي، وعلوم اللغة، وعلم الكلام، فكلها يبدأ الفكر فيها مما هو عام، ليُستخرَج منه ما هو جزئي وخاص.

ولا غرابة — إذن — أن نجد المنهج العلمي، كما صاغه أرسطو في نظرية القياس، ملائمًا للفكرين اليوناني والعربي على السواء؛ إذ تقتضي نظرية القياس الأرسطية، التي نقلها العرب فيما نقلوه عن اليونان، بحيث أصبح علم المنطق شرطًا أساسيًّا فيمن يوصف بأنه مثقف أو فقيه أو عالم في أي ميدان من ميادين العلم، أقول إن نظرية القياس الأرسطية تلك تقتضي أن يبدأ العقل بمقدمات مفروض فيها الصدق، ثم منها تولد النتائج الصحيحة وفق قواعد معلومة ومحددة، يعرفها المناطقة ودارسو المنطق.

كانت السيادة المطلقة معقودة للمنهج القياسي، في الحياة الفكرية عند اليونان وعند العرب على السواء، ومِن ثَم كانت لكليهما معًا براعة الفكر الرياضي، وما يجري مع الفكر الرياضي في فلك واحد، بل إنه عندما حدث لرجل ينبغ في العلم الطبيعي، عند أولئك وهؤلاء معًا، مثل أرشميدس عند اليونان، وجابر بن حيان عند العرب، فقد كان ذلك الرجل لا يجد أمامه من سبيل إلا أن يصوغ علمه الطبيعي في قالب العلم الرياضي، بمعنى أن يبدأ فيه بمقدمات عامة مسلم بصحتها بادئ ذي بدء، مع أن العلم الطبيعي محال له أن يزدهر وينتج إلا إذا سار على منهج آخر، يبدأ فيه الباحث بما هو مفرد وجزئي، لينتهي آخر الأمر إلى ما هو عام وشامل من قوانين العلوم، وذلك ما تنبهت إليه النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر الميلادي، فأنشأت إلى جانب المنهج الأرسطي القياسي منهجًا جديدًا يصلح للبحث في ظواهر الطبيعة واستخراج قوانينها العلمية.

٥

من حقنا أن نخلص مما أوردناه من أوجه التشابه ومواضع الاختلاف بين العربي واليوناني إلى النتيجة الآتية، وهي أنهما إذا كانا متشابهين في إطار فكري تتجه فيه حركة العقل من الكلي إلى الجزئي، ومن العام إلى الخاص، ومن المقدمات إلى النتائج، فموضع الاختلاف الرئيسي بينهما هو أنه بينما الأولوية الأولى إنما تكون لمبدأ من وضع العقل، فالأولوية الأولى عند العربي هي لحقيقة يتقبلها الوجدان، ثم يبدأ العقل بعد ذلك في توليد النتائج منها.

وتتفق هذه الأسبقية الوجدانية عند العربي مع جذور فطرته، وما تلك الجذور إلا أن العربي شاعر، إنه شاعر بالسليقة، ثم هو بحكم تلك السليقة الشاعرة يتميز في مقومات شخصيته بما يتميز به كل شاعر عرفته الدنيا أو سوف تعرفه، ولعل أهم صفة تميِّز الشاعر عن سائر عباد الله هي أنه بدل أن يعد نفسه ظاهرة من ظواهر الطبيعة، تراه يؤنسن الطبيعة ليجعلها مندرجة مع الإنسان في وجدان واحد، إن الشاعر لا يرى غرابة في التحدث إلى النجم والبحر والجبل، ولا يرى غضاضة في أن يجد أنسه مع شجرة وجدول وعصفور، فالشاعر يخلع على الطبيعة الخارجية طابعه الداخلي، فينظر إلى كل شيء بمنظار ذاته هو، ويقيس كل شيء بمعياره هو، فنتج عن هذه الوقفة الشاعرة نتيجتان خطيرتان في حياة الفكر عند العربي؛ أولاهما: أنه إذا كانت عبقرية العربي هي في شعره، ثم إذا كان محالًا على الشعر أن ينقل إلى لغة غير لغته، ويظل محتفظًا بكل قيمته، كان العربي بهذا القدر نفسه مجهولًا من الآخرين، فإذا عرفه الآخرون، لم يعرفوه على حقيقته كاملة، ولقد ذكر الجاحظ هذه النقطة في المجلد الأول من كتابه «الحيوان» وأفاض فيها القول، مشيرًا إلى أننا قد يسهل علينا أن ننقل عن اليونان فلسفتهم وعلومهم، وأن ننقل عن الفرس كذا وعن الهند كيت، لكنه محال على تلك البلاد أن تنقل عنَّا أروع ما يمثلنا، وهو الشعر، وأما النتيجة الثانية فهي أن العربي بسبب رؤيته الشاعرة يرى في الأشياء كيفها أكثر مما يسأل عن كمها، ولما كان إدراك الجانب الكمي هو في الصميم من العلم الطبيعي، فالأرجح بناءً على ذلك ألَّا يبرع العربي في علوم الطبيعة، كما كان قد برع في علوم الرياضة، لا بل إنه — بحكم تلك الرؤية الشاعرة — قد جُبل على أن ينظر إلى كل ما يتصل بالطبيعة نظرة ازدراء؛ لأنها «مادة» من جهة وهو مع الروح قبل أن يكون مع المادة، ولأنها «واقع» من جهة أخرى، والواقع كما توحي هذه اللفظة نفسها، شيء وقع، أي هبط وسقط، ولم تعد له رفعة الحقائق الروحانية وسموها.

وعلى ذكر الوقفة الشاعرة عند العربي، وأهمية الشعر في حياته الثقافية، لا بد لنا من الإشارة إلى فروع تفرَّعت عن ذلك الأصل، منها أنه لما كان الشعر بطبيعته يتميز بالعناية باللفظ وطريق سبكه، حتى ليمكن القول بأن الشعر جوهره في شكله لا في مضمونه، أي إن المهم فيه ليس هو ماذا تقول، بقدر ما هو كيف تقول ما أردت أن تقوله، وقد أشار الجاحظ أيضًا إلى هذه الحقيقة عن الشعر، حين قال إنها ليست في المعاني؛ لأن المعاني ملقاة على قارعة الطريق لمن شاء أن يلتقطها، أما سبك تلك المعاني في الألفاظ المنتقاة لها، وفي الصياغة التي تنخرط فيها تلك الألفاظ، فذلك ما لا يستطيعه إلا شاعر، أقول إنه لما كان الشعر ذلك هو جوهره، فقد وجد العربي نفسه محكومًا بفطرته الشاعرة، في شدة اهتمامه باللفظ، اهتمامًا كثيرًا ما يصرفه عن ضرورة أن تكون لذلك اللفظ دلالة تهدي الناس في دنيا الأشياء.

وكان مما تفرَّع أيضًا عن اتجاه العربي بقوته نحو الشعر، أنه ازداد تمسكًا بأن يأخذ نماذجه العليا من التقليد، فالحكم على الشعر بالجودة مرهون بأن يجيء ذلك الشعر على غرار ما نظمه فحول الشعر في الماضي، وإنه لمما يستوقف النظر حقًّا أنه بينما اتجه المسلمون إلى الحط من شأن الجاهلية في كل جوانب الحياة، استثنوا الشعر، وجعلوا مقياس الفحولة في الشعر ما نظمه نوابغ الشعراء في العصر الجاهلي، ولقد رأينا الأصمعي حين أراد أن يحدد مقاييس الفحولة في الشعر، يتخذ شعراء الجاهلية سنده ومرجعه، حتى غدا شاعر عظيم مثل ذي الرمة، مقصرًا دون مرتبة الفحولة؛ لأنه لم ينظم في كل أغراض الشعر التي نظم فيها كبار السابقين، فللشعر العربي عمود، وعلى الشاعر أيًّا ما كان عصره، أن يعتصم بعموده.

٦

قلنا إن نقطة البدء الأولى عند العربي، في شوطه الفكري، هي تلك الحقيقة الكبرى، المطلقة من كل نسبية، الثابتة التي لا تتغير، الدائمة التي لا تزول، وقلنا إنه لا يفرضها هو من عنده كما هو الشأن عند فلاسفة اليونان وهم يفرضون لأنفسهم مبادئهم الأولى، بل إن العربي يتلقى تلك الحقيقة الكبرى وحيًا، ثم يتقبلها بوجدانه إيمانًا وعقيدةً، وقد ترتبت على هذا الموقف عدة نتائج من حياته الفكرية.

فالأحكام الخلقية عنده تهبط إليه من السماء أوامر تطاع، وليست هي — كما هي الحال عند معظم فلاسفة الغرب — مأخوذة لنتائجها النافعة، أو لكونها تعمل على إسعاد الناس، أو لأن الخبرة البشرية قد دلت على صلاحيتها، بل هي أوامر ونواهٍ نزلت مع ما أُنزل على الأنبياء وحيًا، يلتزم بها المؤمنون، حتى قبل أن يفحصوها من زوايا المنفعة والسعادة وما ذهب هذا المذهب، وبهذه النظرة تكون القيم الأخلاقية عند العربي أمورًا مطلقة لا يقال عنها إنها نسبية بالقياس إلى مكان معين وعصر معين، حيث يجوز أن تتغير كلما تغير المكان أو تغير العصر، وكذلك هي عند العربي حقائق موضوعية، وليست مرهونة بميول ذاتية، وهي في موضوعيتها تلك أقوى رسوخًا من الحقائق العلمية ذاتها؛ لأن هذه الحقائق العلمية لا ضير علينا من تغييرها كلما ثبت بطلانها، وأما الحقائق الأخلاقية فيتكيف لها الإنسان وهي لا تتكيف له ولظروف حياته.

ولسنا نشعر في ذلك كله بما يدعونا إلى تساؤل، لكن الذي قد يدعو إلى التساؤل حقًّا، هو أن العربي لشدة تعلقه بموضوعية المثل العليا وإطلاقها من قيود النسبية؛ يمد هذا الموقف حتى يشمل به الشعر، فهو في شعره لا يتغنى بامرأة بعينها في غزله، حتى وإن وجَّه الخطاب إلى اسم معين، ولكنه في الحقيقة يخاطب المثل الأعلى للمرأة، وهو إذ يصف جواده أو ناقته فهو لا يقف عند تفصيلات هذا الجواد المعين الذي هو جواده ولا هذه الناقة المعينة التي هي ناقته؛ بل يصف المثل الأعلى للجواد أو للناقة، حتى ولو لجأ إلى الكائن الفرد الذي بين يديه، وسيلة يتوسل بها للوصول إلى صورة المثل الأعلى.

وكما تبدو منه تلك النزعة المشرئبة نحو الكمال في موضوعيته وفي تجريده وفي مطلقيته، في ميدان الأخلاق، وفي مجال الشعر، فتلك النزعة أكثر ظهورًا وأشد جلاء في ميدان الفن، كالتصوير، إنه هنا لا يرسم «أفرادًا» بتفصيلات الأفراد، سواء أكان الكائن الذي يصوره إنسانًا أم حيوانًا أم نباتًا؛ بل هو يصور «الفكرة المجردة» بمعنى أنه يكتفي من الكائن الذي يصوِّره بالخطوط الخارجية لطريقة بنائه، وكأنه بذلك يحاول أن يرسم، لا الجسد المجسد بحذافيره، بل «المعنى الذهني» لذلك الكائن، فانظر إلى الرسوم على سجادة، أو فيما وردت فيه رسوم توضيحية من الكتب، ترَ شخوص الناس أو الحيوان أو النبات أقرب إلى الأشخاص التخطيطية التي ذكرتها، لتوحي إلى المشاهد ﺑ «الفكرة».

وقد نزداد وضوحًا بالنسبة لهذه النزعة عند العربي في تفكيره إذا تأملنا اتجاهه في الفن نحو الزخارف الهندسية، كالتي نراها — مثلًا — على جدران المساجد وغيرها، أو كالذي نراه من نقوش في الأواني وعلى الأبواب وغيرها، فها هنا نرى الفنان العربي تجريدًا في فنه قبل أن يسمع عصرنا الحالي بالفن التجريدي، وهل هنالك ما هو أمعن في التجريد من أشكال هندسية؟ وهنا نلاحظ حقيقة بالغة الأهمية، وهي أن ميل العربي في فنه إلى تكرار الوحدات، ويقابل ذلك من الشعر تكرار القافية، إنما يشير إلى ما نتوقعه عند المشاهد، من أنه سيظل يتابع بعينه تلك الوحدات إلى نهاية الجدار، وها هنا ينتقل من الواقع المحسوس أمامه، إلى دنيا الخيال فيظل يكرر الوحدة إلى ما لا نهاية، إلى المطلق الذي لا تحده حدود ولا نهايات.

إن إدراك العربي للقيم الأخلاقية والفنية يختلف اختلافًا بيِّنًا عن إدراك الغربي لتلك القيم؛ وذلك أنه بينما يميِّز الفكر الغربي بين ما هو واقع مما هو مثل أعلى ينبغي له أن يتحقق، تميُّزًا يصل به إلى حد القول بأنه من طبائع الأمور أن يكون محالًا على ما هو واقع بالفعل مطابقًا للمثل الأعلى، وإلَّا فَقَدَ المثل الأعلى معناه، وكل ما يطلب مما هو واقع فعليٌّ أن يجعل اتجاه تطوره وتقدمه نحو ما هو مثل أعلى، حتى ولو لم يكن له قط أن يبلغه، أقول إنه بينما يفرق الفكر الغربي هذه التفرقة بين ما هو كائن وما كان يجب أن يكون نرى الفكر العربي في مسألة القيم، قائمًا على أساس أن ما هو واقع لا بد أن يجسد الكمال الأمثل؛ وأن ذلك الكمال لم يخلق لكي يظل أملًا معلقًا في الهواء، بل خُلق ليتحقق على أرض الواقع في الحياة الدنيا، ربما كان هذا الاختلاف في الرؤية بين الفريقين، هو الذي مال بالعربي نحو شيء من الزهد في ملاذ الحياة العابرة، وأغرى أبناء الثقافة الغربية بأن يعترفوا بما هو محتوم على البشر من أوجه النقص، فعاشوا حياتهم على هذا الأساس.

وقد تتضح لنا هذه النقطة في المقارنة بين الرؤيتين إذا أمعنا النظر في بعض الأسماء المتصلة بما نحن بصدد البحث فيه، في اللغة العربية وما يقابلها في اللغات الأوروبية، فالأوروبي يستخدم لفظة «إيديال» للمثل الأعلى، وهي مأخوذة من الكلمة التي معناها «فكرة»، أي إن المثل الأعلى لا يكون إلا في عالم الأفكار فحسب، كما يستخدم كلمة «ريال» لتعني الواقع، وهي مأخوذة من كلمة لاتينية معناها «شيء» أي إن ما هو واقع إنما يقتصر على الأشياء؛ ومعنى ذلك هو أن المقارنة بين ما هو واقع وبين ما هو مثل أعلى هي مقارنة بين «الأشياء» من جهة و«الأفكار» من جهة أخرى، ولن تكون الأشياء أفكارًا، كما يستحيل على الأفكار المجردة أن تطابق واقعها تطابقًا تامًّا.

وأما في اللغة العربية فالأمر مختلف كل الاختلاف؛ إذ إن كلمة «مثل» أو «مثال» تتضمن لغويًّا أن يكون المثل أو المثال أشياء في دنيا الواقع، وكل ما في الأمر هو أن الشيء يكون «مثالًا» لغيره من مفردات جنسه، إذا كان الكمال قد تحقق فيه، فالجواد «المثالي» ليس مجرد فكرة ذهنية عن ذلك الجواد، بل هو جواد حقيقي فعلي مجسد بين الجياد، إلا أنه أكمل من سواه، ولهذا فقد أصبح معيارًا يقاس إليه سائر الجياد؛ وكذلك كلمة «واقع» في العربية تتضمن معنى الهبوط أو الانحطاط إلى الأسفل، وإذن تكون المقارنة — في العربية — بين «المثال» و«الواقع» مقارنة بين شيئين في عالم الحس، أحدهما أكمل من الآخر، على خلاف ما رأيناه في الأسماء باللغات الأوروبية، إذ تدل المقارنة هناك بين «الإيديال» و«الريال» على مقارنة بين أذهان وأعيان، أي بين فكرة ذهنية من جهة وشيء من دنيا الحس من جهة أخرى.

وأظن أن الفرق اللغوي بين الحالتين يبين لنا ما قلناه عن الفرق بين رؤية العربي ورؤية الغربي إلى «القيم»، فالعربي يرى أن القيم بكل سموها يجب أن تتجسد في الأشياء والأفعال، في حين يرى الغربي أن ذلك منافٍ لطبائع الأمور؛ إذ من طبيعة الفكرة الذهنية النموذجية أن تظل أمام الناس هدفًا منشودًا يُقترَب منه شيئًا فشيئًا، وأما أن نتوقع للفكرة أن تتجسَّد بكل كمالها في أشياء وأفعال فذلك بمثابة أن نكلف الأمور ضد طباعها.

٧

وما دمنا نسوق الشواهد من المفردات اللغوية؛ لنستدل الفوارق المميزة للفكر العربي، فذلك يستوجب منَّا وقفة قصيرة عند اللغة العربية وخصائصها؛ فما من شك في أن لغة القوم هي المرآة العاكسة لما جُبلوا عليه من لفتات الفكر والعاطفة وغيرهما من ظواهر الحياة الشعورية واللاشعورية على السواء؛ فإذا رأينا اختلافات جذرية في خصائص اللغة العربية عن خصائص لغة أخرى كالإنجليزية مثلًا، تحتم أن تكون تلك الاختلافات دالة على اختلافات تقابلها في التكوين الفكري والشعوري بصفة عامة عند الأمتين.

وفي مستطاعنا أن نقع على مئات المواضع التي تشير إلى ضروب من الاختلاف بين اللغة العربية واللغة الإنجليزية مثلًا؛ فلماذا تُحتِّم الإنجليزية أن تكون الجملة فعلية دائمًا، في حين تجيز العربية الجملة الاسمية التي لا فعل فيها؟ ولماذا تضع الإنجليزية الصفة قبل موصوفها، في حين نرى عكس ذلك من اللغة العربية؟ ولماذا يجيء الفاعل قبل الفعل في الإنجليزية، في حين يكون الفعل سابقًا للفاعل (غالبًا) في العربية؟ ولماذا يكون التقسيم في العربية إلى مفرد ومثنى وجمع، في حين تستغني الإنجليزية عن المثنى؟ ولماذا؟ ولماذا؟ إلى آخر هذه المواضع التي تختلف فيها اللغتان، وبالتالي يختلف الفكران في هذه الأمة عنه في تلك. وحسبنا هذه الإشارة إلى اللغة ودلالتها على الفكر، فليس هذا المقام مقام القول الفصل في هذا الموضوع.

٨

وفكرة أخرى وأخيرة، نشير إليها إشارة قصيرة عابرة، وهي ما قد تميَّز به الفكر العربي من توسط يجمع الطرفين المتباعدين في نقطة التقاء واحدة؛ فمن ينظر إلى التراث الفكري عند أبناء الغرب في جملته، لا يخطئ أن يرى النزعة المنطقية العلمية غالبة، ومن هنا ازدهر الفكر المجرد في مجال العلم ومجال الفلسفة معًا؛ وأما من ينظر في التراث الفكري عند أبناء الشرق الأقصى — كالهند والصين — فكذلك لا يخطئ أن يرى النزعة الصوفية واضحة، ونعني بالنزعة الصوفية ضربًا من الإدراك للحقيقة، لا ينبني على المنطق العقلي واستدلالاته، بل ينبني على الإدراك الحدسي المباشر، أو قل على إدراك البصيرة، أو إدراك القلب، أو الإدراك الوجداني، أو ما شئت من هذه الأسماء.

لكن انظر إلى الفكر العربي في جملته أيضًا، تدرك في وضوح قدرته الفريدة على جمع الفكر المنطقي والرؤية الصوفية معًا في كيان واحد، ولقد كانت الثقافة العربية هي الوحيدة بين سائر الثقافات، وخصوصًا بعد الإسلام، التي جمعت بين دفتيها في تمثُّل كامل: فلسفة أفلاطون وأرسطو مضافًا إليها علوم اليونان، وتصوف الهند وفارس، حتى بات مألوفًا لنا أن نطالع في تراثنا العربي الفارابي وابن سينا وابن رشد، جنبًا إلى جنب مع الحلَّاج وابن عربي وجلال الدين الرومي.

ولقد أعانتنا اللغة العربية على هضم الغذاءين معًا، على ما بينهما من شقة واسعة من التباين، ففي اللغة العربية طاقة وجدانية جعلتها مهيأة للشعر والتصوف؛ كما أن فيها قدرة على بيان الفواصل الدقيقة بين مختلف المعاني، ساعدتها على التفكير العلمي في أعلى درجاته وأدقها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤