صورتان من القرن الرابع الهجري
والصورتان من دنيا الفكر والثقافة، أردت عرضهما على قارئ اليوم، لتأخذه معي حسرة على زماننا وما أصابنا فيه، أو ما أصبناه نحن به، من تفاهة وضحالة وصغار. ومعياري في هذا الحكم ليس هو الموضوعات التي تشغلنا في حياتنا الثقافية بقدر ما هو اهتمامنا، إلى أين تتجه؟ وكيف؟ وبأي درجة من الشدة والشيوع؟ وليعذرني القارئ إذا أحس في صوتي نبرة التشاؤم وخيبة الرجاء؛ إذ الحق — كما أراه — هو أني كلما قارنت اهتماماتنا الفكرية إبَّان ما بعد منتصف هذا القرن، بما قد كان في حياتنا إما في الأعوام المائة والخمسين السابقة مباشرةً على هذه الفترة الأخيرة، وإما على أي فترة أخرى تختارها منذ القرن السابع الميلادي إلى الخامس عشر، لما وجدتها — أي هذه المرحلة التي جاءت بعد منتصف القرن — تقوى على المنافسة، وإذا صدقت هذه الرؤية، كان الأمر أخطر من أن نلهو به ونتبادل النكات.
قد يكون بعض التعليل لهذه النكسة العقلية التي غمرتنا بموجتها، إنها في الحقيقة جزء من نكسة شملت العالم كله اليوم، وذلك بالرغم من تقدم العلوم والتقنيات — في هذه الفترة نفسها — تقدمًا نقف ذاهلين أمام قفزاته الواسعة، السريعة، الجبارة؛ وذلك لأن العلم وتقنياته شيء، وما نسميه بالفكر والثقافة شيء آخر، فالعلم وملحقاته موضوعه الطبيعة، يعرف سرها، ويستخرج قوانينها، ويلجمها لتصبح ملك يمينه، وأما الفكر والثقافة ففيهما يكون الموضوع هو الإنسان، ولا تناقض بين أن يكون الرجل أكبر عالِم شهدته الدنيا في علوم الذرة — مثلًا — وأن يكون في الوقت نفسه أسفل سافلين من حيث قيمه وأهدافه في حياته وحياة سائر البشر، أقول إن النكسة أو النكبة في الفكر والثقافة موجة شاملة للعصر كله، وما نحن فيها إلا جزء من كلٍّ.
وحسبنا أن نقول عن عصرنا، من ناحية فكره وثقافته، إنه في واقع الأمر لم يبدع شيئًا ذا بال، وإن كل جهوده في هذا الصدد، إنما هي تطوير لأفكار رئيسية أبدعها القرن الماضي، وقد نضيف بضعة أعوام في هذا القرن، وهي أفكار كبار تمثلت في ثلاثة رجال ظهروا في منتصف القرن الماضي، ورابع ظهر في أواخره، وأما الثلاثة فهم: دارون وفكرة التطور، وماركس وفلسفة التاريخ، وفرويد وتحليله للإنسان، وأما الرابع فهو أينشتين وفكرة النسبية، هذا صحيح بالنسبة إلى العالم كله، لكنه أكثر انطباقًا علينا نحن؛ لأن العالم المتقدم إذا كان قد فاته الإبداع الأصيل، واكتفى بتطوير ما أبدعه له رجال القرن الماضي، فنحن قد فاتنا الإبداع الأصيل، وفاتنا معه مشاركة العالم المتقدم في ذلك التطوير.
ولم نكن بهذه الخيبة كلها خلال المائة والخمسين عامًا، لا لأننا قد أبدعنا شيئًا قدمناه للعالم، كلا؛ إذ يبدو أن مثل هذه الريادة قد هجرتنا ولو إلى حين، بل لأننا كنا ذوي اهتمام شديد بما يجري في سائر أنحاء العالم المتقدم، نتابعه خطوة خطوة، وأما في مرحلتنا الراهنة فبيننا وبين هذه المتابعة أميال وفراسخ، وذلك بسبب واضح وبسيط، وهو أن الممسكين — في دنيا الفكر والثقافة — ببوصلة الاتجاه وبدقة التوجيه، قد اختاروا لأنفسهم ولنا، وجهة غير الغرب والشمال، فأخذوا يوجهون السفينة نحو ما اختاروه.
ومع ذلك فحتى لو سايرناهم في الوجهة والاتجاه معًا، ثم جعلنا معيارنا في الحكم على ما نحن فيه قائمًا على درجة الاهتمام — بغض النظر عن الموضوع — لوجدنا حياتنا الفكرية والثقافية أدعى إلى اليأس. نعم لقد شهدنا في هذه الفترة الزمنية التي نتحدث عنها، من مؤسسات لنشر الفكر والثقافة، ما لم نشهد مثله في الفترات السابقة، فهناك وزارة بأسرها للثقافة، وهناك وزارة أخرى بأسرها للإعلام — وهو متصل بعملية التثقيف بسبب وثيق، ولدينا مجالس للثقافة وما يدور حولها — كالمجلس الأعلى للثقافة، والمجلس القومي للثقافة، ولكنني — كما أسفلت — إذا جعلت معيار الحكم جدية الاهتمام بما هو جاد، ثم إثارة ذلك الاهتمام الجاد نفسه في مجموعة كبرى من الناس، لا مجرد تسديد خانات وتملق الجماهير، لما ترددنا في صحوة نستيقظ بها من سُباتنا قبل أن تتسع رقعة الخطورة والخطر.
ولقد أردت بهذه المقالة التي بين يديك أن أعرض لك صورتين أخذتهما من الحياة الفكرية والثقافية لأسلافنا في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) لأبين لك كيف كانت الحال عند هؤلاء الأسلاف. أما الصورة الأولى فتصور نوعًا من التعاون الفكري بين عملاقين من نوابغ الفكر والثقافة في تلك الفترة المختارة، قلَّ أن تجد له نظيرًا. والرجلان هما أبو حيان التوحيدي وأبو علي مسكويه، أولهما جمع عددًا كبيرًا من الأسئلة التي يبحث لها عن إجابات، ثم وجَّه أسئلته إلى زميله مسكويه ليجيب له عنها، وسنعود بعد قليل إلى التفصيل. وأما الصورة الثانية فهي مناظرات قد لا نجد ما هو أقوى منها دلالة، على ما شهده ذلك العصر — وهو يشبه ما يشهده عصرنا الراهن — من صراع فكري بين من يناصر فكرًا منقولًا عن أوروبا (وأوروبا كانت في تلك الحالة هي اليونان) ومن يرفض ذلك الفكر المنقول اكتفاءً بما هو أصيل في الثقافة العربية.
ولنبدأ بعرض الصورة الأولى في شيء من التفصيل، وهي مأخوذة من كتاب «الهوامل والشوامل» وعنوان الكتاب دال على موضوعه، فقد كان أبو حيان التوحيدي جمع عددًا كبيرًا من الأسئلة التي أثارتها في رأسه مشاهداته وخبراته، وأطلق على تلك المجموعة اسم «الهوامل»، ومعنى الهوامل الإبل التي يهملها صاحبها ويتركها لترعى منتشرة ومتفرقة، فلما وجَّه تلك الأسئلة إلى مسكويه ليجيب عنها، جمع مسكويه أجوبته وأطلق عليها اسم «الشوامل»، ومعناها حيوانات يوكل إليها ضبط الهوامل حتى لا تضل طريقها.
ولا بد لنا من أسطر قليلة نصوِّر بها شخصية أبي حيان وشخصية مسكويه، فذلك — عندي — يعين كثيرًا على الفهم، بل إني كثيرًا جدًّا ما أحاول أن أجسِّد من أقرأ عنهم وما أقرؤ لهم، في أشخاص من حياتي الخاصة؛ لأزداد فهمًا ووضوحًا.
فأبو حيان التوحيدي «مثقف» من أعلى طراز نعرفه اليوم من «المثقفين»، وأعني بهم هؤلاء الذين يجمعون في أنفسهم جانبين: أولهما تلك «الحالة» من التهذيب ورهافة الحس، وهي حالة يستمدها صاحبها من ثلاثة مصادر رئيسية، هي الدين والفن والأدب، ولو اكتفى الرجل بتلك الصفة وحدها، لحُقَّ له أن يعد مثقفًا بدرجة تعلو وتهبط بمقدار ما قد اكتسب من قيم روحية وذوقية، لكن هنالك صفوة من الرجال (ولاحظ هنا أنني لست ممن يخشون استعمال كلمة «الصفوة» وكأنها رجس). أقول إن هنالك صفوة من الرجال، تراهم يجمعون إلى اكتسابهم لتلك الحالة الروحية الذوقية التي أشرت إليها صفات أخرى تتصل بالجانب العقلي، ومن أهمها حب الاستطلاع، والدأب على السؤال ومحاولة استكشاف المجهول، وتوضيح الغامض وتحليل الموقف المركَّب إلى عناصره، ورد تلك العناصر إلى أصولها وتعليل الظواهر النفسية والاجتماعية أو محاولة تعليلها، ومن هؤلاء الصفوة من المثقفين كان أبو حيان التوحيدي، وسأبين لك بعد قليل كم جاءت أسئلته التي استجوب عنها مسكويه — وكان عددها مائة وخمسة وسبعين سؤالًا — شديدة التنوع، مما يدل على سعة الأفق الذي كان يتحرك فيه أبو حيان بذهنه وحواسه وانتباهه واهتمامه.
وأما مسكويه فقد كان من ذلك الصنف من الدارسين الذين يركزون أنفسهم في اتجاه واحد، وحتى في هذا الاتجاه الواحد تجدهم على كثير من ضيق الأفق، ومحدودية المجال والرؤية، فبينما كان أبو حيان عريض الثقافة مع لمسة قوية من الفلسفة، وحس مرهب للعبارة الأدبية، كان مسكويه متخصصًا في الفلسفة — إذا جازت صفة التخصص هذه على القدماء — بل إنه في ميدان الفلسفة قد ضيَّق على نفسه المجال واختص بفلسفة «الأخلاق» دون سواها، ولم يدل أسلوبه في الكتابة على درجة ملحوظة من الحس الأدبي.
فلماذا اختاره أبو حيان ليوجه أسئلته إليه؟ أغلب الظن عندي أنها لم تكن غزارة العلم هي التي قصد إليها أبو حيان عند مسكويه، بل هي مكانة مسكويه العليا، وجاهه العريض، وثراؤه، فضلًا عمَّا كان عند الرجل من علم، إن لم يكن غزيرًا فهو علم يضعه في مكانة لها جلالها ووقارها واحترامها، فقد كان مسكويه وزيرًا بالإضافة إلى اشتغاله بالفلسفة؛ وأما أبو حيان فكان ذا عوز، يلتمس العطاء عند من يستطيع عطاءً، ودليل ذلك هو أنه — فيما يبدو — لم يجد عند مسكويه بغيته من المال، وكان كل ما جاءه من مسكويه هو «الشوامل»، وأعني الأجوبة على الأسئلة التي وجهها إليه. فنعته بالجهل وحصر اللسان، إذ قال عنه عبارة اشتهرت بعد ذلك، فقال عنه إنه «فقير بين أغنياء، وعيي بين أبيناء» (ولاحظ هذه الكلمة العجيبة «أبيناء» أي أصحاب البيان)، كان مسكويه أوسع شهرة، وأعز جاهًا، وأوفر مالًا. لكن أبا حيان التوحيدي كان أبعد نظرًا، وأرحب فكرًا وأنصع بيانًا، جاءت كلها على فقر وحاجة، ولقد كان الرجلان متقاربين في العمر، وإن يكن مسكويه يكبر أبا حيان ببضع سنين، وعمَّر كلاهما إلى التسعين وما بعدها بقليل.
وأسوق لك بضعة أسئلة من «هوامل» أبي حيان، نقلتها كما اتفق لترى كم تنوعت اتساعًا وارتفاعًا، فتجد فيها ما هو مسألة عويصة في التفكير الفلسفي أو اللغوي أو العلمي بصفة عامة، كما تجد فيها أسئلة عن مشاهدات استوقفت أبا حيان من ظواهر الطبيعة أو من صور الحياة الجارية.
كان السؤال الأول عن الفرق في اللغة بين «العجلة» و«السرعة»، وكان السؤال الثاني عن مسألة نفسية خلقية معًا، فهو يسأل لماذا حرص الناس على كتمان السر؟ أخذت أقلب النظر في الصفحات فرأيت سؤالًا عن الرعد والبرق، لماذا نرى البرق قبل أن نسمع صوت الرعد؟ ما الدليل على وجود الملائكة؟ لمَ صارت مياه البحر ملحًا؟ لم صارت الأنفس ثلاثًا؟ ما العدم؟ ما سبب مَن يدعي العلم وهو يعلم بأنه لا علم عنده؟ سؤال عن ذات الله وصفاته. لماذا تكره النفس الاستماع إلى حديث معاد؟ سؤال عن النثر والنظم. لمَ يضيق الإنسان بالراحة إذا توالت عليه؟ وهكذا.
وأما أجوبة مسكويه فنكتفي بذكر أجزاء من إجابته على سؤال طريف، يسأل فيه أبو حيان عن العلة في أن البيت المهجور يتداعى أسرع من البيت المعمور بساكنيه، مع أن العكس كان أولى؟
قال مسكويه: «إن معظم آفات البنيان، يكون من تشعيث الأمطار، وانسداد مجاري المياه، بما تحصله الرياح في وجه المآزيب ومسالك المياه التي ترد المياه إلى أصول الحيطان من خارج البناء وداخله، وبما ينثلم من وجوه البنيان الكريمة، بالآفات التي تعرضها لحركات الهواء والأمطار والبرد والثلوج. وربما كان سبب ذلك قصبة أو هشيمًا من بين الطين الذي تطيره الأرواح (= الرياح) إلى مسالك الماء، فتعطف الماء إلى غير جهته، فيكون به خراب البنيان كله.
فأما ظهور الهوام في أصول الحيطان، والعناكب في سقوفه وأخذها من الجميع ما يتبين أثره على الأيام فشيء ظاهر، وذلك أن هذا الضرب من الخراب قبيح الأثر جدًّا، ينبو الطرف عنه، ويسمج به البناء الشريف، وربما أغفل السكان بيتًا من عرض البناء، إما بقصد أو بغير قصد، فإذا فتح عنه، يوجد فيه من آثار الدبيب: من الفأر، والحيات، وضروب الحشرات، التي تتخذ لها أكنة، بالثقب والبناء، كالأرضة والنمل، وما تجمعه من أقواتها، ومن نسج العنكبوت وتراكم الغبرة على النقوش ما يمنع من دخوله … إلخ.»
أما الصورة الثانية التي أردت تقديمها، فهي ليست كالصورة السابقة: الأسئلة كلها تجيء من طرف، والأجوبة كلها تجيء من الطرف الآخر، وكان الحوار يجري مكتوبًا على الورق، لا بل لم يكن في الحقيقة حوار، وإنما كان استجوابًا من أبي حيان إلى مسكويه، جُمعت الأسئلة كلها في كتاب هو «الهوامل»، وجاءت الأجوبة كلها في كتاب هو «الشوامل» دون أن يلتقي السائل بالمجيب. وأما الصورة الأخرى التي أردت تقديمها فهي مناظرة بين رجلين، كلاهما فذٌّ في ميدانه، أمام جمهور من علية القوم في بغداد إبان القرن الرابع الهجري وأعلى رجال الفكر والفلسفة واللغة فيه، وفرق آخر بين الصوتين: فالأولى التي أسلفناها، كان قوامها شتيتًا من موضوعات كلها مسائل عرضت لرجل واحد، هو أبو حيان التوحيدي، وأما الصورة الثانية التي أنتقل الآن إلى عرضها فمناظرة حول موضوع واحد.
قامت المناظرة بين أبي سعيد السيرافي من جهة وأبي بشر متى بن يونس، من جهة أخرى. وأما الموضوع فهو عن المنطق اليوناني الذي برع فيه أبو بشر متى، فهل يصلح ذلك المنطق، الذي أُقيم أساسًا على طرائق البناء اللغوي عند اليونان، أقول هل يصلح ذلك المنطق إذا ما نُقل إلى قوم آخرين — ثقافة أخرى — ولغة أخرى، هي في هذه الحالة اللغة العربية؟ أو أن ما يصلح للغة العربية من ضوابط، إنما هو النحو العربي لا المنطق اليوناني؟ إنه موضوع — كما ترى — قد لا يثير اهتمامًا إلا عند الفئة القليلة المشتغلة بالفلسفة وعلوم اللغة، لكني برغم ذلك أردت عرضه موجزًا لسببين: أولهما أن الذي دعا إلى إقامة هذه المناظرة، هو الوزير الفضل بن جعفر بن الفرات، وجعلها تقام في قصره ببغداد، ودعا إليها أصحاب المكانة في دوائر الحكم وفي دوائر العلم جميعًا، وإني لأسأل كم وزيرًا في عصرنا هذا يضيف إلى حبه للسلطة والحكم حبًّا آخر لمثل هذه المسائل العلمية الدقيقة العميقة الجادة؟ وإنما أسأل هذا السؤال لألفت الأنظار إلى اتجاه «الاهتمام» ودلالته؟ فإذا رأيت الوزير في عصر ما حريصًا على أن يضع نفسه في قلب الحركة الثقافية عرفت أن الدنيا بخير، وأما إذا رأيت الوزير في عصر آخر مستعليًا على العلم والعلماء، والثقافة والمثقفين، أيقنت أن الدنيا صائرة بأصحابها إلى دمار وموت.
تلك إحدى اثنتين، مما جعلني أقدم صورة مصغرة لما جرى في تلك المناظرة — كما أراه — نموذج نادر لصور التصادم بين ثقافتين: أصيلة ووافدة، فقد نقل العرب فلسفة اليونان يومئذٍ، ومنها علم المنطق كما صاغه أرسطو اليوناني، وكان لتلك الفلسفة المنقولة أثر عميق في الفكر العربي، بل وفي الشعر العربي ذاته، لكن القلق أخذ يساور نفرًا من علماء العرب، خشية منهم أن يكون ذلك «الغزو الثقافي» (بلغة يومنا) موديًا بثقافة العرب إلى الضعف ثم الفناء، إن ذلك النفر لم ينظر إلى نقل الثقافة اليونانية إلى العربية على أنه عامل قوة، بل رآه عامل تدمير، على نحو ما يرى بعضنا اليوم بالنسبة لما ننقله من ثقافة الغرب وفكره وفنه، لكن بينما نحن اليوم نهاجم الناقلين بالتكفير والخيانة، ها نحن أولاء نرى أسلافنا يلجئُون إلى «مناظرات» علمية تقام في قصور الأمراء والوزراء ليكون القبول أو الرفض قائمًا على معرفة لا على الشتم والتشهير والعدوان.
وبعد ذلك فلننظر إلى لب المشكلة بإيجاز، كلنا يعلم أن «النحو» هو مجموعة القواعد التي تضبط سلامة التركيب اللغوي، وشكل المفردات الداخلة في ذلك التركيب، فإذا كنَّا نريد جملة تشير إلى ورقة بيضاء، وقلنا هذه ورقة بيضاء، كان ترتيب المفردات هنا متفقًا مع قواعد النحو في وضع الصفة والموصوف، ويخرج على القواعد من يقول هذه بيضاء ورقة، وكذلك تقتضي قواعد النحو — عند النطق بهذه الجملة — أن تكون كلمة «ورقة» مرفوعة بالضم، وأما المنطق فكل من درسه منَّا يعلم أنه يستهدف الاستدلال الصحيح — إذا ما أردنا استخراج جملة من جملة — أو معنًى من معنًى، وهو يمهد لعمليات الاستدلال الصحيحة بدراسات لضبط القضايا (أو الجمل ذوات المعنى) والحدود التي تتركب منها تلك القضايا.
وكان العرب قبل أن ينقلوا إلى لغتهم فلسفة اليونان — وتتضمن المنطق — يعرفون لغتهم ونحوها، ويعرفون كيف يستدلون استدلالات صحيحة، دون أن يقوموا بتنظير القواعد التي يضبط بها استدلال نتيجة من مقدماتها (وهذا هو عمل المنطق). فلما درس الدارسون منطق اليونان وأخذوا يعلِّمونه لمن أراد أن يتعلم، وكان من بين هؤلاء الفيلسوف أبو نصر الفارابي، ومنهم صاحبنا أبو بشر متى بن يونس، الذي لم يكف في دروسه لتلاميذه عن قوله: «النحو مع اللفظ، لا مع المعنى.» فكان مثل هذا القول يثير الغيظ في علماء اللغة والنحو، ومن هنا تصدى له اللغوي النحوي أبو سعيد السيرافي، الذي كان بدوره يهاجم أبا بشر متى بن يونس، متهِمًا إياه بأنه لا يحق له الكلام في موضوع النحو العربي أو المنطق اليوناني؛ لأن أولهما قائم على معرفة اللغة العربية، وثانيهما قائم على معرفة اللغة اليونانية، وأبو بشر جاهل باللغتين جميعًا.
أُقيمت بين الرجلين تلك المناظرة التي أشرنا إليها، والتي حضرها عدد كبير من العلماء وأصحاب الشأن. وساد شعور بين الحاضرين بأن الأمر ليس مجرد مقابلة بين نحو ومنطق، بل الأمر في حقيقته مقابلة بين ثقافتين، ولأيهما تكون السيادة على الأخرى. والظاهر أن حكم الجمهور كان قد أُبرم قبل أن يبدأ المتناظران في الكلام، وكان ذلك الحكم المسبق في صالح أبي سعيد السيرافي اللغوي، وضد متى بن يونس المنطقي، لماذا؟ لأن شخصية الأول تلقى القبول منذ اللحظة الأولى، بقدر ما تثير شخصية الثاني نفورًا، فالأول في الأربعين من عمره، وأما الثاني فكان قد جاوز الخامسة والسبعين من عمره — وكان مخمورًا دائمًا — وأحيانًا كان لا يعي ما يقول، فضلًا عن الخسة التي كانت تبدو في سلوكه مع تلاميذه، إذ كان لا يعطي ورقة إلى أحدهم إلا إذا دفع درهمًا، ولم يكن فوق ذلك كله حسن الهندام ولا نظيف الثياب.
أما وجه الحق بينهما فهو — في رأي كاتب هذه السطور — مع أبي بشر متى بن يونس بلا ريب، في أن نحو اللغة شيء، ومنطق العقل شيء آخر، وأقل ما يقال في هذا أن النحو خاص بلغة بعينها، وأما المنطق فللفكر، للناس جميعًا؛ ويستطيع المنطق أن يستغني عن ألفاظ اللغة كلها — عربية وغير عربية — وأن يستخدم الرموز الخالية من المعاني، كما هو الشأن فيما يسمونه اليوم بالمنطق الرمزي، أو بالمنطق الرياضي.
ومع ذلك فقد وقع الرجلان معًا في خلط — كما يرى كاتب هذه السطور أيضًا — ولو كانا معًا قد تنبها إلى موضع ذلك الخلط لما دارت بينهما المناظرة أساسًا، وذلك أنهما لم يفرقا بين المستوى «العلمي» والمستوى «الفلسفي» في الموضوع الواحد، فإذا كان موضوع البحث هو «اللغة» كما هو الشأن في هذه الحالة التي بين أيدينا، كانت القواعد — نحوية وغير نحوية — هي عند المستوى «العلمي»؛ لأنها بمثابة القوانين المستخلصة من الظاهرة المبحوثة (والظاهرة المبحوثة هنا هي «اللغة»)، وذلك هو شأن «العلم» في أي ميدان من ميادينه. وأما إذا جاوزنا تلك القواعد ذاتها للنظر فيما تنطوي عليه من «مبادئ» أي ما تنطوي عليه من «صور أولية» وجدنا أنفسنا عندئذٍ في مجال «المنطق». فلو فرضنا — مثلًا — أن هنالك عند مختلف الشعوب مائة لغة. كان هنالك بالتالي مائة مجموعة من قواعد النحو؛ لأن لكل لغة نحوها الخاص، ولكننا إذ نجاوز تلك المائة من مجموعات القواعد النحوية إلى ما يكمن وراءها من أصول، أو مبادئ أو صور أولية، وجدناها جميعًا تلتقي عند جذور مشتركة واحدة من مبادئ الفكر، وتلك المبادئ المشتركة بينها هي بعينها علم المنطق.
فلو تنبَّه الرجلان — أبو سعيد السيرافي اللغوي وأبو بشر متى بن يونس المنطقي — إلى هذه التفرقة بين ما هو «علم» للغة يختلف بين عرب ويونان، وما هو «فلسفة» — أي ما هو مبادئ أولية — لما وجد الرجلان وجهًا للتناظر، فأبو سعيد يقف بنحوه عند «قواعد» اللغة العربية، وأبو بشر يتحرك في المجال الأعمق، وهو المنطق الذي يضم قواعد اللغة العربية وقواعد اللغة اليونانية وقواعد أي لغة في الدنيا، وإذا كان هذا هكذا، ففيمَ يتناظر الرجلان، وكل منهما يتحرك في مجال غير الذي يتحرك فيه زميله؟
أما بعد، فهاتان صورتان من الحياة الثقافية كما كانت بين العرب الأقدمين في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، وأود لو سأل القارئ نفسه: أين من تلك الحياة، في عمقها، وجديتها، حياتنا نحن الثقافية في اكتفائها بخلاصات مخطوفة، لا هي تغني من فقر، ولا تسمن من هزال؟