والنقط كذلك تحت الحروف
في الأبجدية الإنجليزية حرفان فقط هما المنقوطان، والنقطة في كلتا الحالتين توضع فوق الحرف، وهي تختفي كلما جاء ذلك الحرف «رأسًا» (كما يصفونه) ويكون ذلك إما وحرف الرأس قد جاء موضعه أول الكلام، وإما أن يكون هو الحرف الأول في أسماء الأعلام، والمهم عندي الآن، في سياق هذا الحديث، هو أن حرفين اثنين فقط هما المنقوطان في تلك الأبجدية، وأن النقطة في جميع حالاتها فوق حرفها، ومن هنا دأب أصحاب اللغة الإنجليزية على استخدام العبارة التي ابتكروها لأنفسهم ولحروفهم وهي عبارة «وضع النقط فوق الحروف» إشارة منهم إلى وجوب أن يكون الكلام واضحًا وخاليًا من اللبس، كما يكون الحرف المنقوط منقوطًا، خشية أن يلتبس أمره على القارئ إذا غابت عنه نقطته.
وجئنا نحن فنقلنا عبارتهم المجازية تلك، نقل مسطرة، حتى شاعت العبارة بين المتحدثين والكُتَّاب؛ فيقولون لك إنهم يضعون النقط فوق الحروف، ولكن ماذا لو كانت أبجديتنا العربية تشتمل على ثلاثة حروف منقوطة تحتها لا فوقها، وهي الباء والجيم والياء؟ (واعلم أيضًا أن في أبجديتنا اثني عشر حرفًا تجيء النقط فوقها) فلو أن الكاتب أو المتكلم الذي نقل تلك العبارة المجازية عن الإنجليز، قد تنبَّه إلى أن موقف الحروف عندهم يختلف بعض الشيء عن موقفها عندنا، لتحوَّط للأمر، والتمس طريقًا يتيح له أن ينتفع بما عند الآخرين، وذلك بأن يعدِّله تعديلًا يتناسب مع ما عندنا، فبدل أن يقول أضع النقط فوق الحروف، يكتفي بالقول أضع نقط الحروف؛ لتشمل ما فوقها وما تحتها جميعًا.
قد ترى — وربما رأيت معك — أن المسألة هنا أتفه من أن تثير الاهتمام، لكنني لم أردها لذاتها؛ بل أردت أن أتخذ منها رمزًا أشير به إلى مواقف حضارية وثقافية لها أهميتها وخطورتها، ومع تلك الأهمية وهذه الخطورة ترانا قد فعلنا بها ما فعلناه في نقط الحروف، وأعني أننا نقلنا ما عند الآخرين إلى حياتنا نقل مسطرة وتجاهلنا ما كانت تقتضيه ظروف حياتنا من وجوب التعديل، بمعنى أن ننتفع بما عندهم بعد أن نعيد صياغته قليلًا أو كثيرًا بحيث يصبح شاملًا لما هو عندنا أيضًا.
ففي المناخ الفكري القائم في عصرنا هذا، سؤال مضمر كثيرًا ما يحفز على التفكير، وقد تختلف عنه الإجابات، وإن يكن معظم من تعرضوا للإجابة متفقين على رأي، هو نقيض الرأي الذي كانت له السيادة المطلقة حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، والسؤال المضمر الذي أشرت إليه خاص بالثقافة، ومعاييرها؛ فهل لكل عصر معين ثقافة «رفيعة» واحدة، وهي — عادةً — ثقافة الأقوى؟ أو أن الثقافة ليست كالعلم، فبينما العلم واحد للجميع، فلا فرق بين علم الكيمياء أو الفيزياء عند الإنجليز وبينه عند الياباني أو المصري، ترى الثقافة تتعدد صورها ومعاييرها بتعدد الشعوب، فالموسيقى أو التصوير أو الشعر عند الإنجليز ليست كمقابلاتها عند الياباني أو المصري، وإذا كان ذلك كذلك فلا ينبغي بشعب أن ينقل «الثقافة» في أي صورة من صورها، عن شعب آخر؛ فلكل شعب حياته بما يملأ ذلك؛ الحياة من خبرات أسعدته أو أشقته؛ ولكل شعب رؤاه التي نظر بها إلى الكون وإلى الإنسان، وإلى عالم الغيب، وغير ذلك وما «الثقافة» عند أي شعب إلا التعبير عن تلك الخبرات وهذه الرؤى.
غير أن المعارضين لهذا التعدد الثقافي عند مختلف الشعوب؛ إذ يعترفون بوجود التعدد من حيث هو حقيقة واقعة لا سبيل إلى إنكارها، تراهم يصرون على أن ذلك لا يمنع التفاوت — ارتفاعًا وانخفاضًا — بين الثقافات المختلفة، فلئن كان لكل شعب موسيقاه — مثلًا — إلا أنه ليست كل موسيقى مساوية لموسيقى بيتهوفن وباخ وبرامز وشوبان؛ وليس السؤال المطروح أساسًا هو: هل تتعدد الثقافات في الواقع أو لا تتعدد؟ لأن تعددها أمر قائم يراه كل ذي بصر، ويسمعه كل ذي سمع؛ بل السؤال المطروح هو: هل «تتساوى» تلك الكثرة الثقافية، أو أنها تتفاوت بين الارتقاء والتخلف؟ وأهمية السؤال في صورته الثانية هي أنه إذا ثبت ذلك التفاوت بين مختلف الثقافات، أصبح محتومًا على كل شعب يريد التقدم، أن يأخذ الثقافة الأرفع، وهو مغمض العينين.
أقول إنه حتى نهاية الحرب العالمية الأولى لم يكن أحد ليأخذه شيء من الارتياب، بأن هناك بين الثقافات ما هو أعلى وما هو أدنى، وأن الأعلى هو ما يأخذ به الإنسان الأبيض ساكن الغرب، فمن شاء من سائر الشعوب الملونة: الأسود منها والأسمر والأصفر، بكل درجات الطيف التي تتراوح بها تلك الألوان، أقول: إن من شاء من تلك الشعوب الملونة أن يتقدم فلا مندوحة له — في عرف الرجل الأبيض من أهل الغرب — عن الأخذ بمعاييره، وإنه ليتقدم أو يتخلف بقدر ما يكون في وسعه أن يتمثل ما يأخذه.
كان ذلك أيام أن كان هنالك اتفاق على قسمة الناس إلى سيد ومسود، والسيد هو الإنسان الأبيض، والمسود هم سائر الناس من مختلف الألوان، لكن الموقف تغير تغيرًا جزئيًّا بعد الحرب العالمية الأولى، ثم صار التغير كاملًا بعد الحرب العالمية الثانية؛ إذ فكت معظم القيود الاستعمارية عن الكثرة الغالبة من الشعوب، وكان أول ما عنيت به الشعوب المتحررة هو أن تتشبث بهويتها الخاصة، ولا تصان تلك الهوية الخاصة إلا بأن يتمسك الشعب بثقافته هو التي ورثها عن أسلافه: في العقيدة وفي اللغة، وفي الفن، وفي الأدب، وفي كثير من النظم الاجتماعية.
وكانت مصر — ومعها سائر أجزاء الوطن العربي — واحدة من مجموعة الشعوب التي فكت عن نفسها الأغلال التي قيدها بها الاستعمار، ثم عملت على أن تسترد ما ضاع من معالم شخصيتها، وما دام ذلك هو هدفها، فقد كان حتمًا عليها أن تحيي كل سمة من سماتها، كما تبرزها الثقافة الموروثة عن السلف، على اختلاف بين رجال الفكر في مصر، اختلافًا لم يطل بينهم أكثر من عشرين عامًا أو نحو ذلك، على حدود ذلك «السلف» ما هي؟ أنرجع بالسلفية إلى العهد الفرعوني، أم نقف بها عند الفتح العربي؟ لكننا سرعان ما وعينا بأنه لا تناقض بين الحالتين: فالأمر في هذا كالأمر في بناء من عدة طوابق، بُني كل طابق منها في عصر من العصور الحضارية التي توالت على مصر؛ فإذا سُئلنا في أي طابق تسكنون؟ لما ترددنا في الإجابة الصحيحة: وهي أننا نسكن في «العمارة» كلها بجميع طوابقها؛ لأننا نحن بناتها ومالكوها من أدناها إلى أعلاها، فإذا أخذنا من غيرنا شيئًا نراه نافعًا لنا، كان لا بد أن نراجع فيه ظروف «عمارتنا» التي نقيم فيها، بحيث يأتي الشيء المأخوذ متسقًا وملائمًا. وتوضيح ذلك سهل وميسور، إذا عدنا إلى المثل الذي بدأت به هذا الحديث، وهو مثل «وضع النقط على الحروف» وكيف كان يجب تعديل هذه الصورة المجازية عند أخذها لتصبح «وضع نقط الحرف» حتى تتناسب مع أبجديتنا العربية.
وتذكِّرني مسألة «النقط فوق الحروف» التي أخذناها عن أصحابها أخذ الأعمى، دون أن ننتبَّه إلى الفوارق بين ظروفهم وظروفنا، تذكرني بمعانٍ كثيرة جدًّا، أخذنا عنهم «أسماءَها» على ظن منَّا بأن تلك الأسماء التي نقلناها، ما دامت تعني عند أصحابها كذا وكذا، فلا بد أنها ظلت على ألسنتنا نحن تعني نفس المعنى، مع أن ظروف حياتنا، وتسلسل تاريخنا، تختلفان اختلافًا بعيدًا عن ظروف حياتهم وتسلسل تاريخهم، فيما هو ذو صلة بتلك الأسماء ومعانيها، خذ مثلًا لذلك مصطلح «القرون الوسطى» فهذا عندهم اسم يشير إلى فترة تاريخية امتدت نحو عشرة قرون — من القرن الخامس بعد الميلاد إلى القرن الخامس عشر — وهي فترة جاءت في تاريخهم «وسطى» بين تاريخهم القديم وتاريخهم الحديث؛ لأن تلك الفترة قد اتسمت في بعض مراحلها بكثير من الجمود الفكري الذي يحبس أصحابه في أفق ضيق من نصوص قديمة؛ فقد أصبح مصطلح «العصور الوسطى» هذا كثيرًا جدًّا ما يطلق ليعني التخلف الحضاري والظلام الثقافي معًا، سواء أكان هذا الحكم على تلك العصور عادلًا أو ظالمًا، فالمهم — في حديثنا هذا — هو أنه إنما تدور به الألسنة في كثير جدًّا من الحالات لتشير به إلى ما يوحي بالتخلف والظلام، فجئنا نحن لننقل عنهم هذا المصطلح، ونطلقه على تاريخنا، وكأن تاريخنا وتاريخهم يتوازيان تقدمًا وتخلفًا، مع أن تلك الفترة نفسها إذا كانت عندهم هي فترة الظلام الفكري والتخلف الحضاري، فقد كانت في تاريخنا نحن هي فترة الإبداع الفكري والتقدم الحضاري، وأشير هنا إلى الحضارة الإسلامية وهي في عز قوتها؛ إنك إذا ذكرت القرن العاشر الميلادي — مثلًا — فقد كدت بذلك تشير إلى زمن شهد الثقافة الإسلامية وهي في أعلى ذراها، كما شهد في الوقت نفسه الثقافة الأوروبية وهي في حضيضها، فكيف — إذن — يتأتى لقلم عربي أن يكتب عن «القرون الوسطى» وكأن الدنيا بأسرها شرقها وغربها سواء؟ لا، إن ما يسمى بالعصور الوسطى عندهم، بالمعنى الذي ذكرناه، إنما هي وسطى عندهم، وهي ذروة عندنا.
وعكس ذلك صحيح كذلك — إذا أردنا دقة التعبير عن المعنى الصحيح — أي إن القرون الثلاثة التي امتدت من القرن الخامس عشر إلى القرن الثامن عشر كانت عندهم هي قوام تاريخهم الحديث، بمعنى التقدم العلمي والازدهار الحضاري، ولكنها هي بذاتها التي جاءت في تاريخنا نحن قرونًا وسطى بمعنى التخلف والذبول.
وهكذا نستطيع أن نقع على معانٍ أساسية في حياتنا الفكرية نقلنا عن الغرب «أسماءَها» ولم نستطع أن ننقل مع الأسماء معانيها الحقيقية عند أصحابها، وقد خطر لي الآن أن أضرب مثلًا ﺑ «الديمقراطية» حين نقلنا عنهم لفظها، ثم أبت علينا نفوسنا أن ننقل مع اللفظ مدلوله، لكني آثرت ألا يكون ذلك هو المثل الذي أسوقه هنا، اتقاءً لوجع الدماغ، ولأضرب مثلًا آخر من ميدان الدراسة الفلسفية، فلماذا حدث أن استطاع الفلاسفة المسلمون الأوائل أن يقدموا أعمالًا كان لها قيمتها العظيمة، لا في العالم الإسلامي وحده، بل كذلك في أوروبا، إلى الحد الذي جعلهم موضع دراسة في جامعاتهم هناك، كما كانوا هناك أيضًا بين الطلائع الفكرية التي انتهت بأوروبا إلى «النهضة»، ثم إلى الدخول في تاريخها الحديث؛ ولماذا — في مقابل أسلافنا الأولين — لم يستطع دارسو الفلسفة منَّا، في عصرنا هذا أن يقدموا عملًا واحدًا يسمع به ذوو الشأن في هذا الميدان، وأعني عملًا يسهم به صاحبه إسهامًا إيجابيًّا ملحوظًا في حركة الفكر الفلسفي المعاصر؛ ذلك لأنه قد يكون لنا أعمال في إحياء الفلسفة الإسلامية القديمة يحب أن يطلع عليها المستشرقون.
السؤال مرة أخرى: لماذا أفلح الفلاسفة المسلمون القدماء في أن تكون لهم رسالة في بلادهم وخارج بلادهم، ولم يفلح في ذلك خلفاؤهم اليوم؟ والجواب عندي هو أن الأولين عندما نقلت لهم الفلسفة اليونانية، وجدوا فيها ما يمكن قراءته قراءة إسلامية؛ فيخرج لهم — وللدنيا معهم — بهذه القراءة الجديدة شيء جديد؛ ولنشرح هذا القول شرحًا موجزًا، فنقول: إنه إذا كان أفلاطون قد جعل «الخير» في بنائه الفلسفي هو الذروة التي يتجه إليها البناء العقلي كله، ثم إذا كان أرسطو قد جعل «الصورة» المطلقة التي لا تشوبها أدنى شائبة من المادة هي تلك الذروة التي تنجذب إليها جميع الكائنات في تطورها وسيرها نحو الكمال، فمن الممكن للفيلسوف الإسلامي أن «يستبدل بفكرة» الخير عند أفلاطون وبفكرة «الصورة الخالصة» عند أرسطو «الله سبحانه وتعالى في عقيدة الإسلام»، وما على الفيلسوف المسلم بعد ذلك إلا أن يعدِّل ويبدِّل في البناء الفلسفي؛ تبديلات وتعديلات كبيرة أحيانًا وصغيرة أحيانًا، فتصبح أمام فلسفة إسلامية تشيع فيها روح الإسلام، وبعبارة قصيرة نقول إن أسلافنا قد زرعوا الفلسفة اليونانية في ثقافتهم فانزرعت، وتفرعَّت ونمت ثم أثمرت.
ولا كذلك موقفنا نحن المعاصرين لماذا؟
لأن فلسفة الغرب منذ نهضته وإلى يومنا الحاضرة، قائمة على أساس آخر انبثق من الوجهة الجديدة التي اتجه إليها الغرب في نهضته وبعدها، وأعني وجهة «العلم» والمعرفة العلمية، فأصبح لزامًا على الفلسفة أن تتجه بنشاطها الاتجاه نفسه، ولكن فيما يعنيها، فكان الذي يعنيها هو: ما منهج الفكر إذا أراد ذلك الفكر أن ينتج معرفة علمية مضمونة الصدق؟ لهذا لم تكن مصادفة أن رأينا عند بوابة العصر الأوروبي الحديث فيلسوفين جعلا شغلهما الأساسي ضبط قواعد ذلك المنهج، وهما ديكارت في فرنسا، وفرانسيس بيكون في إنجلترا، الأول فيما يختص بالمعرفة إذا كانت نابعة أساسًا من داخل الإنسان، والثاني فيما يختص بالمعرفة إذا كانت آتية إلى الإنسان من الأشياء الخارجة عنه حين يدركها بحواسه، ثم جاء التابعون وراء ذينك الإمامين.
وجئنا نحن، ونقلنا ما كتبه فلاسفة الغرب في التاريخ الحديث والمعاصر، لكن ماذا عسانا أن نصنع به إذا كانت الفلسفة عندهم دائرة — في الأعم الأغلب — على محور رئيسي هو «العلم» وكيف نضبط حقيقة بنيته وخطوات منهجه؟ إننا لا نشارك في العطاء العلمي لا بكبيرة ولا بصغيرة، فكل العلم الذي بين أيدينا هو علم الغرب، وليست جهود علمائنا في ميادينهما المختلفة إلا تفريعات على فروع من البحوث العلمية، لقد زرع أسلافنا المسلمون فلسفة الغرب في تربتهم الثقافية فانزرعت؛ لأن في تلك التربة ما يصلح لازدهار البذرة المنقولة، وأما نحن اليوم فقد أردنا أن نزرع الفلسفة الحديثة في أرضنا فلم تنزرع؛ لأن أرضنا تخلو من المشاركة في الإبداع العلمي، فإذا كانت فلسفة العصر قائمة على جذور المعرفة العلمية، فلن تجد لها مناخًا تنمو فيه على أرضنا.
ولعل هذا الموقف القلق هو الذي أوحى إلى المغفور له الشيخ مصطفى عبد الرازق، في كتابه «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية»، أن يقول ما قاله، وخلاصته أن نزن الفكر الفلسفي بموازين الدين، ومعنى ذلك أن تتحول الفلسفة بين أيدينا إلى فقه الشريعة الإسلامية، على أن نجعل الاجتهاد بالرأي أساسًا لمنهاجنا. يقول في ذلك:
«هذا الاجتهاد بالرأي في الأحكام الشرعية هو أول ما نبت من النظر العقلي عند المسلمين، وقد نما وترعرع في رعاية القرآن وبسبب الدين، ونشأت منه المذاهب الفقهية، وأينع في جنباته علم فلسفي هو علم «أصول الفقه» … إلخ.» (راجع صفحة ١٢٣ من الكتاب المذكور) وتعقيب كاتب هذه السطور على وقفة الشيخ مصطفى عبد الرازق هذه هو أنها وقفة مَن يئس من أن تكون لنا مشاركة حقيقية في فلسفة العصر التي هي — كما قلنا — فلسفة قائمة أساسًا على العلم في صورته الحديثة والمعاصرة من حيث البنية والمنهج؛ لأنه إذا كانت فلسفتنا نحن لا تكون إلا شيئًا كعلم أصول الفقه، فلماذا لا تسمى الأشياء بأسمائها الصحيحة؟ لماذا نريد تسميتها باسم «فلسفة» (وهي كلمة أخذناها عن الغرب) ولا نسميها «علم أصول الدين»؟
ونعود إلى ما بدأنا به من حديث عن عبارة «النقط فوق الحروف» التي رأينا فيها رمزًا يدل على نقلنا عن الغرب كلامه نقلًا أعمى، والصحيح هو أن ننقل ما ننقله (ولا بد لنا أن ننقل العصر إلينا من كلام أصحابه) لنجعله يتكيف لظروفنا، فإن كانت لنا أيضًا نقط تحت الحروف، وجب أن نغير في الصيغة المنقولة لتتسق مع ما هو قائم عندنا، وما دام المثل الذي طرحناه أخيرًا هو الدراسة الفلسفية، فإننا حين ننقل عن القوم فلسفتهم ينبغي أن نحاول نقل الشجرة كلها: العلم، ثم الفلسفة، أما إذا رفضنا النقل من الأساس فلنرفض العنوان أيضًا، حتى لا نقول عن بحث نقيمه في أصول الفقه إنه فلسفة.
كثيرة جدًّا هي مواقفنا التي يشوبها كثير أو قليل من الخلط الفكري، فأحيانًا نأخذ عن الغرب أسماء لننزع عنها مضمونها، ثم نطلقها على شيء عندنا مما قد يشبه ذلك المضمون لكنه ليس إياه، وذلك خلط في التفكير، أو أن ننقل مضمونًا فكريًّا ثم نعطيه من عندنا اسمًا يوهمنا بأن المضمون المنقول هو من غرسنا؛ وذلك نفاق فكري، وثالثة الأثافي أن ننقل شيئًا ما نقلًا أعمى، لا نراعي فيه ما يوجب تعديله عندنا، كما فعلنا في «وضع النقط فوق الحروف».
إننا إذ ننادي بمبدأ «الأصالة والمعاصرة» ليكون محورًا لنشاطنا الفكري بكل اتجاهاته وفروعه؛ ابتغاء أن ننتهي بأنفسنا إلى مجتمع يحقق ذاته التاريخية وليساير عصره في وقت واحد، فلسنا نعني بذلك أن نظل نردد هذا الكلام بغير تطبيق، بل إن تطبيقه ليتسع مداه حتى يشمل الكبيرة والصغيرة من تفصيلات حياتنا، بادئين من الصورة المجازية الواحدة، إذا وجدناها عند غيرنا، فأعجبتنا فنقلناها إلى العربية وعندئذٍ لا بد أن نحور فيها حتى تطابق ظروفنا، إذا نحن وجدناها مختلفة عن تلك الظروف، كالمثل الذي سقناه وجعلناه محور هذا الحديث، وهو قولهم: «نضع النقط فوق الحروف»، أقول إن مبدأ الأصالة والمعاصرة يبدأ تطبيقه من تفصيلة جزئية كهذه ثم يصعد بنا ونصعد به إلى كبريات القضايا الفكرية، فإذا نقلنا مذهبًا سياسيًّا معينًا؛ وجب تحويره حتى يطابق ظروفنا، وكذلك إذا نقلنا أشكالًا أدبية كالرواية والقصة والمسرحية والشعر المرسل، وأيضًا إذا أردنا أن نسهم بقسط في الفكر الفلسفي لعصرنا فلنأخذ إطاره العام — وإطاره العام في عصرنا هو الدوران حول «العلوم» منطقيًّا وبنيةً وأسلوبًا وهدفًا — ثم نملأ ذلك الإطار العام بحشو من حياتنا نحن، على نحو ما صنع الفلاسفة المسلمون الأولون، حين استغلوا الأفلاطونية والأرسطية في النظر إلى العقيدة الإسلامية، إنهم لم يرفضوا فلسفة اليونان، ليقولوا شيئًا كالذي قاله المغفور له الشيخ مصطفى عبد الرازق، حين قال ما خلاصته: إن الفلسفة عند المسلمين ينبغي أن تكون فقهًا للشريعة الإسلامية. لا، إنهم لم يقولوا ذلك، بل جعلوا الفلسفة الإسلامية «فلسفة» لا «فقهًا» لأصول الشريعة؛ وكل ما في الأمر أنهم عرفوا كيف يخلصون إلى صيغة جديدة تجمع لهم ولسائر الدنيا معهم فلسفة اليونان وأصول الدين الإسلامي.
إن فكر العصر، وأدبه وفنه، ونظمه، وعلومه، وصناعاته وكل شيء عنده، ليس محرَّمًا علينا، بل هو حلال بلال على أن نملأ أطره بمضمون من حياتنا، بل وأن نحوِّر تلك الأطر ذاتها إذا احتاجت منَّا إلى تحوير، وكل ذلك يتم على غرار النموذج البسيط الذي عرضناه، وهو أنه إذا كان أبناء الغرب قد قالوا عن عملية توضيح الكلام إنها كوضع النقط فوق الحروف، إذ ليس في أبجديتهم من الحروف المنقوطة إلا حروف نقطتها تجيء في أعلاها، فواجبنا — ما دامت هذه الصورة المجازية قد أعجبتنا — أن ننقلها ثم نحورها تحويرًا يتناسب مع حالة حروفنا، التي تجعل الحروف المنقوطة بالنقطة فوق الحروف أحيانًا، وتحت الحروف أحيانًا أخرى، إنه مثل بسيط وتافه، لكنه يصلح لتوضيح المبدأ العام والمهم معًا.