العقل الحر ما هو؟
أستطيع أن أتصوَّر الزاهد كيف يقنع من الزاد بما يطعمه من جوع، ومن الثياب بما يستره ويرد عنه البرد، ومن المال بما يوفر له ذلك القليل من الزاد والثياب، لكنني لا أستطيع أن أتصور زاهدًا يقنع بقليل من حرية عقله إذا كان الكثير متاحًا، وحتى حرية الأجساد تأتي في درجات الضرورة، في منزلة دون حرية العقول، بمعنى أنه إذا تهددت الإنسان قوة غاشمة، مطالبةً إياه إما بالكف عن التفكير الحر، وإما بالزج بجسده في غيابة سجن، فإنه لا يتردد في أن يصون لنفسه حرية عقله، حتى لو كان حرمان البدن من حرية الحركة ثمنًا لذلك، فالإنسان إنسان بفكره قبل أن يكون إنسانًا بجسده، فإذا كنت أفكر كنت موجودًا — كما قال ديكارت — لكن قيام الجسد وحده، بكل أجزائه وجوارحه، لا يضمن لصاحبه وجودًا إنسانيًّا، إذا لم يكن مصحوبًا بعقل يفكر. إن فاقد عقله لا يحسب ذا وجود إنساني، لا في شريعة السماء ولا في شرائع الناس، ففي حرمانه من عقله المفكر حرمان من آدميته؛ إذ لا يبقى فيه إلا مقومات الحيوان والنبات، وليس ثمة من فارق كبير بين عقل مفقود، وعقل موجود ولكنه معطل عن أداء وظيفته بما يفرضه على نفسه من معوقات التفكير، وذلك أن تضيف إلى كلمة «التفكير» صفة كونه حرًّا أو ألا تضيفها، لأن الحرية متضمنة في معنى عملية التفكير، كما تتضمن الزيتونة زيتها، والوردة أريجها.
قال رفيقي الذي يتسقَّط لي الأخطاء وعثرات القلم: ولكن هل يكون العقل عقلًا إلا وهو مقيد بقيوده؟ فأجبته قائلًا: تمهل يا صديقي فذلك هو نفسه ما أردت أن أضع له الضوابط والحدود، وانظر إلى عبقرية اللغة العربية حين أطلقت عليه اسم «العقل» التي هي كلمة معناها في اللغة «قيد»، وأظن أن جميعنا قد سمع بكلمة «اعتقال» أو «معتقل» وما يعنيان من تقييد، فالعقل عقل بما يفرضه على نفسه من قيود تضبط له حركة سيره، لكن تلك القيود إنما تنبثق من طبيعته، ولا تفرض عليه من سواه؛ لا، بل إن تلك القيود التي يفرضها العقل على نفسه، بحكم فطرته إذ هو يؤدي عملية التفكير، إنما هي نفسها شرط لقيام الحرية العقلية التي تقول إن الإنسان لا يكون إنسانًا إلا بها، وماذا يكون اختلال العقل عند المجنون إلا أن يكون تخلخلًا في «الصواميل» المقيدة لخطوات التفكير عنده، تقييدًا يجعل كل خطوة لاحقة مرتبطة بالخطوة السابقة ارتباط النتيجة بالسبب، لكن هذا القول يريد منَّا شرحًا وتفصيلًا، حتى نتبين آخر الأمر في جلاء، بماذا نطالب حين نطالب للإنسان بحرية عقله حرية يذهب بها إلى آخر حدودها.
وقبل أن أخط حرفًا واحدًا فيما أنوي القيام به، أريد أن يكون واضحًا للقارئ، وضوح الشمس في سماء لا سحابة فيها، بأن «العقل» ليس وسيلة الإدراك الوحيدة عند الإنسان، فهناك وسائل غير العقل، لكل وسيلة منها ميدانها الخاص، وحديثي هنا مقصور فقط على «العقل» وهو يعمل في ميدانه، غير متعرض لغيره من الوسائل، ولا لغير ميدان التفكير العقلي من سائر الميادين، ولقد وضعت هذا التحذير هنا، لعلي أنجو من اعتراضات تثار عن غير فهم، نحن في غنًى عن إثارتها، بل إني لم أهم بالكتابة عن العقل وتفكيره، إلا لأصل إلى النتيجة التي أريدها، وهي الدعوة إلى حرية التفكير، حرية يكون لها معناها الصحيح، وذلك لأني على يقين من أننا، عامدين متعمدين، نعمل على حرمان أنفسنا من جانب كبير جدًّا من تلك الحرية العقلية التي هي لب الآدمية وصميمها، ونحن في ذلك الحرمان المتعمد، لا نصدر عن نية سيئة، بل نصدر عن فهم منقوص والله أعلم.
وبعد هذا، أبدأ شرحي بالقول: إن للعقل طريقين اثنين، لا ثالث لهما، يلتزم منهما هذا الطريق أو ذلك، بحسب الموضوع الذي يريد أن يفكر فيه، أما أحدهما فهو الطريق الذي يجعل نقطة ابتدائه كلمات بعينها، وأما الآخر فهو الطريق الذي يجعل نقطة ابتدائه معطيات تعطاها حواسنا الظاهرة أو حواسنا الباطنة. وعندما تقول عن الطريق الأول إن نقطة الابتداء فيه «كلمات» بعينها، فإننا نعني كذلك شتى صنوف الرمز، مثل الأرقام أو الحروف التي نستخدمها في علم الرياضة مثلًا، وكذلك عندما نقول عن الطريق الثاني إن نقطة الابتداء فيه هي معطيات الحواس — ظاهرة وباطنة — فإنما نعني كذلك تلك المعطيات التي تستخدم لتحصيلها أجهزة مختلفة تساعد حواسنا المجردة كالمناظير بالنسبة لحاسة البصر، ومكبرات الصوت بالنسبة لحاسة السمع، وهكذا.
في الحالة الأولى حين يجد العقل أمامه عبارة مركبة من كلمات أو من رموز الرياضة، ويريد أن يصب عليها عمله الفكري، فليس أمامه إلا أن يستخرج من تلك العبارة مضامينها التي تكمن في مفهومات رموزها. إن العقل في هذه الحالة لا يتبرع بفكرة من عنده، بل مهمته هي أن يفض الأغلفة التي تستر المعاني داخل رموزها، فكما أنك إذا وضعت في طاحونة الغلال قمحًا، لم يخرج لك إلا دقيق القمح، وإذا وضعت في عصارة الخضر والفاكهة عنبًا لم يخرج لك منه إلا عصير العنب، كان الدقيق كامنًا في حبات القمح، فظهر بعد كمون. وكان العصير مختفيًا في حبات العنب فخرج بعد اختفاء، وكذلك الحال في تركيبات اللفظ أو الرمز، يكمن فيها ما يكمن من معانٍ، والتفكير العقلي هنا معناه هو إخراج تلك الكوامن لنأخذ منها ما نريد ونرفض ما لا حاجة لنا به، والتفكير الرياضي كله هو من هذا القبيل؛ لأننا نقدم له بعبارات نفرض فيها أنها مأخوذة منا مأخذ التسليم، ومنها يبدأ العمل العقلي، وهو أن يستخرج من ذلك الذي وضعناه في موضع الصدارة، ما يمكن اعتصاره منه، وهكذا قل في كل طريق فكري أوله كلمات أو رموز، على أن تظل واضعًا نصب عينيك حقيقة مهمة، وهي أننا نستطيع — إذا أردنا — أن نغير ونبدل في تلك المقدمات الافتراضية كما نشاء، ولكن إذا فرضنا ما فرضناه، وجب علينا بعد ذلك التزامه إلى آخر ما نجريه عليه من استدلالات تستولده مضامينه المستترة في رموزه.
ذلك أحد الطريقين، وأما الطريق الثاني فهو حين يكون ما بين أيدينا، لا مركبات من ألفاظ ورموز، بل «معطيات» تلقتها حواسنا من مصادرها، وفي هذه الحالة يكون طريق العقل مختلفًا عن طريقه في الحالة الأولى؛ إذ إن عمله في هذه الحالة الثانية، هو محاولة الكشف عن الروابط التي عساها أن تكون قائمة بين مجموعة الأشياء التي رأيناها أو سمعناها، أو أدركناها بأية حاسة أخرى من حواسنا؛ لأننا إذا عرفنا تلك الروابط، كنا بمثابة من وجد تفسيرًا يفهم به ما كان قد شاهده من ظواهر وأحداث، فافرض — مثلًا — أن الذي شهدناه وأخذنا نبحث عمَّا يفسره لنا، هو أن السماء تمطر، فكل الذي نراه رؤية مباشرة في هذه الحالة، هو قطرات ماء، فها هنا نبدأ في الكشف عن بقية المحسوسات التي بينها وبين تلك القطرات صلة، كأن نرى العلاقة بينها وبين درجة الحرارة، وبينها وبين درجة الرطوبة، وبينها وبين درجة ضغط الهواء، وبينها وبين اتجاه الريح، فإذا ما كشفنا عن تلك الروابط جميعًا، وجدنا أمامنا مجموعة من العوامل المتشابكة بعضها مع بعض، بدرجات معينة لكلٍّ منها، وإذا نحن — بالتالي — أمام ما يفسر المطر تفسيرًا عقليًّا، وأهمية مثل هذا التفسير العقلي، هي أننا كلما وجدنا دلائل تدل على قيام تلك العوامل، تنبأنا بما يشبه اليقين أن مطرًا سينزل بالدرجة الفلانية من شدة ومدة.
هما — إذن — طريقان للعقل في فاعليته، كل طريق منهما يعتصر من المركبات اللفظية أو المكونة من رموز — أيًّا كانت تلك الرموز — ما هو متضمن فيها من محتوًى، كأن تحلل جملة لغوية فتقول إنها تشتمل على كذا وكذا من المعاني، أو أن تحلل فكرة رياضية معينة، فتقول إنها تنتج لنا كذا وكذا من الأفكار الرياضية، والطريق الثاني هو أن نشاهد بأية حاسة من حواسنا ظاهرة ما، فنحاول تفسيرها بربطها مع ما قد يكون على صلة بها من ظواهر أخرى.
وعلى ضوء هذا الذي أسلفت ذكره، عن سير العقل في أدائه لعمله، أنتقل بك الآن إلى الخطوة التالية، وهي الخطوة التي تهمني وتهمك، والتي من أجلها كتبت هذه السطور، ألا وهي: ماذا نعني حين نقول إن العقل لا بد فيه من قيد يضبط له اتساق الخطى؟ ثم — وهذا هو عندي بيت القصيد — ماذا نعني حين نقول إن حياة العقل مرهونة بحريته؟
أما عن سؤالنا الأول، الذي نسأل به عن معنى ضرورة أن يكون العقل مقيَّدًا لكي ينتج، فالجواب ظاهر مما أسلفناه عن الطريقين اللذين يسلكهما العقل في سره، وهو يختار هذا الطريق أو ذاك بحسب طبيعة الموضوع المطروح، فإذا كان الموضوع المطروح يقتضي السير في الطريق الأول، كان الذي بين أيدينا مركَّبًا من ألفاظ اللغة أو من رموز الرياضة، أو ما يجري هذا المجرى، فالعقل حين يحاول استخراج المضمونات المضمرة فيما هو بسبيل تحليله وفهمه، لا بد أن «يقيد» نفسه بالنص الذي أمامه، لا يضيف إليه من عنده حرفًا، فإذا كانت العبارة التي بين أيدينا — مثلًا — عبارة «سيادة القانون» وأراد «العقل» أن يستخرج منها مضموناتها، لكي نفرق على هداها بين ما يجوز فعله وما لا يجوز، كان علينا أن نحلل معنى «السيادة» هنا تحليلًا تفصيليًّا ودقيقًا، وبهذا التحليل التفصيلي الدقيق يكون في مستطاعنا أن نعرف مجالات التطبيق، وطرائق ذلك التطبيق، وكثيرًا جدًّا ما يكون أمر ذلك كله غامضًا علينا، ولا يزيل لنا ذلك الغموض إلا «العقل» وقدرته على التحليل بالصورة التي ذكرناها، ففي هذا المثل الذي ضربناه، وأعني عبارة «سيادة القانون» قد نجده يسيرًا علينا أن نقول إنه بناءً على هذا المبدأ ينبغي أن يطبق القانون على جميع أفراد الشعب على حد سواء، ولكن الأمر لا يظل بهذه السهولة كلها إذا نحن رأينا أن يكون رئيس الجمهورية رأسًا للأسرة المصرية في الوقت نفسه، فالتحليل العقلي للعبارة المذكورة يجعل للقانون سيادة على رئيس الجمهورية مثل سيادته على سائر المواطنين، لكن هذا القول لا يصدق على الأسرة ورأسها، وذلك لأن المبدأ المذكور ليس هو المبدأ الذي يقوم عليه النظام الأسري؛ إذ إن لرأس الأسرة سلطة الإملاء على سائر الأعضاء، دون أن يكون هذا الحق نفسه مسموحًا به لأي فرد من أفراد الأسرة على من هو رأسها، أي إن النظام الأسري مختلف من حيث المبدأ عن النظام القومي، وعضو الأسرة له وضع معين طالما هو داخل الأسرة، ووضع آخر حين يُنظَر إليه مواطنًا بين سائر المواطنين في الأمة، فهو داخل الأسرة لا ينتخب رأس الأسرة، لكنه خارج الأسرة ينتخب رئيس الجمهورية، وهذا التحليل يؤدي بنا إلى نتيجة «عقلية» وهي أننا نقع في تناقض إذا عددنا رئيس الجمهورية رأسًا للأسرة المصرية في الوقت نفسه؛ إذ هو بحكم الصفة الثانية من حقه أن يملي على الأفراد ما يراه صالحًا، في حين أنه بحكم الصفة الأولى لا يحق له ذلك.
إننا في كل هذا الذي قدمناه من تحليل، إنما أردنا أن نقدم إلى القارئ مثلًا لفاعلية العقل، حين تكون تلك الفاعلية منصبة على مركب لفظي نريد استخراج مضموناته، وهو تحليل يبين في الوقت نفسه ما نعنيه حين نقول بضرورة أن يكون العقل «مقيدًا» بالنص الذي يخضعه للتحليل وتوليد النتائج، وأما القيد الذي يقيد العقل في طريقه الثاني، الذي تكون نقطة البدء فيه هي معطيات الحواس — لا مركبات لفظية — فهو أن يتقيد العقل بتلك المعطيات ذاتها، بحيث يلتزم أمرين: أولهما أن يجيء تعليله الذي يفسر به ظاهرة ما، شاملًا للظاهرة بكل تفصيلاتها فلا يعلل جزءًا منها ويترك جزءًا بغير تعليل، وثانيهما ألَّا يتبرع من عنده بإضافة يضيفها إلى التعليل ما دام كافيًا. ولقد ضربنا لك مثل المطر ومحاولة تعليله بعدة عوامل مجتمعة، كدرجات الحرارة والرطوبة والضغط الجوي واتجاه الريح، فإذا كان في ذلك ما يفسر وقوع الظاهرة تفسيرًا كافيًا، لم يعد من حق العقل أن يضيف إليه شيئًا آخر.
بهذا نكون قد أوضحنا ضرورة أن يكون العقل «مقيَّدًا» لكي ينتج، فهو في طريقه الأول مقيد بالنص الذي يحلله، وهو في طريقه الثاني مقيد بمعطيات حواسه (ومعها الأجهزة المعينة للإدراك الحسي) فيما يختص بالظاهرة المطروحة أمام العقل لفحصها، ويبقى أمامنا ما هو أهم، وأعني به «الحرية» العقلية ماذا تكون؟ لب هذه الحرية العقلية، الذي بغيره لا يكون العقل عقلًا، وبالتالي تهدر آدمية الإنسان، هو أن يستبدل بالمفروض مفروضًا آخر؛ إذ تبين له أن المفروض الأول لا يؤدي به إلى نتيجة تنفعه في حلول مشكلاته. لقد أسلفنا القول بأن العقل يسير بفاعليته في أحد طريقين، أولهما هو أن يكون هنالك مركب لفظي يراد تحليله واستخراج مضموناته، وطالما ذلك النص هو المفروض القائم، فالعقل مقيد به، ولكن ماذا لو وجد العقل أنه نص لا ينطوي على شيء يقيد الإنسان؟ إنه لا مفر عندئذٍ من فرض نص آخر، أعني اختيار مركب لفظي آخر غير الذي تصدى له العقل أول مرة، وفي هذا الاختيار واستبدالنا بما لا يجدي فكرة أخرى نتوقع منها خيرًا أكثر ولبابًا أغنى، أقول إنه في ذلك تكمن حرية العقل في أول الطريقين.
وليس استبدال الإنسان بمركب لفظي استنفد أغراضه، مركبًا لفظيًّا آخر يتعلق به الرجاء في حياة أفضل، أقول إن ذلك ليس بالأمر السهل ولا هو بالأمر التافه، بل قد يدهشك أن تعلم أن جزءًا ضخمًا من تطور الإنسان وتقدمه، خلال مراحل تاريخه، كان سره هو هذا التبديل والتغيير في مركبات لفظية مسطورة للناس في صحائف قوانينهم ودساتيرهم وتراثهم، ثم أدرك المصلحون أنه لا يُرجى للناس خيرًا إلا إذا بدلوا ذلك المسطور بمسطور آخر، فلئن كان العقل مقيَّدًا بالنص الذي يحلله، فما جدواه وجدوانا أن يظل يعيد ويبدي في نصوص استنفدت أغراضها تبعًا لتبدل الظروف مع مراحل الزمن؟ في حالة كهذه يتحتم على العقل الحبيس في مركبات لفظية ذهب زمانها، أن يكسر الأغلال، لينتقل إلى بنيان جديد.
هكذا فعلت أوروبا أيام نهضتها، فلو أمعنت النظر في تلك النهضة التي غيَّرت وجه الحياة بأسرها، لوجدت سرها يكمن في هذه العبارة الموجزة البسيطة: استبدال صحائف جيدة بصحائف قديمة، فيظل للعقل منهجه وفاعليته، لكن المجال الذي يصب عليه هذه الفاعلية وذلك المنهج هو الذي يتغير. إننا لو جمعنا جبابرة العقول التي شهدها التاريخ كله، منذ عرف التاريخ إنسانًا يستحق أن يؤرخ له، ثم حصرنا جهودهم العقلية في نصوص مستهلكة، لما أغنت تلك العقول الجبابرة جميعًا الإنسانَ المتخلِّف شيئًا يتقدم به، فإذا سمعت عن شعب أنه ارتقى درجة أو درجات، في نظامه الاجتماعي، في نظامه التعليمي، في نظامه الاقتصادي، في نظامه السياسي، وفي أي نظام من نظم حياته، فاعلم أن ذلك الارتقاء إنما تحقق له بفضل عقل حر، أباحت له حريته أن يستبدل بالقديم الذي أصابه عقم وجمود، جديدًا يبشر بالرجاء.
ولقد حدث في تاريخ الرياضة حدث عظيم من هذا القبيل، وكان ذلك في القرن الماضي، فكانت له نتائج يصعب جدًّا أن نقيس مداها، وذلك أن العقل البشري لبث قرونًا وهو على ظن بأن النسق الهندسي الذي أقامه إقليدس في العصر القديم، هو شيء يفرض نفسه على العقل فرضًا ولا خيار للعقل دونه، فجاء علماء الرياضة في القرن الماضي، وقالوا لأنفسهم: لماذا لا نجرب فروضًا أخرى غير المسلمات التي وضعها إقليدس واستنتج منها نتائجه؟ وكان ذلك ما فعلوه، فكان أن فتح الله عليهم بعدة أنساق هندسية جديدة، ولم يعد الأمر حكرًا لإقليدس إلا في المجال الذي تصلح فيه هندسته، وأما الهندسات الجديدة لقد كان شأنها ما كان بالنسبة للأبعاد الكونية البعيدة، وكذلك بالنسبة للأبعاد البالغة في الصغر داخل الذرة الواحدة، وكان فتح الله على الناس عظيمًا يوم أن مارس العقل الإنساني حريته في أن يستبدل فروضًا بفروض.
ومن هذا القبيل نفسه في حرية العقل، أن يبيح ذلك العقل الحر لنفسه أن يستبدل بمبادئ ثبت بوارها، مبادئ أخرى قد تكون أهدى للإنسان في حياته، إن كلمة «مبدأ» أو «مبادئ» لها في القلوب رهبة وفي الآذان سحر، حتى ليفاخر الإنسان إنسانًا آخر بكونه رجل «مبادئ» وبأنه ثابت على مبادئه لا يغير منها شيئًا، وهذا بالطبع شيء جميل وحميد، طالما كانت تلك المبادئ مؤدية إلى نتائج تنفع الناس في حياتهم العملية، وإلا فلا مناص عندئذٍ من تحرر العقل منها، ليستبدل بها ما هو أهدى سبيلًا، إذ ما هو «المبدأ»؟ هو — بحرفية اللفظ — نقطة نبدأ منها، ثم نسير وفق الخطوات التي تستخلص من ذلك المبدأ، ولكن ماذا إذا وجدنا أنها خطوات مؤدية بنا إلى هلاك؟ إنه لا بديل أمامنا إلا أن نترك لعقولنا حرية الانتقال إلى مبدأ جديد، فالمبادئ صنعها الإنسان لنفسه، وهو حر في أن يصنع سواها، وفقًا لما تقتضيه الحياة وازدهارها.
ذلك كله خاص بحرية العقل في طريقه الأول، الذي هو طريق نقطة الابتداء فيه «جملة» أو عدة جمل، مسطورة في صحائف أو محفوظة في صدور الناس يتناقلونها بالتواتر.
وأما حرية العقل في طريقه الثاني، وهو الطريق الذي يسلكه عندما تكون نقطة الابتداء معطيات تقدمها له حواسه الظاهرة أو الباطنة، فالأمر فيها شبيه بالأمر في حرية العقل وهو في طريقه الأول، يستبدل — إذا لزم الأمر — مسطورًا بمسطور، وذلك لأنه وهو بصدد معطيات حسية جاءته عن ظواهر الطبيعة، ويريد قراءتها، لا بد له أن يلجأ إلى التجريب، فيقرؤها على صورة معينة، فإذا أفلحت كان بها، وإلَّا فهو «حر» في أن يجرب قراءة أخرى، وأما إذا ظل العقل حبيس قراءة واحدة لظواهر الكون ومشكلات الحياة، فاللهم أنت أعلم إلى أي هاوية يسير.
قال رفيقي الذي يتسقَّط لي الأخطاء وعثرات القلم: لست أرى إلى أي شيء تهدف بكلامك هذا، فقلت له: إن الذي أهدف إليه يا أيها العبد، هو أن تكون حرًّا.