نفوسنا صدئت فأصقلوها
كنت أنقل عيني في كراسات قديمة، ملأت صفحاتها على امتداد سنوات خمس، في مرحلة معينة من مراحل حياتي، وهي مذكرات عن مقروءات مررت بها، إذ كنت إذا أعجبتني عبارة، أو استوقفتني فكرة، أسرعت إلى إثباتها في تلك الكراسات، ومعظم ما أثبته منها قصير، لا تزيد الواحدة منها عن سطر واحد أو سطرين، لكنني أهملت تلك الكراسات إهمالًا أخرجها من حياتي، حتى لقد نسيت أين وضعتها، وذلك لأني أدركت قلة جدواها، فلا هي مفهرسة ولا هي مبوبة، فكيف لي أن أستخرج منها شيئًا، إلا أن أظل أتصفح ما يقرب من خمسمائة صفحة، عسى أن تقع العين على المدونة التي أبحث عنها؟
لكنها موجة الملل التي غمرتني بالأمس، هي التي دفعتني إلى التقليب والتنقيب هنا وهنا وهناك، وإذا بتلك الكراسات تظهر من خفائها، فكانت هي ما اخترته لأزيح به موجة الملل! ورحت أقلب الصفحات، وأنقل العين، معجبًا بهذه العبارات هنا، مبتسمًا لتلك الفكرة هناك، ولقد كان جميع ما امتلأت به خمسمائة صفحة من قبسات مدونة، مغرقًا عندي في بحر النسيان، ولكنني — يا للعجب — برغم طول المدة على تلك القبسات، وعمق النسيان الذي غرقت في بحره عندي، كنت كلما وقعت عيني على واحدة منها، تذكرت من فوري أين كنت قرأتها، فكأنني كنت أوقظ النيام من رقادهم بلمسة أصبع.
ووقفت عند إحداها، وهي عبارة تقول: «حادثوا هذه النفوس، فإنها سريعة الدثور.» كأنما أراد: أصقلوها وأجلوا الصدأ عنها. انتهت العبارة كما وردت في تلك المذكرات، وبلمعة كلمعة البرق، تذكرت أنني نقلتها عن أبي حيان التوحيدي في كتابه «الإمتاع والمؤانسة»! وقبل أن ألجأ إلى الكتاب لأبحث عن تلك العبارة في سياقها الذي وردت خلاله، وقفت بضع دقائق أتساءل فيها عن كلمة «حادثوا» في قوله: «حادثوا هذه النفوس». ما معناها؟ لقد بدت لي العبارة على شيء من الإبهام، وهنا أخرجنا الكتاب من مكمنه، وما هي إلا لحظة خاطفة حتى تذكرت كل شيء عن ذلك المعنى، فكتاب «الإمتاع والمؤانسة» هو تسجيل لأحاديث دارت في قصر الأمير، وأظنها كانت أربعين حديثًا (أو نحو ذلك) دارت على أربعين ليلة، وكان الحديث الأول الذي وقع في الليلة الأولى، يدور حول سؤال ألقاه الأمير على أبي حيان التوحيدي عن خصائص الحديث الجيد، ما هي؟ فأخذت خواطر المتحدث تنساب متقاطرة خاطرًا بعد خاطر، وكان بينها تلك العبارة التي أسلفت ذكرها: حادثوا هذه النفوس فإنها سريعة الدثور. كأنما أراد أصقلوها وأجلوا الصدأ عنها.
ويزداد المعنى لك وضوحًا، حين تعلم أن جزءًا كبيرًا مما قاله أبو حيان التوحيدي في تلك الليلة، كان منصبًّا على العلاقة في المعنى بين كلمة «حديث» بمعنى ما يدور بين المتكلمين من حوار ونقاش وتبادل رأي، وهذه اللفظة نفسها (حديث) بمعنى: جديد، ليخلص الحاضرون — بعد استطراد في الخواطر — إلى نتيجة هامة جدًّا في هذا الموضوع، وهي: وجوب أن يأتي كلام المتحدث بما هو جديد، وإلا فالصمت خير له من الكلام، فحديث المتحدثين ليس بذي نفع إلا إذا كان «حديثًا» أي إلا إذا كان يحمل معنًى جديدًا لم يكن يعلمه السامعون.
وبعد هذا التوضيح، فلنعد إلى الجملة التي كنت نقلتها في مذكراتي: «حادثوا هذه النفوس، فإنها سريعة الدثور»، أي إن الضرورة الحيوية تقتضي أن نزود الناس في محادثاتنا إياهم بما هو جديد، تتجدد به النفوس، إذ لو ظللنا نعيد لهم ونبدي في غمة رتيبة، أشياء ألفوها، لأنهم سمعوها من قبل ذلك ألف مرة، فسرعان ما يعلو نفوسهم الصدأ، وينتابها البلى، وواجبنا هو أن نصقلها ونجلوها من الصدأ الذي لحق بها، وذلك لا يكون إلا بجديد نقدمه، وبتجديد في النفوس يترتب عليه.
وفي هذا الضوء، أرجوك أخلص الرجاء — يا قارئ هذه الكلمات — أن تركز انتباهك فيما يقال لنا من «أحاديث»، وما يذاع فينا، وما ينشر علينا، وانظر كم في تلك «الأحاديث» ما هو حديث، بمعنى الجديد؟ ومتى يكون الجديد جديدًا بكل معنى هذه الكلمة؟ إنه لا يكفي في الجديد الذي نطلبه أن يكون أي شيء غير مألوف، وإلا لكانت حركات اللاعبين في السيرك من مشي على حبال مشدودة في الخلاء، ومن مداعبات للسباع والنمور، وما إلى ذلك، هي ذروة العبقرية في حياة الناس؛ لأن فيها ما لم يألفه الناس في حياتهم المعتادة في البيت والشارع؛ بل الجديد المطلوب هو ذلك الذي يغير حياتنا العملية أو الثقافية، إنه هو الذي يبدل فينا نظرة بنظرة، إننا بغير شك قد تخلفنا على طريق الحياة المتحضرة المتطورة، كنا في طليعة الطليعة على مدى قرون من الزمان، ولم يقتصر بنا موقع الريادة على مائة عام أو مائتين، فما الذي أصابنا إن لم يكن فكرًا فاسدًا ملأ رءوسنا، وسلوكًا عقيمًا قد شغل حياتنا؟ وكانت أحاديث المتحدثين لنا في معاهد التعليم وفي أجهزة الإعلام، لتنتج فينا ما ينقلنا من الضلال إلى الهدى، لو أن تلك الأحاديث قد التزمت معناها الذي أشار إليه التوحيدي، وهو أن تكون «حديثًا» أي أن تنقل إلينا الجديد الذي نتجدد به فكرًا وسلوكًا.
وإنه ليخيل إليَّ أننا — وأعني الأمة العربية في مجموعها — متميزون بالنسبة إلى سائر الأمم بحبنا للتحدث بعضنا مع بعض، «فالكلام» جزء حيوي جوهري في حياتنا، هو بالطبع حيوي وجوهري بالنسبة إلى كل إنسان، عربيًّا كان أو غير عربي! ولكنه معنا يزيد عنه مع غيرنا، ولا أدري إن كانت البيئة الصحراوية علة مباشرة لتلك الخاصة فينا. وفي هذه المناسبة، أحب لك أن تلحظ بأن الصحراء هي موطن الأمة العربية كلها، ولا ينفي هذه الحقيقة الجغرافية أن يتخلل تلك الصحراء الممتدة من الخليج العربي شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربًا، أقول إنه لا ينفي صحراوية تلك الصحراء الفسيحة، أن تتخللها واحات خضراء بزرعها، بعضها صغير متناثر هنا وهناك، وبعضها الآخر كبير يتمثل في وديان الأنهار، ومنها نهر النيل وواديه الأخضر، فالصحراء هي التي أمدتنا بكثير جدًّا من طباعنا، التي ربما كان منها طبع «الكلام» ليكون وسيلة — أهم وسيلة — في شغل أوقات الفراغ، وحين يبلغ ذلك الكلام ذروته الفنية، يكون «أدبًا» شعرًا ونثرًا، ومرة أخرى أقول إن البيئة الصحراوية، التي هي موطن الأمة العربية كلها بصفة عامة، هي المسئولة عن شدة حبنا ﻟ «الحديث» من حيث هو وسيلة لتمضية الفراغ، كما أنها هي التي أدت — في الوقت نفسه — إلى أن يكون للشعر في حياة العربي مكانة قد تعلو على مكانته في أي شعب آخر، وقد لحظ الجاحظ هذه الملحوظة عن الشعر العربي ومكانته، وقال إنه كما تميزت الشعوب الأخرى بما يميزها، فاليونان ميَّزهم الكتاب (أذكر أن هذه هي اللفظة التي ذكرها الجاحظ في هذه المناسبة، ليشير بها إلى «الفكر» اليوناني) والفرس ميَّزتهم العمارة، والهند ميَّزها كذا، فالعرب قد تميزوا بالشعر، ويرتب الجاحظ على ذلك نتيجته، وهي أنه بقدر ما يسهل على الشعوب الأخرى نشر ثقافتهم عن طريق الترجمة، يصعب، بل يستحيل على العربي نشر ثقافته بين الآخرين، لتعذر نقل الشعر بالترجمة (اقرأ ذلك في الجزء الأول من كتاب «الحيوان» للجاحظ).
أردت أن أقول إن اللغة — حديثًا يتبادله السامرون، أو أدبًا من شعر أو نثر فني — هي في الصميم من الحياة العربية، جدًّا ولهوًا، فلم يكن من قبيل المصادفة أن يجتمع معنيان في كلمة «حديث»، فالحديث معناه الكلام، والحديث كذلك معناه ما هو جديد، فكان هذا الربط بين المعنيين من عبقرية اللغة العربية؛ لأنه ربطٌ صدر عن ضرورة تحتمها حياة الصحراء. فساكن الصحراء، إذا لم يأتِه الجديد عن طريق الأحاديث، فقلما يأتيه من مصدر آخر، وفي ضوء هذه الحقيقة الطبيعية والنفسية نسأل: هل يجوز لنا أن نضيع ألوف الساعات بعد ألوفها في أحاديث فارغة، أو شبه فارغة، إذا قيست بما يغير فينا وجهات النظر؟ من أين يأتينا التغيير نحو الأفضل والأرقى، إذا لم نكن نسمع من المتحدثين إلينا إلا كلامًا مكرورًا معادًا، كأن تيار الزمن قد قيل له: قف! فوقف وتجمدت حركته عند لحظة مرت عليها قرون؟
إن مما يقال على سبيل الفكاهة، ولكنها فكاهة يميزون بها بين بعض الشعوب في الغرب، أنه إذا كان الفيل هو مدار الاهتمام، كانت طريقة الألماني أن يقرأ عنه في مراجع علوم الحيوان، ليقدم عليه دراسة فلسفية، وكانت طريقة الفرنسي أن «يتفرج» عليه في حديقة الحيوان، وكانت طريقة الإنجليزي أن يحمل معدات الصيد ويذهب إلى الفيل في موطنه ليصيده، وكانت طريقة الأمريكي أن يأخذ صيد الإنجليزي ليتاجر فيه. ولقد أضفت من عندي إلى هذا القول أن طريقة العربي هي أن ينظم فيه شعرًا، أو أن يتحدث عنه مع خلانه في حلقات السمر، فللحديث عندنا طلاوة وحلاوة، وليس في ذلك بأس، شريطة أن يلتزم معناه، وهو أن يحمل الحديث في ثناياه ما هو حديث، ولابن الرومي بيتان من الشعر يبدأ أولهما بقوله: لقد سئمت مأربي … (ونسيت بقيته) ثم يأتي البيت الثاني فيقول: «إلا الحديث، فإنه، مثل اسمه، أبدًا حديث.»
وأعود إلى البيئة الصحراوية وما تبثه في أبنائها من طبائع، فنرى كيف أن اطراد الحياة وظروفها، واطراد المناخ وحالاته، يجعل ساكن تلك البيئة دائم التطلع إلى حدث جديد يخفف عنه سأم الرتابة، ومِن ثَم كانت أهمية «الجِدَّة» فيما يطرأ عليه مما يفسِّر أن تجمع اللغة العربية كلا المعنيين: الحدوث، والجدة، في لفظة واحدة، هي لفظة «حديث»، ولعل تطلع العربي للحادث الذي هو في الوقت نفسه يحمل معه النبأ الجديد، هو ما جعل اللغة العربية تضع «الفعل» قبل الفاعل في ترتيب مفردات الجملة الفعلية فنقول: «جاء زيد» أكثر مما نقول: «زيد جاء»؛ لأن المجيء — مجرد المجيء — هو الذي يهم المترقب، أكثر مما يهمه من هو الذي جاء، ولقد عبَّر التوحيدي عن هذا المعنى في حديث الذي أشرنا إليه، بقوله: «الحس شديد اللهج بالحادث.» أي أن حواس المترقب، من بصر وسمع، شديدة اللهفة على ما يحدث في الحياة الرتيبة من جديد يصاحبه بالضرورة شيء من التغير.
وفي هذه المناسبة سأله الأمير: ما الفرق بين الكلمات الثلاث: حادث، ومحدث، وحديث؟ فقال التوحيدي ما معناه: إننا نستعمل كلمة «حادث» عندما يكون الموقف الذي نحن بإزائه مفهومًا بذاته، مستقلًّا عمَّا سواه، وأما كلمة «محدث» فتستخدم عندما يرتبط الموقف الذي نتحدث عنه في أذهاننا، بالشيء الذي كان مصدرًا لحدوثه، ثم تستعمل كلمة «حديث» بمعنى «جديد» عندما يكون الأمر وسطًا بين الحالتين اللتين ذكرناهما، فالموقف الحديث، لا هو مرتبط في الفهم حتمًا بموقف سبقه، ولا هو مستقل بذاته، وإنما هو مرتبط في الفهم عند المتكلم والسامع كليهما باللحظة الزمنية، فهو حديث لأنه وليد لحظة حاضرة أو قريبة من اللحظة الحاضرة، وعلى هذا فلا بد أن يكون ما هو حديث، قريب الولادة، أو قريب النشوء، أو بعبارة التوحيدي: «قريب العهد بالكون، وله نصيب من الطرافة.» وها هنا وردت عبارة التوحيدي التي أخذت منها عنوان هذا المقال، وهو قوله: «حادثوا هذه النفوس، فإنها سريعة الدثور.» وكأنما أراد (ذلك السلف) أن يقول: أصقلوها، وأجلوا الصدأ عنها.
ولم يفت التوحيدي، في هذا الموضع من كلامه، أن يشير إلى منزلة ما هو «قديم» في النفوس، بالقياس إلى ما هو حديث (أو جديد)، فقال إن ما هو حادث من شأنه أن يثير في النفس شعور التعجب، وأما ما هو «قديم» فيثير الشعور بالتعظيم والإجلال، وكاتب هذه السطور يضيف إلى قول التوحيدي هذا، ما يشرحه، أنه لما كان الشيء الحديث أو الجديد — بحكم حداثته هذه — مغايرًا لما ألفه الناس، كان لا بد له أن يلفت إليه النظر المقرون بالدهشة، وبالتالي فهو يحرك الذهن نحو التفكير فيه، ومن هنا قال اليونان الأقدمون إن الشعور بالدهشة هو الذي يحفز الإنسان إلى التفكير العلمي أو التفكير الفلسفي، فلو فرضنا أن شعبًا قضى على نفسه أن يوصد أبواب الجديد مكتفيًا بما هو قديم موروث ومألوف، فالراجح ألَّا يعرف شعب كهذا طريقه إلى الإبداع بكل جهاته: في العلم وفي الفلسفة وفي الأدب والفن، وأما «القديم» فله منَّا كل تعظيم وإجلال؛ ولذلك حرصنا على بقائه وإقامة المتاحف التي تعرضه على الأنظار، ليكون مصدر وحي في عملية الإبداع، ولنلحظ هنا تلك العلاقة الوثيقة بين «القدم» والخلود لمبدعات السلف، فحتى لو كشفنا في باطن الأرض عن بقايا إناء من الفخار، لبث حيث احتقرناه بضعة آلاف من السنين، فإننا نعظِّمه ونوقره ونصونه في صندوق زجاجي داخل متحف الآثار. لماذا وهو مجرد إناء قديم من فخار؟ ذلك لأن «القدم» في ذاته يكسب القديم قيمة فنية فيخلد بها، ولا عجب أن نجد رجال الفن حريصين على أن تكون المادة التي يستخدمونها في مبدعاتهم قادرة على مغالبة الدهر، والذي استهدفته من هذا الشرح الذي قدمته، تبيانًا للفرق بين الجديد والقديم في نفس المتلقي، هو أن أوضح ما ينبغي لنا أن نضعه إزاء قديمنا وجديدنا، فللقديم منَّا كل التعظيم وكل الإجلال، من حيث هو باعثنا على الإبداع، وأما الجديد فهو الذي من شأنه أن يكون موضع تفكيرنا العلمي، أو تأملنا الفلسفي؛ لأن القديم قد استنفد أغراضه مع أصحابه السالفين، علمًا وفلسفةً.
عندما طلب الأمير من التوحيدي أن يحدد له خصائص الحديث الجيد، وكان ذلك في مستهل الجلسات التي اعتزم الأمير إقامتها في داره، ليتيح الفرصة للصحاب أن يستمعوا إلى علم التوحيدي ومعرفته الواسعة، كان شرط «الجدة» محتومًا، وقد عرضنا فيما أسلفناه أبعادًا مختلفة لتلك الصفة في الحديث الجيد، لكن ذلك الشرط لم يكن عند التوحيدي هو الشرط الوحيد، بل أضاف شروطًا أخرى في غضون حديثه، يلفت النظر منها قوله: «الحديث معشوق الحس بمعونة العقل.» وهو قول يستحق منَّا وقفة متأملة، فأما أنه معشوق الحس فأمر واضح؛ لأنه إذا لم يكن الحديث لافتًا للأسماع، فما جدواه؟ إذا حدثنا محدث فكان في حديثه ثقيل الدم كثيف الظل، وصممنا عنه آذاننا، فقد سددنا عليه الطريق إلى عقولنا، وذهبت كلماته لغوًا فارغًا، لكن الذي يحتاج إلى بعض الشرح والتوضيح في عبارة التوحيدي، فهو قوله «بمعونة العقل»، فماذا يصنع «العقل» في الحديث الجيد؟
العقل في أخص خصائصه، وهي الخصائص التي من أجلها أطلقت عليه لغتنا العربية اسم «العقل» أي «القيد» الذي يقيد خطواته ويحكمها، لنضمن به الوصول إلى غاية منشودة، أقول إن «العقل» في أخص خصائصه هو «ترتيب» المقدمات مع النتائج التي تتولد عنها، وأرجوك أن تتمهل في قراءتك لكلمة «ترتيب» هنا؛ لأن فيها لب العقل وصميمه، فالكلام، «اللامعقول» هو الذي لا يلتزم ترتيب اللاحق مع السابق في سياق الحديث، وأظن القارئ على علم بما كان يسمى بأدب اللامعقول، وكان من أمثلته مسرحية «يا طالع الشجرة» للأستاذ توفيق الحكيم، فهو أدب جاء في عصرنا ليصوِّر ما أصيب به الناس في عصرنا من انسداد في طريق التفاهم، فالناطقون باسم هذا الشعب أو ذاك — في هيئة الأمم المتحدثة مثلًا — إنما يتكلم الواحد منهم، وكأنه يخاطب الهواء؛ لأن أحدًا من الشعوب الأخرى لا يعنيه أن يسمعه السمع الذي يتأثر به.
مرة أخرى أقول إن شرط «العقل» الذي يشترطه التوحيدي في الحديث الجيد والنافع، معناه أن تجيء الأجزاء مرتبة على نحو يكون فيه الجزء اللاحق قائمًا على بينات وردت في الأجزاء السابقة، ومثل هذا التسلسل مؤدٍّ حتمًا إلى نتيجة يخرج بها السامع، إما أن يأخذ بها، وإما أن يعترض عليها، بأن يبين للمتكلم أين يقع موضع الخطأ في التسلسل المذكور.
ذلك هو جانب «العقل» في الحديث الجيد، مذاعًا لتسمعه الأذن، أو منشورًا على الورق لتطالعه العين، ولا كذلك تكون الحال فيمن يتحدث حديثًا يشبع به وجدانه، فها هنا لا يطلب من المتكلم أو الكاتب مثل ذلك الترتيب، بل يكون المطلوب ترتيبًا آخر مؤداه أن يتأثر شعور المتلقي بالأثر الذي يراد له أن يتأثر به، ومن هذا القبيل يكون الشعر — مثلًا — فلسنا نطالب الشاعر بأن يرتب أفكاره مقدمات تتلوها نتائج، بل نترك له حرية الترتيب الذي يراه كفيلًا بإحداث الأثر المطلوب، وغاية ما يجوز اشتراطه في هذه الحالة هو أن يراعي الشاعر — أو الفنان في أي فرع من فروع الفن والأدب — أن تجيء الأجزاء متصلًا بعضها ببعض، على نحو ما تتصل أعضاء الكائن الحي، وذلك لكي تتاح الفرصة بأن يتجمع الأثر في بؤرة واحدة، فيبلغ في التأثير أقصى مداه.
لقد استطرد بنا الحديث حتى لأخشى أن نكون قد بعدنا عن قلبه إلى أطرافه، فقلب الموضوع الذي نعرضه هو أن نروِّج لما هو جديد، مستندين في هذا الترويج إلى قطعة حية من التراث، ومستندين فيه كذلك إلى دلالات اللغة العربية ذاتها، حين جمعت في كلمة «حديث» المعنيين معًا: الألفاظ التي نتحدث بها، والجديد الذي لا بد لتلك الألفاظ أن تحمله إلى المتلقي، وإلا فقدت قيمتها، فقد سُئل أعرابي: أتمل الحديث؟ فأجاب بذكاء قائلًا: إنما يُمَلُّ العتيق. فكأنما أدرك الأعرابي المسئول ازدواجية المعنى لكلمة «حديث»، فإذا كان السائل قد قصد بسؤاله جانب «الكلام» من معنى كلمة حديث؛ فقد آثر المجيب أن يبرز الجانب الآخر المتروك، وذلك لأهميته وهو جانب «الجدة»، فأجاب بجوابه المذكور، وهو أن الذي يُمَلُّ إنما هو القديم الذي قتله التكرار.
وإني لأقولها في صراحة، ورزقي على الله، وهو أنني في كثير جدًّا مما يذاع أو يُكتَب، في مجال الثقافة والتثقيف، والقيم والتقويم، كأني أشم رائحة العفن، حتى لقد زكمت الأنوف وصدئت النفوس، وحق لنا أن نصيح بالدعوة التي أفصح عنها أبو حيان التوحيدي في حديثه مع الأمير وجلسائه: قال السلف: حادثوا هذه النفوس، فإنها سريعة الدثور. كأنما أراد: أصقلوها، وأجلوا الصدأ عنها.