ندوة في خطاب
جاءني خطاب مثقل بالأسئلة، وكأنه قد شارك في كتابته مجموعة كبرى من السائلين، لكنني حين قرأت ما قدَّم به كاتبه نفسه، أحسست بأن الإجابة عن أسئلته واجبة؛ لأنه طالب علم والتعليم مهنتي ومهمتي، فهو يقدِّم نفسه بقوله: «أنا شاب أبلغ من العمر تسعة وعشرين عامًا، لم تسعفني ظروفي الخاصة في إتمام مرحلة الدراسة الثانوية، ولكنني رغم ذلك أهوى القراءة وأحبها … وهي عندي أحب إليَّ من كل ما عداها في هذه الحياة، وحبي للقراءة، وهوايتي لها، نابعان من اقتناعي بأثرها العميق في تكوين الشخصية وتقويم السلوك، ولو لم يكن للقراءة هذا الأثر، لما كان هناك أمر بالقراءة في قول الله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، والمشكلة التي تحظى بكل اهتمامي وتشغل كل فكري الآن هي أنني لا أعرف ماذا أقرأ؟ ولمن أقرأ؟ وكيف أقرأ؟ ولقد تفضلتم مشكورين بالإجابة على السؤالين الأخيرين من أسئلتي الثلاثة (في مقالكم المنشور بالأهرام بتاريخ ١٥ / ٥ / ١٩٨٣م)، أما سؤالي الأول، فما زلت أتطلع إلى الإجابة عليه، فهل أقرأ ما يتفق مع ميولي واهتماماتي؟ أو أن هنالك ما يجب عليَّ قراءته بغض النظر عن تلك الميول والاهتمامات.»
وبعد هذه المقدمة خصص صاحب الخطاب طلبه، فكتب سبعة أسئلة، تقع موضوعاتها في ميادين مختلفة، راجيًا أن أجيب له عنها، وسألبِّي رجاءَه له ما أستطيع، لكنني أقول له: إن أسئلتك هذه هي التي تحدد لك ما تقرؤه، فابحث عن المصادر التي تحدثك عنها، تكن قد أجبت لنفسك على سؤالك السابق: ماذا أقرأ؟ وبعد، فها هي ذي أسئلته السبعة، سؤالًا سؤالًا، والجواب الموجز عن كل منها. يقول في سؤاله الأول: «هاجم بعض علماء المسلمين القدامى، كالغزالي، الفلسفة والفلاسفة، واتهم علماء آخرون الفلاسفة بالزندقة والإلحاد، فأرجو التوضيح: هل هناك تناقض بين الدين والفلسفة؟ وما هي أوجه الاتفاق وأوجه الاختلاف بينهما؟»
الجواب: لا، ليس هناك تناقض بين الدين والفلسفة، وبيان ذلك في إيجاز هو أن الفكر يكون فلسفيًّا، كلما أراد أن يرد فكرة معينة، أو علمًا معينًا، أو نظمًا اجتماعية معينة، أن يردها إلى جذورها الأولى التي نبتت منها؛ مثال ذلك، أنه إذا كان «التاريخ» يصف الأحداث كما وقعت، بل وربما يرجع بتلك الأحداث إلى أسبابها المباشرة، فإن «فلسفة التاريخ» هي التي تحاول أن ترد الأحداث وأسبابها إلى ما يكمن وراءها من قوى دافعة، فإذا قال ابن خلدون في «المقدمة» المعروفة له ما معناه أن الحضارة الإنسانية تولد وتنمو وتشتد قوتها ثم تهرم وتشيخ وتذبل وتموت، كما هي الحال مع سائر الكائنات الحية؛ فذلك منه يعد فلسفة للتاريخ؛ مثال آخر: إذا كانت «اللغة» هي هذا الذي نتكلمه ونكتبه، ثم تجيء «علوم اللغة» كعلم النحو مثلًا، وهو عبارة عن استخراج القواعد العامة التي على أساسها تتركب المركبات اللغوية، فإن «فلسفة اللغة» هي ما يغوص إلى أعمق من ذلك، لنرى ماذا في الإنسان وفطرته، مما يجعله ذا لغة؟ مثال ثالث: إذا كانت «الأخلاق» هي تلك المعايير التي يراعيها الإنسان في سلوكه، بحيث يجيء ذلك السلوك مما يعده الناس فضيلة، فإن «فلسفة الأخلاق» هي الغوص وراء تلك المعايير ذاتها لنرى كيف كان منشؤها، أو بعبارة أخرى: نسأل من الذي أمر الإنسان بأن يفعل هذا وبألَّا يفعل ذلك؟ وهنا قد تتعدد الإجابات، لكنها جميعًا — على تعددها — تكون مذاهب مختلفة في «فلسفة الأخلاق»، وعلى ضوء هذه الأمثلة التي أوضحت لك بها العمل الفلسفي في بحثه عن الجذور الأولى في أي ميدان يختاره، أنتقل بك إلى الدين والفلسفة وهل بينهما تناقض، فبناءً على ما قدمناه، إذا كانت الفلسفة قد اختارت لفاعليتها الفكرية ميدان «التاريخ» أو «اللغة» أو «الأخلاق» أو «الجمال» أو ما شئت من ميادين العلم والحياة، فعندئذٍ لا يكون لها مساسٌ بالدين، وأما إذا اختارت ميدان الدين نفسه ليكون موضوعها، فمهمتها إنما هي أن تحلل مفاهيم ذلك الدين وعقائده، بالطريقة التي ذكرناها، إلى أن ينتهي بها التحليل إلى الكشف عن الجذور الكامنة وراء تلك المفاهيم والعقائد، وها هنا قد يوفَّق القائم بالتحليل توفيقًا يضعه في أعلى مراتب المؤمنين بذلك الدين، وقد لا يوفَّق، فيصل إلى نتائج يعدها المؤمنون خارجة على روح دينهم.
الفلسفة أشبه شيء بعدسة مكبرة يستخدمها الفيلسوف ليرى ما هنالك في الميدان الفكري الذي يختاره لرؤيته، وبالطبع لا يكون ما بين العدسة والشيء المرئي بها «تناقضًا» حتى إذا كانت لعيب في زجاجها قد أضلت صاحبها عن طريق الصواب، فالذي حدث في حالة كهذه هو خطأ في الرؤية وليس تناقضًا.
ولقد ذكر السائل في سؤاله «الغزالي» في هجومه على الفلسفة والفلاسفة، وأود أن أقول هنا إن الغزالي حين أطلق على كتابه الذي هاجم به الفلاسفة اسم «تهافت الفلاسفة» فإنما كان يرمي إلى فيلسوف واحد بالذات، هو أرسطو كما يتمثل في فلسفة ابن سينا، وأما «الفلسفة» من حيث هي فلا أظنه قد شملها، وحتى لو زعم لنا أنه إنما هاجمها، فنحن لا نصدقه في زعمه هذا؛ لأن الطريقة التي هاجم بها فلسفة أرسطو في ذلك الكتاب، هي هي نفسها فلسفة تنهج نهج الفلسفة أينما ظهرت.
وأما الجزء الأخير من السؤال، وهو الجزء الذي يسأل عن الدين والفلسفة، أين يتفقان وأين يختلفان؟ فجوابه في إيجاز هو ما يلي: إنما يتفقان، أو يتلاقيان، عندما تبحث الفلسفة فيما وراء الطبيعة. فعندئذٍ تكون مسألة الألوهية واردة بالنسبة إلى الدين والفلسفة كليهما، ويختلفان أو قل يستقلان أحدهما عن الآخر، أو لا، حينما ينصب البحث الفلسفي على ميادين أخرى، كالذي تؤديه فلسفة العلم، وفلسفة الجمال، وفلسفة اللغة … إلخ.
وثانيًا هما يختلفان في أن المبادئ التي تُبنى عليها البناءات الفلسفية بشرية وتختلف من فيلسوف إلى فيلسوف، ومن عصر إلى عصر، وأما الوحي الذي ينزل بالدين فهو — عند المؤمنين بذلك الدين — ثابت لا يتغير من فقيه إلى فقيه، ولا من عصر إلى عصر آخر.
السؤال الثاني: ما هي القيمة التي تمثلها الفلسفة في حياتنا العلمية؟ وهل مصر — من حيث هي دولة نامية — في حاجة إلى تدريس الفلسفة لأبنائها، كحاجتها إلى تدريس الطب، مثلًا، أو العلوم العسكرية؟
الجواب: راجع إجابتنا عن السؤال الأول؛ لتزداد تبيانًا للفلسفة ماذا تعمل، فقد أوضحنا أن الفلسفة تحفر تحت الأساس الذي يقام عليه بنيان العلم، التماسًا للجذور التي منها انبثقت شجرة العلم، وذلك الأساس الذي تحفر تحته الفلسفة بحثًا عن الجذور الأولية، يؤخذ في المجال العلمي مأخذ التسليم، فمثلًا يقوم علم الرياضة على أساس «العدد»، أي إن علم الحساب مثلًا يأخذ فكرة العدد مأخذ التسليم، ثم يبني فوقها عملياته من جمع وطرح وضرب وقسمة وغير ذلك من العمليات الرياضية، فتأتي الفلسفة لتسأل: وكيف جاء العدد إلى عقل الإنسان بادئ ذي بدء؟ ثم تأخذ الفلسفة في تحليلاتها إلى أن تصل بنا إلى الأوليات العقلية الأولى التي أنبتت آخر الأمر فكرة العدد، وهنا قد تسأل: وما فائدة ذلك؟ ويكفيني في الإجابة أن أذكرك بما يسمونه اليوم بالرياضيات الحديثة، فبعد أن مضى ما مضى من قرون، وكان تعليم الرياضة على نحو ما ألفناه، أنت وأنا، تنبَّه علماء الرياضة إلى أن تعليم الرياضة لا يجدي في عقل المتعلم كل جدواه، إلا إذا تعلمه عن طريق الأوليات المنطقية الأولى، التي كانت هي الجذور العقلية التي أخرجت فكرة العدد وغيرها من الأفكار الرياضية الأساسية؛ لأننا لو بدأنا تعليم الرياضة من وسط الطريق لم يستطع الدارس أن يعرف الحقيقة كاملة ليفهمها؛ إن الأمر عنده يكون شبيهًا بمن يدخل المسرح والرواية قد انقضى نصفها. ومن الذي نبَّه علماء الرياضة إلى أم الأسس التي كانوا يجعلونها نقط ابتداء في خطوط السير، ليست في حقيقتها نقط ابتداء، بل هي محطة في وسط الطريق. كانت فلسفة الرياضة على أيدي أعلامها في القرن الماضي هي التي كشفت لهم عن المخبوء الذي لم تكن أعينهم تراه، أو قل إن أعينهم لم تكن بها يومئذٍ حاجة إلى أن تراه.
فالعمل الفلسفي يا أخي ليس لهوًا تلهو به جماعة الصبيان، ولكنه تبيين للأصول التي منها تفرَّعت ثقافة الناس التي يحيون في مناخها. خذ — مثلًا — الحياة الدينية في صدر الإسلام، فلم يلبث المسلمون — أعني رجال الفكر منهم — أن أخذهم حب المعرفة لتنكشف لهم مضمونات المفاهيم الدينية الأساسية، فالمسلم «موحد لله» والإنسان العادي «يشهد ألا إله إلا الله»، لكن الفيلسوف المسلم هو الذي يأخذه القلق العقلي حتى يتبين حقيقة المعنى في مفهوم «التوحيد»، فيمضي في تحليلات فكرية، يلتمس بها الجذور والأصول الدفينة في جوف الفكرة، ولك أن تجيب لنفسك عن سؤال يسأل: ما هو الفرق بين الدين الإسلامي حين يُكتفى منه بأفكاره عند أسطحها، والدين الإسلامي بعد أن يكشف فلاسفته عن تلك الخصوبة الغنية، وذلك الثراء الغزير من الأبعاد الفكرية الكامنة في بطون كلماته، فيكون ذلك الفرق هو الفلسفة وجدواها، وهي جدوى تكون الدولة «النامية» أحوج إليها، لتسرع في خطوات نمائها العقلي، ثم تسألني: وهل حاجتنا إلى تدريس الفلسفة لأبنائنا هي كحاجتنا إلى تدريس الطب والعلوم العسكرية؟ وفي هذا السؤال (وأمثاله كثيرة الورود في حياة الناس) مغالطة شديدة الخطر على أصحابها؛ لأن «الحاجات» التي يحتاج إليها الإنسان في حياته ليست «طابورًا» نأخذ من مفرداته الأول فالأول، وإلا سألتك: هل حاجتك إلى عينيك أولى أو حاجتك إلى أذنيك؟ هل ثمار الشجرة أحق بالعناية أو جذورها؟ يا أخي إذا كانت حياتنا العلمية شبيهة بشجرة ذات جذور وجذع وغصون وأوراق وثمر، فليس في وسعك، ولا هو من حقك، كلا ولا هو في صالحك، أن تبحث عن الأجدى من هذه الأجزاء والأجدر بالعناية، فالجذور في باطن الأرض والأوراق والثمر فوق الفروع، كلها أجزاء، لولاها لما كانت الشجرة، وكلها حقيق بالعناية والرعاية في وقت واحد، وهل تدهش إذا زعمت لك أن مصر إنما تخلَّفت عن مكانها في مواضع الزعامة الحضارية للعالم، «ولقد استمر لها هذا الامتياز إلى القرن الخامس عشر»، أقول إن مصر تخلفت عن مكانها ومكانتها، بحيث أصبحت — كما تقول في سؤالك — دولة «نامية» (أو «نايمة» أو «متخلفة») حين ضاعت منها تلك الروح الفاحصة التي تشمل شجرة الحياة بأسرها، جذورًا وفروعًا وثمارًا.
السؤال الثالث: اللغة العربية — لغة القرآن الكريم — تمر بمحنة خطيرة، تتمثل في تدهور مستواها بين المتكلمين بها من الشعوب العربية، فالعامية تتفشى بصورة خطيرة، حتى بين أساتذة المعاهد والجامعات. فماذا ترى من سبل للنهوض بها؟
الجواب: ليس عندي ما أجيب به أكثر مما عند أي عابر سبيل من أبناء اللغة العربية، فماذا تكون سبل النهوض باللغة غير التعلم ثم الاستعمال كلامًا وقراءةً وكتابةً؟ لكن الذي قد أضيفه، هو «طريقة» تعليم اللغة العربية؛ إذ لا بد أن تدخل في ذلك ثلاثة عوامل لا أراها اليوم قائمة بالقدر الكافي: أولها أن يكون كل درس، في أية مادة من مواد الدراسة، بغير استثناء، درسًا في اللغة العربية كذلك، فدرس التاريخ — مثلًا — درس في التاريخ ولغته، ودرس الكيمياء هو درس في الكيمياء ولغتها، وهلم جرًّا، فيخرج الدارس في نهاية الشوط، ولا فرق عنده بين أية فكرة علمية أو أدبية ولغتها الصحيحة التي يجب أن تجري فيها، والعامل الثاني هو «تذوق» اللغة، وتلك مهمة تقع على دروس اللغة العربية أكثر مما تقع على سواها، فليس اللغة هي مجرد مجموعة من رموز صماء جرداء تقضي للناس شئونهم في دنيا التبادل والتعامل، بل هي كذلك، وفي الوقت نفسه، «فن» فيه تعبير، والتعبير هو «عبور» ما هو في نفس المتكلم لكي يظهر للآخرين نطقًا مسموعًا، أو لفظًا مكتوبًا، بعبارة أخرى، فإن المتكلم أو الكاتب، إنما ينقل روحه من حالة الخفاء إلى حالة العلن، فيما يقوله أو يكتبه، وذلك هو المقصود حين يقال إن الإنسان هو أسلوبه: فبمقدار ما يوحي مدرس اللغة العربية إلى تلاميذه بهذا التوحد الذاتي بين الإنسان ولغته، يكون حرص هؤلاء التلاميذ في حياتهم المقبلة على أن يصونوا لغتهم من التفاهة والركاكة والضعف. وأما العامل الثالث، فهو مكانة اللغة في انتماء المواطن إلى وطنه، فالعجيب الذي يلفت النظر أن الإنسان العادي، الذي لا يرتفع إلى قراءة الأدب الرفيع وتذوقه، يأخذه الغضب إذا قيل له مثلًا إن المتنبي أو أبا العلاء المعري ليس من أسلافنا الذين نعتز بالانتساب إليهم، فذلك الإنسان العادي يشعر بالعزة كلما قوي السلف الذي ينتمي إليه، وعلى رأس ذلك السلف هم سادة الكلمة. ومرة أخرى أقول إن مدرس اللغة العربية إذا استطاع أن يبث هذه الروح في تلاميذه، فإن هؤلاء التلاميذ سيكونون بعد ذلك ومن تلقاء أنفسهم، حريصين على ما بين أيديهم من كنوز.
السؤال الرابع: لماذا لا تكتب في قضايا الوطن، ومشاكله السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟
الجواب: لو جاز لي أن أكون ذا رأي فيما أكتبه، لقلت إنني بذلت جهدًا لا يعرف قدره ومقداره إلا ربي وأنا، وكان ذلك الجهد متجهًا نحو خلق إنسان جديد، وأحسب أن لو تحقق لنا شيء من صورة ذلك الإنسان العصري الذي يحتفظ مع عصريته بهويته، تحقق لنا بالتالي من يحسنون معالجة القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعلى هذا الأساس أعتذر عن عدم الإجابة عن السؤالين الخامس والسادس؛ لأنهما يتناولان قضايا من تلك التي يجب أن يُترَك الحديث فيها لأربابها العالمين بشئونها.
السؤال السابع: كتبت في مقالك المعنون «سؤال عن الثقافة وجوابه» تقول: إن الثقافة هي مجموعة من القيم السلوكية والفنية والذوقية، وهي التي توجِّه الإنسان في اتجاه سيره، وفي ردود أفعاله، فليست الثقافة محصولًا معينًا من المعارف والمعلومات، بدليل أن ما يعرفه مثقف هنا قد لا يعرفه مثقف هناك، بل هي الزهرة التي تخرجها تلك المعلومات والمعارف، ثم ذكرت أن للثقافة مصادر ثلاثة، هي الدين والأدب والفن.
ولقد أفهم أن للدين أثرًا في تشكيل وجهات النظر عند الناس، ولكني لا أفهم كيف يكون للأدب، شعره ونثره، وللفن بمختلف فروعه، أثر في تشكيل وجهات النظر، فهل تتكرمون بمزيد من الإيضاح؟
الجواب: تسألني عن الفن والأدب كيف يشكلان سلوك المتلقي، فأقول: أما الفن بمختلف أنواعه، الموسيقى، والتصوير، والنحت، والعمارة، فمهما اختلفت المذاهب في تحديد الصفة المشتركة بين تلك الأنواع، والتي أتاحت للعقل أن يجمعها جميعًا تحت اسم واحد، هو «الفن»، فلا بد أن تتفق تلك المذاهب على أن الإبداع في الفن — كائنًا ما كان نوعه — يخرج في القطعة المبدعة تركيبًا تترابط أجزاؤه بنسب معينة، يمكن تقنينها، ويكون الأساس فيها هو أنها نسب من شأنها أن تُحدث في نفس المتلقي حالة نفسية مقصودة، أراد الفنان أن يُحدثها، فضلًا عن أن تلك النسب بين أجزاء القطعة المبدعة، هي نفسها التي نطلق عليها اسم «الشكل» (أي الفورم) الذي بغيره لا يكون الفن فنًّا، فمثلًا: هل يمكن أن تستمع إلى موسيقى حربية دون أن تشعر بانفعال الحماسة التي تدفعك إلى الرغبة في المشاركة في القتال؟ هل يمكن أن تتأمل صورة جرونيكا للمصور بيكاسو دون أن يأخذك الهلع من ويلات الحروب؟ هل يمكن أن تمعن في تمثال نهضة مصر للمثَّال محمود مختار دون أن تأخذك العزة بالانتساب إلى مصر، التي حاضرها يتمثل في الريفية التي اعتدلت قامتها وشمخت بأنفها وألقت بنظرها إلى الأفق البعيد، وماضيها الذي يتمثل في أسد رابض؛ ينتظر من تلك الريفية أن تمسه بأصابعها ليأخذ في النهوض، مستعيدًا كل ما يرمز له من مجد مصر على مر العصور؟ هل يمكن أن تنظر إلى فن العمارة فيما بقي لنا من معبد الكرنك، دون أن تحس وكأنك تنتفخ من كبرياء لتتكافأ حجمًا وعظمةً مع تلك العمد الرواسخ الشوامخ؟ إنه لمحال على إنسان يتأمل قطعة فنية، دون أن تسري في عروقه تلك الروح التي أراد لها الفنان أن تسري، ومن توالي النظر إلى مبدعات الفن تتكون عند الناظر رؤية معينة ينظر بها فيما بعد إلى مواقف الحياة العملية. لقد كان أفلاطون في «الجمهورية» قد حرَّم الفنون، على اعتبار أنها محاكاة لكائنات هي نفسها محاكاة بدورها للنماذج العقلية الأزلية، فلماذا نشغل الناس بمحاكاة لمحاكاة؟ لكنه استثنى الموسيقى، واشترط أن تدخل في مقررات الدراسة كلها؛ لأنها بما فيها من نسب متناغمة، لا بد أن تخلق في المتلقي ذوقًا فيه ذلك التهذيب والاتساق والتناغم؛ وما قد ظنه أفلاطون بالموسيقى وأثرها في سلوك الإنسان، يمكن أن يمد ليشمل كل ضروب الفن؛ لأنها ليست في جوهرها «محاكاة» كما توهم عنها أفلاطون، بل هي في جوهرها بناءات تتسم بالتناغم الموسيقي.
وأما عن الأدب، فالأمر فيه بالنسبة إلى تشكيله لسلوك الإنسان المتلقي، واضح؛ إذ ماذا يكون الأدب بصنوفه كافة: الشعر، والرواية، والمسرحية، والمقالة الأدبية، إلا أن يكون انعكاسات للتفاعلات البشرية؟ إنك تقرأ ديوان المتنبي — مثلًا — فتنظر إلى الدنيا نظرة ذلك الشاعر في كبريائه واعتداده بنفسه، وتقرأ شعر أبي العلاء المعري، فتنظر إلى الحياة من أعلى لترى تفاهتها وعظمتها معًا، كما فعل أبو العلاء؛ وتقرأ رواية نجيب محفوظ في الثلاثية — مثلًا — فترى مصر أمامك وهي في إحدى مراحل تاريخها، وترى «المصري» في أخص خصائصه السلوكية والوجدانية، وحين ترى ذلك فأنت لا تراه وصفًا مجردًا، بل تراه تفاعلًا حيًّا بين مجموعة مصرية برجالها ونسائها وأطفالها وهمومها وأفراحها وأحزانها وشواغلها، فيكاد يستحيل ألا تخرج من ذلك كله بحالة شعورية معينة فيها الرضا وفيها السخط معًا، الرضا عن بعض جوانب حياتنا والسخط على بعضها الآخر، فهل يمكن أن تعايش تلك الحالة الشعورية الراضية الساخطة دون أن تتكيف لها ولو إلى حد محدود؟ لقد رأيت أنا في أكثر من مناسبة، زوجات يرين وكأن أزواجهن لا يزالون يحيون على غرار النمط «الرجالي» الذي رأينا صورته في شخصية «السيد عبد الجواد» وهو يتطلب من زوجته ما يتطلبه السيد من أمَة اشتراها بماله، والزوجة قد رُبِّيت على أن تسعد بحياة الرقيق تلك، أقول إني رأيت في أكثر من مناسبة زوجات يرين في أزواجهن بوادر تلك النزعة فيكتفين بقولهن ساخرات: «حاضر يا س السيد»، على نحو ما كانت تقول زوجة السيد عبد الجواد في رواية نجيب محفوظ، وكان الزوج في كل حالة من الحالات التي شهدتها يستحيي من نفسه ويخجل من سلوكه، فماذا يعني هذا التحول إلا أنه من تأثير الأدب وتصويره للتفاعل البشري ولأنماط رد الفعل كما هي واقعة، فنرضى نحن أو نسخط، فينتج التعديل الاجتماعي نتيجة قريبة أو بعيدة لذلك الشعور بالسخط على أنفسنا أو الرضا؟